المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    الأمين العام لوزارة الدفاع يطمئن على ترتيبات عودة تشغيل مطار الخرطوم    مبارك الفاضل يهاجم مجدّدًا ويطالب قيادة الجيش بقبول"خطّة الحلّ"    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    شاهد.. الفنانة إيمان الشريف تفاجئ جمهورها وتطرح فيديو كليب أغنيتها الجديدة والترند "منعوني ديارك" بتوزيع موسيقي جديد ومدهش    مصر .. السماح لحاملى التأشيرة الخماسية بالإقامة 180 يوما بالمرة الواحدة    التغير المناخي تسبب في وفاة أكثر من 15 ألف شخص بأوروبا هذا الصيف    إبراهيم نصرالدين (درمي).. صخرة دفاع أهلي الكنوز وطمأنينة المدرجات    والي ولاية كسلا يشهد ختام دورة فقداء النادي الاهلي كسلا    بعثة نادي الزمالة (أم روابة) تغادر إلى نيروبي استعدادًا لمواجهة ديكيداها    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    الخارجية البريطانية: مستقبل السودان يقرره شعبه    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    الفرقة السادسة مشاة تنفذ عملية عسكرية ناجحة وتحرر مواقع استراتيجية فى الفاشر    شاهد بالفيديو.. في مشهد مؤثر.. خريج سوداني يجري نحو والده بحب كبير في ليلة تخرجه من الجامعة والأب يعانقه ويشاركه الرقص بطريقة جميلة وملفتة    توجيهات مشدّدة للقيادة العسكرية في الدبّة..ماذا هناك؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: دور المجتمع الدولي والإقليمي في وقف حرب السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تثير ضجة غير مسبوقة بتصريحات جريئة: (مفهومي للرجل الصقر هو الراجل البعمل لي مساج وبسعدني في السرير)    شاهد بالفيديو.. الفنانة توتة عذاب تشعل حفل غنائي بوصلة رقص مثيرة والجمهور: (بتحاولي تقلدي هدى عربي بس ما قادرة)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تثير ضجة غير مسبوقة بتصريحات جريئة: (مفهومي للرجل الصقر هو الراجل البعمل لي مساج وبسعدني في السرير)    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    السودان يدعو المجتمع الدولي لدعم إعادة الإعمار    ما ترتيب محمد صلاح في قائمة هدافي دوري أبطال أوروبا عبر التاريخ؟    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    الهلال السوداني يتطلّع لتحقيق كأس سيكافا أمام سينغيدا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    مصر تسجل مستوى دخل قياسيا في الدولار    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ومنصور خالد: مصطفى وبنجامين في طريق لينين .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 08 - 06 - 2011

هذا فصل آخر من كتابنا عن منصور خالد الذي نشرناه مسلسلاً في مجلة أوراق-الخرطوم الجديدة بالخرطوم خلال السنوات الخمس الماضية. وفيه نعرض لتاريخ العمل والعمال في الجنوب والزمالة الشمالية التي اكتنفته. وتاريخ العامة لا يشوق منصوراً ولا يشغله. وانتهى إلى كتب في التاريخ غاية في السقم أذاع فيها عن نفسه ومن يحب ويرضى ما صار تاريخاً يجتره معارضو الإنقاذ من الفاقد التاريخي على "البركة" لا الرشد. ونعرض في هذه الحلقة والتي تليها لزمالة رفيقنا المرحوم مصطفى السيد، طبيب مريدي في 1954، وبنجامين بيسارا، من شعب الزاندي، وملاحظ الصحة بالمنطقة.
. . . ومنصور خالد
29) مصطفى وبنجامين: في طريق لينين
عبد الله علي إبراهيم
(كنت قد توقفت في الفصل السابق عند دور النظرة الاستعمارية البريطانية العرقية في تحديد أجور الجنوبيين. وهي نظرة ترى أنهم عالة على الطبيعة لا حاجة لهم بالنقود. ولذا بخسوهم الأجر لما اشتغلوا شغلاً مستحقاً. وكان أول ما واجه حكومة السودان المستقلة مسألة مساواة الأجور. وقد أتينا على حكاية إخفاقها من هذه الجهة حتى قيام ثورة أكتوبر 1964. وكان شاغل الأجور هو الباعث وراء تحرك نقابي عنيف في مدينة انزارا، مركز محالج اقطان مشاريع الإستوائية، في 26 يوليو 1955. وهو التحرك الذي كان بمثابة إرهاص ل"تمرد" 1955 أغسطس. وكنت وعدت القارئ أن أتعمق هذه المرة في فلسفة الإنجليز العرقية التي بخست العامل الجنوبي حقه. ولكنني آثرت أن أعرض لخلفيات العمل النقابي بأنزار ثم أعود لتلك الفلسفة التي زرعت الفتنة في بلدنا).
