حركة متمرّدة جديدة بقيادة عضو سابق في المجلس التشريعي الوطني    الأهلي يكسب الفجر بهدف في ديربي الأبيض    عملية اختطاف خطيرة في السودان    بالصورة.. الممثل السوداني ومقدم برنامج المقالب "زول سغيل" ينفي شائعة زواجه من إحدى ضحياه: (زواجي ما عندي علاقة بشيخ الدمازين وكلنا موحدين وعارفين الكلام دا)    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    الهلال السعودي يتعادل مع ريال مدريد بهدف لكلٍ في كأس العالم للأندية    تقرير أممي: الجيش مسؤول عن الجرائم وتدهور الوضع الإنساني في السودان    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    مانشستر سيتي يستهل مونديال الأندية بالفوز على الوداد المغربي بهدفين دون مقابل    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    أمام الريال.. الهلال يحلم بالضربة الأولى    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    كامل إدريس يؤكد عمق ومتانة العلاقات الثنائية بين السودان والكويت    كامل إدريس ابن المنظمات الدولية لايريد أن تتلطخ أطراف بدلته الأنيقة بطين قواعد الإسلاميين    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    ترامب: "نعرف بالتحديد" أين يختبئ خامنئي لكن لن "نقضي عليه" في الوقت الحالي    عَوض (طَارَة) قَبل أن يَصبح الاسم واقِعا    إنشاء حساب واتساب بدون فيسبوك أو انستجرام.. خطوات    عودة الحياة لاستاد عطبرة    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    تدهور غير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    ايران تطاطىء الرأس بصورة مهينة وتتلقى الضربات من اسرائيل بلا رد    خطأ شائع أثناء الاستحمام قد يهدد حياتك    خدعة بسيطة للنوم السريع… والسر في القدم    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة وطنية سودانية أم حركات وطنية .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 06 - 02 - 2014

حركة وطنية سودانية أم حركات وطنية: تاريخ ما أهمله التاريخ عن جنوب السودان (1)
عبد الله علي إبراهيم
(أنشر على حلقات هذا المقال الذي سبق لمركز الدوحة للأبحاث ودراسة السياسات تضمينه في كتابه "جنوب السودان الفرص والمخاطر" (2012). واعيد نشره قريباً في سلسلة كاتب الشونة. وجردت المقال هنا من هوامشه المرجعية لطبيعة هذا المنبر. ولكني سأنشر في نهاية الحلقات المراجع التي اعتمدت عليها. ومن طلب دقائق الهوامش رجع إلى المقال في بيئته الأصل)
أجور "الزنج" ومسألة الجنوب
ظل السودانيون الجنوبيون يسمون الشماليين "أولاد الزبير باشا" بإطلاق. والزبير، من أهالي مدينة الجيلي شمال الخرطوم، هو تاجر الرقيق الشهير الذي اشتغل بالنخاسة في إقليم بحر الغزال بجنوب السودان في القرن التاسع عشر. وبلغ من ذيوع النعت ونفاذه حتى ساءت عموميته عبد الخالق محجوب، زعيم الحزب الشيوعي (1927-1971). وقال في خطاب له أمام مؤتمر المائدة المستديرة، الذي انعقد في أوائل 1965 بعد ثورة أكتوبر 1964 لمناقشة مسألة الجنوب، إنه لا رغبة له، وهو الشمالي، في دفن رأسه في الرمال هرباً من ماضي قبيله وذكّر شانيء الشمال بجريرة الزبير بأنه قد نهض بينهم حزب شيوعي يضع مصلحة السودانيين نصب عينه. أراد عبد الخالق بذكره أن الشماليين الآن هم أبناء زمنهم للقول بأن الأخاء القومي بين أولاد الزبير باشا وأبناء حقول نخاستهم التاريخية ليس من سابع المستحيلات.ونقف لنسأل: هل كان هذا التفاؤل الشيوعي بالإلفة العرقية مجرد حمية بلاغية؟ وإذا لم يكن كذلك فما حيثيات عبد الخالق، "العقل المدبر" من وراء الحزب الشيوعي على صدق قوله؟.
