غيّب الموتُ أمس (الأربعاء) فارس القصيدة الوطنية السودانية، الشاعر محجوب شريف، بعد معاناةٍ طويلةٍ مع المرض، وربما كانت هذه المعاناة الجسدية، بسبب ذهاب العافية، واعتلال الصّحة، جزءاً أصيلاً في معاناته الكلية التي يتناسي فيها عذابات الجسد وآلامه، من أجل الوطن الذي سكب فيه دُرراً من قصائده الوطنية التي تحولت لحناً وتطريباً إلى أغنياتٍ وطنيةٍ، بل يلحظ المتأمل في أغنياته الوطنية التي صدح بها كبارُ مطربي السودان، وعلى رأسهم الموسيقار الراحل محمد عثمان وردي، تفيضُ شجناً وعاطفةً، وكأنها أغنية عاطفة، يغيب فيها الهُتاف، وتعلو فيها قيم التأمل والجمال. أما أغنياتهِ العاطفية، فيها قدرٌ ملحوظٌ من شبهة الغناء للوطن، ولمعاناة بني وطنه، وتضحياتهم في سبيل العيش بحياةٍ كريمةٍ، تحفظ لهم حقوقهم الآدمية، ومن ثمّ تكفل لهم التمتع والاستماع بحقوق الإنسان التي كفلتها الشرائع السماوية، والقوانين الوضعية. ويستصرخ الراحل محجوب شريف في أغنياته الوطنية الضمير الإنساني، لإرساء مفاهيم الحرية المجتمعية، وإشاعة روح الطمأنينة الفردية. وأحسبُ أن الراحل الشاعر محجوب شريف في سبيل المبادئ التي آمن بها، ضحى كثيراً بحريته الفردية، التي كانت من تداعيات تلكم التضحية الشخصية، انسحابها على أسرته كافة، كلُّ ذلك من أجل مبادئه، والتيار الفكري الذي التزم به. وأعتقد جازماً أن عائلته الصغيرة والكبيرة، عانت الأمرَّين، ولكنها استمدت صمودها من صمودِه في غير كللٍ أو مللٍ، أو ضجرٍ، وهم في ذلك رغبةً لا رهبةً، يقدمون هذه التضحيات، امتداداً لتضحيات الراحل محجوب شريف، حتى إنه كان يشيع بين أصحابه أن مواقفه ومبادءه أثَّرت سَلباً في عائلته، ولكنها زادت في ترابطها وتماسكها في السراء والضراء. فلا غروَّ أنّ في قصيدته التي جعلها بمثابةِ رسالةٍ إلى الوالدة مريم، كان يدعوها إلى التزام الصبر، وكأني به يُنزِّل في دعوته إلى الوالدة مريم محمود، أن تصبر وتستعين بالصبر، في إشارة إلى قول الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". فلنقرأ معاً هذه المعاني في قوله: يا والدة يا مريم يا عامرة حنية .. أنا عندي زيك كم .. يا طيبة النية بشتاق وما بندم.. إتصبري شوية .. يا والدة يا مريم ويبدو أنه في هذه الرسالة أراد أن يؤكد للوالدة مريم محمود أن اعتقالاته لأسباب سياسية، وليس لجرائم جنائية، ليبدد هواجسها ومخاوفها أنه ارتكب جرائم نكراء، فتجده يقول: ماني الوليد العاق لا خنت لا سراق والعسكري الفراق بين قلبك الساساق وبيني هو البندم والدايرو ما بنتم يا والدة يا مريم وأحسبُ أنه من الضّروري الإشارة إلى أنّ الراحل الشاعر محجوب شريف، أُعتقل عدة مرات، بدءاً من عام 1971 في عهد الرئيس الراحل جعفر محمد نميري. ولم ينأى عن السجن عند قدوم الإنقاذ في يونيو 1989، إذ أُعتقل لثلاث سنوات منذ بواكير العهد الإنقاذي، نتيجةً لمواقفه المناهضة لحكومة الإنقاذ. وأكبر الظن عندي، أن قصائده الغنائية، شكلت الكثير من وجدان الشعب السوداني، حتى إن مخالفيه في الفكر والسياسة طربوا لأغنياته الوطنية، إذ أن بعضهم كان يستشهد بها في خطبه، بل جعلها البعض الآخر شعاراً لمؤسساته. ولا ينكر أحدٌ أن أغنياته التي تغنى بها الفنانان الكبيران الراحل محمد عثمان وردي، ومحمد الأمين أسهمت بقدر كبير في تشكيل خارطة الغناء الوطني في السودان. من منّا لم يطرب لكلماته الرائعات عن الوطن: وطنا الباسمك كتبنا ورطنا ..أحبك.. أحبك مكانك صميم الفؤاد وباسمك أغني.. تغني السواقي خيوط الطواقي.. سلام التلاقي ودموع الفراق وأحبك ملاذ.. وناسك عزاز وكان الشعبُ وفياً مع الأوفياء، لذلك شُيّع الشاعر محجوب شريف في موكب مهيب إلى مقابر أحمد شرفي بأم درمان، إذ توافد العديد من المشيعين من مدن العاصمة الثلاث زُمراً وفُرادى، للمشاركة في تشييع شاعر الشعب. أخلصُ إلى أنني حزنتُ أيّما حزنٍ عندما علمتُ بوفاته أمس (الأربعاء)؛ لأن بوفاته خسر الوطنُ فناناً مبدعاً، وشاعراً رائعاً، ينبغي أن يُحزن عليه من بني وطنه كافة، ولا يقتصر ذلكم الحزنُ النبيل عليه، على مجموعة مؤيديه فكراً، ورسلائه تنظيماً؛ لأنه غنى للوطن، وأنشد للمواطن، قبل أن يعزف أوتار شعره للفكرة، أو ينشد بديعَ أغنياته للتنظيم. وأظن – وليس كل الظنِّ إثماً- أن بعضَ من يقرأ هذه العُجالة الرثائية عن الراحل الشاعر محجوب شريف، يحسب أنني أعرفه معرفةً شخصيةً تامةً، فإني لا أدعي معرفته، سوى القراءة له أو عنه أو سماع أغنياته العاطفية والوطنية، ولكن لي ثمة علاقة مع بعض أصهاره في الخرطوم ولندن، لا سيما الأخوين الصديقين المحامي كمال الجزولي، والأخت مها الجزولي، والمسرحي عبد المنعم الجزولي، الذي زاملته في معهد الموسيقى والمسرح، ومن خلاله عرفت بعض الأشياء عن أسرته الكريمة، وغابت عني أشياء أخر، على مذهب الشاعر أبو الحسن بن هانيء الحكمي الدمشقي المعروف بأبي نواس: فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفة ً حفِظْتَ شَيئًا ، وغابَتْ عنك أشياءُ لا تحْظُر العفوَ إن كنتَ امرَأَ حَرجًا فَإنّ حَظْرَكَهُ في الدّين إزْراءُ وفي خاتمة هذه العُجالة، أسال الله تعالى أن يتقبل الشاعر الراحل محجوب شريف قبولاً طيباً حسناً، وأن يلهم آله وذويه وأصدقاءه ومعارفه الصبر الجميل. " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ". [email protected] ///////