لو قرأت ثم قرأت ما ورد عند الدكتور منصور خالد عن إلفة جنوبيين وشمالين ومحبتهما في الوطن ( نادرة الحدوث،قبل نشأة الحركة الشعبية لتحرير السودان في 1983 ) لن تجده يذكر قصة الدكتور مصطفى السيد والسيد بنجامين بسارا التي سنرويها فصولاً للقارئ بعد حين. وزمالة مصطفى وبنجامين في منتصف الخمسينات في مريدي على محجة الشيوعية لا يضاء له ضوء. فقد وردت في "تقرير لجنة التحقيق عن إضطرابات الجنوب، أغسطس 1955 " في سياق النشاط النقابي الجنوبي بمحالج القطن ومصنع النسيج بأنزارا حاضرة مشروعات الإستوائية بدار شعب الزاندي في يوليو 1955. فقد قال التقرير بأن ذلك النشاط أرهص لواقعة "تمرد" الفرقة الجنوبية لقوة دفاع السودان بتوريت ومدن أخرى في أغسطس 1955. وجاء في التقرير أن الشيوعيين بثوا في المصانع منشورات بلغة الزاندي كان من ورائها طبيب مصري بمريدي وبنجامين بسارا ملاحظ صحة مريدي الزانداوي. واتضح أن هذا الطبيب هو مصطفى السيد بلونه الأبيض وتعليمه المصري بحسب ما ورد عن مصطفى السيد نفسه في كتابه الحسن "مشاوير في دروب الحياة" (2005).
ويستغرب المرء لماذا فاتت هذه الحكاية العذبة على منصور الذي قصر الإلفة الجنوبية على أصفياء له لم يبلغوا من الأخاء الوطني عشر معشار كسب مصطفى وبنجامين. ولا استغرب، كمشتغل بالسياسة، لإضراب منصور عن ذكر زمالة الرجلين. فهو قد نشأ في عداء الشيوعيين السودانيين وغالا في ذلك حتى أبلَغ السفارة الأمريكية بحركتهم وسكونهم في ما كشفنا عنه في حلقة مضت. ولكني استغرب لهذا الإضراب من منصور خالد الباحث الذي يذيع عن نفسه هذه الخصيصة بفخر فاخر. فقد وصف منهجه في الجزء الأول من كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل" وصفاً يلزمه بإطلاع القارئ بمثل هذه الواقعة التاريخية لزمالة يعتقد أنها نادرة وطلبها هو بانضمامه للحركة الشعبية لينقذنا كشماليين من شرور أنفسنا. فقد قال إنه انتوى من كتابة سفره " العكوف على هذا العمل بكل ما يلزمه البحث العلمي من جدية الاقتراب، وموضوعية التحليل، واستشهاد موثق في التدليل، فما أوردنا في مسارب التيه التي نتخبط فيها غير الأحكام الانطباعية القاصرة." وزاد بأنه ارتحل في العالم يغشى "دور للحكمة، ومكامن للعلم، ومظان للبحث والتدقيق تكاد تضم في أحشائها كل معارف الإنسانية." (صفحة 11). و"كلفت" الحقيقة "حال" منصور (في مصطلح العامة) ولم يبلغها مع ذلك بإضرابه عن قصة مصطفى وبنجامين وهي أقرب إليه من حبل الوريد في تقرير ذائع عن "إضطراب" معروف.
وبينما يتعامى منصور عن هذه الزمالة التي قامت عليها البينة تجده يسبغها على بعض أصفيائه نابشاً للأوراق القديمة كما ينبغي (بغض النظر عن سداد الاستدلال) او متمحكاً. فقد أطرى منصور السيد إبراهيم بدري، الإداري الذي خدم بجهة الجنوب طويلاً، كرجل سبق عصره إلى هذه الزمالة بمذكرة تقدم بها إلى لجنة تعديل الدستور (لجنة ستانلي بيكر) في 1951. وفيها طالب إبراهيم بوضع ضمانات تؤمن حقوق "الجماعات والأقليات المتخلفة" متى استقلت البلاد. وأحصى أنواع التباين الثقافي والريب التاريخية التي تزكي مواجهة الحقيقة لا دفن الرأس في الرمال. فعلى عدائ إبراهيم للقبلية فهو يطلب استصحاب قادة العشائر في النظام الجديد و يحذر من استعجال القضاء عليها في غير ما وقت. وحين يجيء الكلام عن الجنوب فإبراهيم يوسع المفهوم ليشمل ما تعارفنا عليه ب "المناطق المهمشة" حالياً وبخاصة أولئك الذين لا يتحدثون العربية ولا يدينون بالإسلام. ونبه إلى أن الأتراك هم من لَمَّ شملنا السوداني على ما بيننا من تاريخ سقيم للرق. وهو يعتبر بذلك لكي لا نكتفي من الدستور بنص عن الحريات لا يتنزل في وثاق يضمن الاستقرار للسودان المستقل. ولعل من أنصع حجج إبراهيم قاطبة هو لزوم أن نأخذ بجدية واحترام وطنية الآخرين حين يصدرون عن آراء تخالف المألوف من خطاب الحركة الوطنية.