أريد في هذه المقالة فحص ممارسة الحزب الشيوعي للنظر في صدق أريحية سكرتيره في مؤتمر المائدة المستديرة. وسيلقي المقال الضوء على ممارسة الحزب الشيوعي والطبقة العاملة، التي كان له نفوذ مميز في وسطها من أربعين القرن الماضي حتى ستينه، لإنهاء فارق الأجور في البلاد. فبمقتضى هذا الفارق كانت أجور الجنوبيين أقل من تلك التي يحصل عليها الشماليون مما استنه الإنجليز الذين حكموا السودان بين 1898 إلى 1956.
قلّ أن لفت الحزب الشيوعي في السودان دارسيّ الجذرية الأفريقية وأزمة البلد المتطاولة خاصة. فقد حدس هؤلاء الباحثون أن السودان كان مسرحاً لشغل ثوري تقع الفائدة بالتعلم منه إلا أنهم لم يجعلوا تلك التجربة موضعاً لدراساتهم. فالحزب، الذي نشر أدبه السياسي الكثير في العربية، محجوب عن هؤلاء الدارسين الكاتبين يالإنجليزية وغيرها. غير أنه علق بهم من تلك التجربة شيء أنبأهم أن في تجارب شيوعيّ السودان المخنلفة مفتاح لفهم أطيب للتجربة الجذرية الأفريقية. فبن تيركوك، الأكاديمي والبرلماني عن المؤتمر الوطني الأفريقي في برلمان جنوب أفريقيا، وحده أشار إلى قيمة تلك التجارب مرتين في 1966 و1987. ففي 1966 اعترف تيركوك بأن جهله باللغة العربية حجبه من دراسة تجربة الحزب الشيوعي االسوداني في تعاطي الماركسية وتطبيقها على واقعه كما لم يقع لأفارقة غيره سوى حزب جنوب أفريقيا الشيوعي. ولقد خلص من مجرد قراءة عابرة لنشرة واحدة للحزب بالإنجليزية وكتابات لماماً إلى أن للحزب مهارة غير عادية أو مسبوقة في عداء العسكرتاريا والتحالف معهم في نفس الوقت وخروجه "صاغ سليم" من كل ذلك. وعاد تيركوك في 1987 ليصف بالبراقماتية والمبدئية معاً تكتيكات الحزب في إقامة علاقة استراتيجية بين الصراع للديمقراطية والصراع للاشتراكية خلافاً لغيره في كثير من البلدان الأفريقية.
مما افسد فهم سياسات العرق (وسياسات المستضعفين السودانيين عامة) أن الوطنية العمالية والشيوعية لا ترد في تحليل تلك السياسات التي طغى المجاز العربي والإسلامي في فهمها. وقد نبه إلى خطل الاقتصار على ذلك المجاز في فهم سياسة العرق في السودان كل من مارتن دالي، المؤرخ الأمريكي للسودان، والدكتور أحمد العوض سكينجا ذو الاختصاص الدقيق في تاريخ الحركة العمالية التي نشأ في قلبها النابض: مدينة عطبرة، مركز نقابة عمال السكة الحديد. فانتقد دالي اقتصار تداول المسألة العرقية على صفوة الحكم والرأي. ففي تعليق له خاتم لمدالاوت حول مأزق السودان جرت في واشنطون في 1987 ورعاها مركز ودرو ويلسون كتب المؤرخ عن خيبة أمله ألا يكون بين المنتدين ممثل لعامة العمال والحركة النقابية. فالمنتدون كانوا سيفيدون من رأي مستمد من خبرة الطبقة العاملة متى ناقشوا المسائل المتصلة بالتطور الاقتصادي والاجتماعي. أما سكينجا فقال إن فهم تاريخ السودان ناقص طالما استبعدنا منه الرواية الشيوعية. ونبه إلى أن العلاقة بين الحزب الشيوعي والحركة العمالية تثير مسائل غاية في الأهمية: "فهي في المقام الأول تٌكَذِب النعرة المتأصلة التي ترى أنه لا يمكن لنا فهم النزاع في مجتمع مسلم إلا بمنظار الدين".
سأدلي هنا، وبصورة موجزة، ببيانات إحصائية إنتخابية عن نفوذ الحزب الشيوعي وبخاصة في المدن حتى لا يطرأ لأحد أن الحزب، الذي هو موضوع حديثنا، طرفي في سياسة السودان. حصل الحزب في إنتخابات 1965 للجمعية التأسيسية على 20516 صوتاً من مجمل 82876 صوتاً في مديرية الخرطوم. وضايق عبد الخالق السيد إسماعيل الأزهري، الزعيم الوطني وأول رئيس وزراء للسودان المستقل، في دائرة أم درمان الجنوبية بمديرية الخرطوم وقاربه في الأصوات. ثم ما عتم أن فاز بها في انتخابات 1986 وقد أقصى منافساً عريقاً في حزب الأزهري. وفاز الحزب في انتخابات 1965 بأثنتي عشر مقعداً من الدوائر الخاصة بالخريجين الجامعيين والثانويين من جملة خمسة عشر مقعداً. وقد تم طرد هؤلاء النواب من البرلمان في آخر عام 1965 بقرار برلماني من تحالف إسلامي تداعى لوقف النفوذ المتعاظم للحزب بعد ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت بنظام الفريق عبود (1958-1964). وتميز الحزب في مقاومة نظام الفريق واستقطب الأفئدة. ومن سخرية القدر أن الحزب الذي جرى حله وقاية للشعب المسلم فاز بدائرة بالخرطوم في إنتخابات تكميلية جرت في 1966 صدف أنها كانت الدائرة التي يقع فيها مبنى البرلمان نفسه. ولم يقتصر الفوز على عبد الخالق في انتخابات 1968 حيث فاز الحاج عبد الرحمن، نائب سكرتير اتحاد نقابات عمال السودان وعضو مركزية الشيوعي، بدائرة عطبرة. أما في انتخابات 1986 فقد فاز من قائمة الشيوعيين كل من محمد إبراهيم نقد، سكرتير الحزب الذي تولى المسئولية بعد إعدام عبد الخالق بعد هزيمة انقلاب يوليو 1971 الذي أتهم الشيوعيون بالضلوع فيه، في دائرة بالخرطوم. وكذلك فاز عزالدين على عامر، عضو مركزية الحزب، بدائرة أخرى في مدينة الخرطوم. وفاز عضوان آخران بالحزب كمستقلين في دوائر ريفية.
كان الحزب الشيوعي وطيد العلاقة بالعمال بما غمض على أدب الجذرية الأفريقية. ونعى الباحث الإنجليزي بيتر كروس حال الباحثين في تاريخ الطبقة العاملة السودانية. وقال إن الإهمال في دراسة ذلك التاريخ "غير مبرر" لأن تلك الطبقة حصلت على حق التنظيم النقابي باكراً واستخدمته بفعالية. وزاد بأن ممارسة الحزب الشيوعي ستستعصي على الفهم بغير الإشارة إلى نشاطه القاعدي بين جمهرة تلك الطبقة التي لعبت دوراً مهماً في الحركة الوطنية السودانية.
يمكن لدقائق فوارق الأجور بين العمال الشماليين والجنوبيين أن تنتظر باحثاً أفضل مني. وسأكتفي هنا برسم خطوط عريضة لها ليفهم القاريء إجمالاً سياسات ذلك الظلم الذي وقع على المستخدمين الجنوبيين. فقد جرى تحديد أجر العامل الجنوبي بعامة بالنظر إلى عامل شمالي أقل منه خبرة ثم يٌنقَص المقدار بعد ذلك درجات. وحاول الإنجليز في 1950 لأول مرة استنباط تقويم وظيفي لمستخدمي المستعمرة وربط لنظم مرتبات الجنوبيين بنظائرها في الشمال. وصدر التقرير في 1951 واشتهر بتقرير ويكفيلد وهو اسم الأنجليزي الذي كان على رأس لجنة التقويم. ووجد التقويم الرابط في المماثلة بين الصنائعي الجنوبي الجيد المحلي (الذي لا يجري نقله من موضع إلى آخر) وبين الصنائعي الشمالي من الدرجة الثانية. واتفق للإنجليز أن العاملين، الجنوبي والشمالي، سواء من حيث الخبرة وأوجه انفاقهما على أسرتيهما. وعليه جعل الإنجليز مرتب العامل الجنوبي الموصوف مقدار 75% من أجر الشمالي الموصوف. (تقرير ويكفيلد 1951، 23) . من الجهة الأخرى جعل الإنجليز للصنائعي الجنوبي في مصلحة أشغال أعالي النيل، المديرية الجنوبية، أجراً أقل 15% من أجر صنوه في الشمال. وتذرعوا لذلك بفارق غلاء المعيشة بين الخرطوم وأعالي النيل.