واضح أن حديث إبراهيم صوت ندر في سجل الحركة الوطنية التي تاجها مؤتمر الخريجين. ومن حق منصور علينا التهنئة لحصوله على هذه الوثيقة التي احتفظت بها أسرة إبراهيم ونشره لها كملحق في كتابه "كما تكونوا يولى عليكم " (بالإنجليزية، 1990). وقد أخذها عنها الدكتور فرانسييس دينق في كتابه "صراع الرؤى" (1995) وطار بها فرحاً كعنوان للشمالي الآخر المستضعف بعيد النظر. ولم يتوقف فرانسيس عند سياقها الذي جاء منصور بطرف منه. فمع ثناء منصور على إبراهيم إلا أنه عاب عليه ما اصطلح أهل الإنجليزية عليه بقولهم إنك إنما تلقي بالجواهر للخنازير. وعنى منصور بذلك أن أفكار إبراهيم الرصينة التي شملتها مذكرته لم تجد بيئة صالحة لتثمر. فقد أنشأ الرجل في 1951 حزباً تحالف فيه صفوة من الشمال والجنوب مع نظار العشائر في الإقليمين اسمه الحزب الجمهوري الاشتراكي. وقال منصور إن ضلوع إبراهيم في مثل هذا الحزب خطأ مماثل لخطأ آخرين من قبيله الصفوي في الحركة الوطنية الذين ارتموا في حضن الطائفية طلباً للغزارة السياسية. وما لم يذكره منصور في هذا السياق أن الحزب الجمهوري الإشتراكي هو صنيعة بريطانية باتفاق. ويقول الدكتور مارتن دالي في كتابه العمدة "السودان الإمبريالي" (1991) إن البريطانيين أنكروا دائماً أن لهم يداً في قيام الحزب. ورد الجمهوريون تهمة أنهم صناعة إنجليزية إلى المهدويين وكيدهم. ولكن الدلائل، في قول دالي، ناهضة على أن الأنجليز كانوا من وراء الحزب منذ بدئه. فروبرتسون، السكرتير الإداري، بنفسه كتب بصورة غير رسمية أن ديسموند هيكسويرث، مساعده، كان ناشطاً وراء الستار في ترتيب قيام الحزب. وسمى السودانيون الحزب ب "حزب هيكسوريرث" منذ 1952. وفي الواضح كان الحزب الجمهوري تطبيقاً لفكرة ظل روبرتسون يبديها عن ضرورة نشأة حزب وسيط بين الختمية والأنصار. ولذا لم تستغرب الخارجية البريطانية لنشأة الحزب ولم يخالطهم شك في أنه من تدبير الإداريين البريطانيين. وتشير دلائل إلى موظفين بريطانيين هما نيكلسون و هندرسون بوصفهما ناشطين في الحزب بالخفاء. وروى دبلوماسي بريطاني أنه وقع على مكاتبات بين إبراهيم بدري، زعيم الحزب، ونيكلسون عن وجوب تنشئة حزب مستقل غير طائفي ريفي القواعد. وقال إن إبراهيم كان يريد حرق هذه الوثائق في 1954 خشية أن تقع في يد الإتحاديين متى فتشوا منزله بعد أن دانت لهم البلاد. وقد وصف الدكتور على بدري، أخ إبراهيم وعضو حزب الأمة، بأن الحزب الجمهوري هو ثمرة تأثير بعض الضالين من الإداريين البريطانيين. وسنعود لإبراهيم، الذي كنا نسميه في اليسار ب"لورد أم هانيء" إشارة لمشروعه الزراعي بالنيل الأبيض وتعلقه بالإنجليز، في فصل آخر من هذا الكتاب. ومتى صح هذه السياق ربما بدت أفكاره عن مستقبل السودان التي نبشها منصور غير سباقة في التحليل الأخير. فهى صدى (وطني، لا بأس به) لآراء غالبية الإداريين الإنجليز في الجنوب وجيل الجنوبيين من حضور مؤتمر جوبا في 1947 (الذي حضره إبراهيم كممثل للشمال) ممن طغى في خطابهم مطلب النص على ضمانات للجنوبيين تحميهم من غلبة الشماليين بالاستقلال. وكانت الحركة الوطنية الشمالية والحكومة المصرية، من الجهة الأخرى، ترى في حديث الضمانات حيلة بريطانية للتشبث بالبلاد.