ولم يكن حظ مستخدمي مشروعات الإستوائية بغربي مديرية الإستوائية بالجنوب (عٌرفت بمشروع الزاندي وهم سكان أقصى جنوب غربي السودان) أسعد. أقام الإنجليز هذه المشروعات، التي ستكون موضوع نظرنا اللاحق في هذه الورقة، في آخر الأربعينات لتدارك تنمية الجنوب التي طال تغاضيهم عنها. ولكن نجدها من جهة الأجور فيه لم تبلغ ما بلغته ولايات جنوبية أخرى هي بحر الغزال وأعالي النيل. وهذا النقص ثمرة عمل لجنة ويكفيلد التي عينها الإنجليز في 1950 لوضع هيكل الأجور للموظفين خارج الهئية (ويعنون بها طائفة الموظفين وكبار العمال من لهم معاش خلافاً للعمال الذين يحصلون على مكفأة في آخر خدمتهم). وقسَّمت اللجنة الجنوب إلى ثلاثة أقاليم أجورية. ووسموا الإستوائية إقليماً على حدة بالحرف "أ" وقدروا الأجور فيه بحسب نقاط غلاء المعيشة في مدنه وهي يامبيو ومريدي. وانتهوا إلى تقرير أجر للعامل في الإستوائية هو الأدنى (من ألفي وستمائة وخمسين مليماً مصرياً إلى ثمانية آلاف وأربعمائة مليماً مصرياً) قياساً ببحر الغزال (تراوحت بين ثلاثة ألف ومائة مليماً مصرياً إلى ثمانية الف وسبعمائة وخمسين مليماً) وأعالي النيل (أربعة آلآف ومائتي وخمسين مليماً مصرياً إلى تسعة آلآف وستمائة مليماً).
فارق الأجور بين الشمال والجنوب إرث استعماري. ومنشأه في نظرة الإنجليز إلى اهل السودان كشعب من عرقين: العرب المسلمون في الشمال الذين فازوا بقصب السبق في التنمية الاستعمارية ومشروعاتها والجنوبيون الزنج الوثنيون ممن فاتهم قطار تلك التنمية. وحرص الإنجليز على حجب الجنوب عن الشمال وقطع الآصرة بينهما حتى لا يعديهم باللغة العربية والإسلام. ونجم عن هذه السياسة العرقية ما عرف ب سياسة "المناطق المقفولة" التي طبقها الإنجليز في النصف الأول من القرن العشرين وشملت حتى جبال النوبة في مديرية كردفان وأجزاء من دارفور والنيل الأزرق المتاخمة للجنوب. وأدار الإنجليز تلك المناطق بمعزل عن الشمال. ولتمكين تلك السياسة أطلق الإنجليز يد التبشير المسيحي ليحََوِل الناس عن دينهم ويٌعنى بتعليمهم كله وعلاجهم. وبالطبع استثارت تلك السياسة الحركة الوطنية الشمالية وصدر عنها "مآسي الإنجليز في السودان" (1946 ) الذي جمع فأوعى عن عيوب تلك السياسة. بل صدر عنها "جنوب السودان: الثمرة المحرمة" (؟ 1948) الذي أفاض عن تلك السياسة التي اقتطعت بعض الوطن عن بنيه.