وكان السيد محمد أحمد أبورنات، رئيس القضاء (1956-1964)، من أصفياء منصور الذين تَعَّمل لإدخالهم في حسن الزمالة في الوطن. فقد توقف منصور عند تخفيض أبو رنات لحكم شديد بالسجن من محكمة ترأسها السيد جلال علي لطفي بحق السيد ماثيو أبور. وكان ماثيو وقتها زعيماً طلابياً قاد مظاهرة استنكر فيها إجراءات أسلمة الجنوب وتعريبه التي اتخذها السيد على بلدو، مدير المديرية الإستوائية، في ما اسميته ب" البلدوية" في موضع آخر. ووصف منصور القاضي ابو رنات بأنه "واحد من الأماجد العدول الذين زانوا القضاء ولم يشينه في ذلك العهد، وفي كل عهد" (الجزء الأول من النخبة صفحة 247). وأعاد القصة نفسها في الجزء الثاني من كتابه على صفحات 278-279. ثم قال إن الذي دفع أبا رنات لنقض الحكم هو " نوازع الانصاف قبل الإشكالات الإجرائية" فطلب ملف القضية "وألغى شيخنا ابو رنات الحكم وهو يبين ما فيه من جور وافتئيات ومغالاة". ولا نريد لمنصور أن يعصرنا على الفسل بحق مولانا أبو رنات الذي هو في ذمة الله. ولكن فات على منصور أن يذكر أن القانون الذي حوكم به ماثيو أمام مولانا جلال هو قانون دفاع السودان الذي فَجَرت مواده في إيذاء الخصم اليساسي. وقد قبل أبو رنات، رئيس القضاء، أن يتعايش مع هذا القانون الفاجر ست سنوات حسوما لم تبلغنا عنه نأمة احتجاج. بل صدر في عهد ولاية مولانا للقضاء قانون الجمعيات التبشيرية لسنة 1962 الذي أخلى السودان من قسس المسيحية. ولا أعتقد أن منصوراً يعد مثل هذا القانون مما يقع من أماجد عدول. ونقول استطراداً مستدعين ملحوظة لنا سلفت عن خٌلق الكتابة عند منصور. فقد قلنا إنه ممن يتشفى بالكتابة لا يٌشفِي بها. فقد قال بغير حاجة بعد ذكره لواقعة ماثيو ، الذي ترك الحركة الشعبية وجاء إلى الخرطوم وعمل مع حكومة الإنقاذ، إنه أصبح داعية إخوانياً بعد مظاهراته ضد الأسلمة في عهد عبود. وهذا ذوق في الدرك من حرفة الكتابة.
لم تكن زمالة مصطفى وبنجامين نصاً في مذكرة أو حكماً قضائياً. كانت زمالتهما ممارسة بين الناس تسعى نصوصها بينهم بلغتهم وأوجاعهم. وهذا شأو بعيد. فقد جاء مصطفى طبيباً بمستشفى مريدي نحو عام 1954 بعد تخرجه من جامعة عين شمس واشتغال قصير بمستشفى عطبرة. وكان مصطفى من مؤسسي الحركة السودانية للتحرر الوطني (الحزب الشيوعي لاحقاً). بل تتواتر الأدلة الآن على أنه كان اول من أنشأ خلية شيوعية عمالية عام 1947 بمدينة عطبرة خلال عطلته من كلية كتشنر الطبية ضمت قمتين سياسيتين في تاريخنا المعاصر هما المرحومان قاسم أمين والشفيع أحمد الشيخ. وقد وقع فصله من الكلية لنشاطه كسكرتير لإتحاد كلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم) فبارح يواصل التعلم في مصر. وفي مريدي اعتنى مصطفى بتنشئة حركة سياسية حول برنامج الجبهة المعادية للاستعمار ونفذ منها إلى تكوين فرع للحزب الشيوعي كان طليعته بنجامين بسارا، ضابط صحة المدينة.
ونبدأ في الحكي عن مصطفى وبنجامين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.