نظام الاجور موضوع نظرنا، الذي تأذى منه الجنوبيون، ثمرة معارف استعمارية وغربية شتى. تناصرت فيها نظريات عرقية وأخرى في إدارة الأعمال لتحديد أجور الجنوبيين على نحو ما رأينا. فتباين الأجور،من زاوية العنصرية الغربية البيضاء، محصلة ل "بطرياركية" استعمارية تقرن بين "النقود والأخلاق".فقد قر عميقاً في وعي البيض أن البدائيين لا يحسنون للمال عدلاً ولا صرفاً. فالمستعمرون افترضوا في أنفسهم مسؤولية إرشاد الأهالي- الزنج، ممن لم يشبوا عن الطوق بعد، سَواء السبيل طالما صاروا أوصياء عليهم. فالنقود شر في نظر البطرياركي الاستعماري. ومتي استكثر الزنج منها غووا وأفسدوا بعيدا. ولذا وجدنا الإنجليز يقللون من أجور الزاندي في مشروعهم لتداركهم من الفساد متى ما امتلأت أيديهم بنقود درّها عليهم المشروع لم تكن في حسبانهم يوماً. كان رأي الأوربيين أن الزنج لا يحسنون التعاطي مع النقود. ومن رأي كولنز أن بؤس التعامل مع النقود فاش حتى بين الصفوة الغربية. واعترافاً منهم بذلك فهم يستأجرون ناصحاً استثمارياً ليدلهم سواء السبيل. فدراية الزنج بالمال لا معقب عليها ولا وصي. فإن هم انفقوه على شيء "سخيف" فهذا رأي الأوربي في ذلك الشيء لا أكثر ولا أقل.
ولم تتأخر الإرساليات التبشيرية في الإدلاء بدلوها في هذا الخطاب العنصري. فقد استكن في الذهن التبشيري أيضاً سوء الظن بأهلية الزنج في التصرف في النقود. فكان التبشير في جنوب السودان مناصراً قوياً لخفض أجور الجنوبيين لأن تعاليم دينهم ما فرطت من شيء في بيان الخطيئة التي يستولدها المال. وللمسألة وجهها الآخر كذلك. فلم يكن التبشير في سعة من المال وأراد أن يؤمن عمالة ماهرة رخيصة في السوق يدفع لها الكفاف. ووضع كولنز يده هنا على مفارقة ثقافية لامعة. فقال إنه من المروع ألا يقف الإداريون والمبشرون على التناقض بالغ النفاق بين دعواهم لحرية التجارة في العلاقات الاقتصادية إجمالاً وكونهم قيمين، كمستعمرين ووصاة ثقافيين، على دولة شمولية يقيدون فيه علاقة السوق في الجنوب خاصة تقييدا. فلو كانوا دعاة مستحقين لحرية التجارة لتركوا الجنوبي السوداني يقرر كيف ينفق نقوده حيث شاء. فمن حقه شراء قميص أوربي أبيض وقبعة يورثانه البؤس أو علبة سجائر أو أن يبقي هانئاً تحت ظل شجرة مانقو يجترع المريسة ويرتدي حقواً حول وسطه.
من جهة ثالثة جاءت نظريات الدبارة المالية الغربية لتمكن للمعيار العرقي الاستعماري في تحديد الأجور وتٌعَقلِنه. واتخذت هذه العقلنة مما هو مشاهد في مجال المال والأعمال شكلين:
1-من بين النظرتين المتبعتين في تحديد الأجور تبنى تقرير ويكفيلد تلك التي ترى ألا بأس في أن تكون الأجور متفاوتة في المناطق المختلفة على غرار نيل العمل المختلف أجوراً متفاوتة. فواضح أن التقرير ناقض لمبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي. وله في ذلك منطق. قال إن التزامك بدفع أجور متساوية حقيقية في المناطق قاطبة بغير اعتبار للفروق الاقتصادية بينها يضر بالمناطق الأضعف من حيث أردت نفعها. فمتى حددت الأجور بصورة مرتفعة عن إنتاجية العامل في تلك المنطقة الخالفة سيضطر أصحاب العمل للاقتصاد في استئجار العمال مما يفتح الباب للبطالة. وانتقد التقرير بشدة النظرية القائلة بوجوب رفع أجور العمال في المناطق الخالفة عمداً إلى مستوى أجور العمال في المناطق الأكثر تقدماً. فمفاد هذه النظرية أن العامل متى قبض أجراً مرتفعاً تغذى جيداً وصار بوسعه أن يعمل بكثافة أكثر وسيزداد معدل إنتاجه مما يبرر استحقاقه ذلك الأجر العالي. ولكن التقرير شكك في ذلك المنطق وقال إن العامل ربما أسرف وصرف أجره العالي في شراء كماليات لا لزوم لها. واتفق أكثر عنصريّ الأجور أن الخمر هي الكمالية التي سيضيع العامل الجنوبي ماله في طلبها متى حصل على الأجر العالي الذي لا يتفق وإنتاجيته. ويمضي التقرير قائلاً إن ذلك الأجر المسرف سينتهي بالعامل إلى الدعة لأنه سيعمل لساعات أقل طالما حصل على كل النقود التي يرغب فيها لتقيم أوده بغير عسر. فترفيع الأجر، في قول التقرير، وضع للعربة قبل الحصان لأن الزيادة في الأجر ينبغي أن تكون بطيئة وأن تأخذ الحذاء مع زيادة إنتاجية العمل. ولكن أن تسبق الأجور الإنتاجية فلا وألف لا.
لم تكن فوارق الأجور سياسة سديدة وصادمت عاملين. أولهما حقيقة أن الحكومة هي المخدم الأكبر في البلد ولا يصح أن يراها الناس تفرق بين رعاياها في الأجر. وثانيهما أن هذا التمييز في الأجور مما لا يمكن تبريره بالنظر إلى أن الجنوب ظل كماً مهملاً لم يمسه شيء من التنمية لعقود طويلة. من جهة أخرى لا يدري المرء إن كان الاقتصاد أو الثقافة هما ما أملى سياسة تباين الأجور على الإنجليز. فإذا كانت الثقافة، والتي أرادت سياسة الجنوب بواسطتها عزل الجنوب عن مؤثرات الشمال، هي التي فرضت تلك الأجور البخسة على الجنوبيين كان حرياً بالإنجليز إبطال فارق الأجر بين شقي السودان طالما هجروا تلك السياسة في الأربعينات وسعوا لتوحيد البلاد. فمتى فعلوا ذلك ضربوا بعامل الاقتصاد، الذي أملى على تقرير ويكفيلد أن يبخس الجنوبيين أجرهم، عرض الحائط. فقد أرخى فارق الأجور بظله الصعب على السودان المستقل كما سنرى.
2-وأطل مبدأ "أجور الزنج" خلال الفترة التي توافر الإنجليز فيها لتحديد أجور مستخدمي مشروع الزاندي المعروف رسمياً كمشروعات الإستوائية الزراعية. وهو مشروع متكامل لتنمية جماعة الزاندي المار ذكرها والذين هم الجنوبيون الوحيدون من شعب البانتو. واقتصر المشروع على زراعة القطن وقصب السكر وأٌلحقت به مصانع لغزل القطن وصناعة السكر. وكانت بلدة أنزارا هي حاضرة المشروع الصناعية. ولم يكن المشروع في مبتدأ فكرته استثمارياً تجارياً قاصداً الربح بل جرى ترتيبه لعون الزاندي للعيش المٌكتَف وتجديد حياتهم. وأخذ كولنز على المشروع مفارقته غرضه الأول إلى إدرار الربح. فقال إن جى دي توتهل، مدير مصلحة الزراعة، أصر أن يجازي المشروع الزاندي أحسن الجزاء متى اشترى قطنهم ليحفزهم على زراعته مرات أخرى. ولكن الإداريين الإنجليز في الخرطوم عارضوا مبدأ توتهيل ونظروا إليه كدعوة إعاشية يدعم بها المشروع ثمن القطن. وذلك ما ينفي عنه حسن دبارة المال والأعمال. وحدث هذا التحول في وظيفة المشروع الباكرة بعد حل لجنة استشارية من الإداريين المحليين وموظفي المشروع والخبراء كانوا عهدوا إليها العناية بالمغازي الاجتماعية في تنمية الزاندي في مشروعهم. ولما انفصل المشروع عن السياسة المحلية وأمانيها أصبح هيئة بعيدة عن الزاندي محاطة بالسرية لا تكلف نفسها موؤنة شرح نشاطاتها لهم. وبذا خصَّبت الأرض لتفرخ ريب الزاندي في المشروع وليجفونه لتحوله عن تنميتهم إلى طلب الربح باستغلالهم.. وليس أدل على فساد هذا التحول من بيع المشروع لقماش مصنعه للزاندي بأكثر مما يبيعه في الخرطوم بمقدار 20% متذرعاً بقانون السوق.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.