الولايات المتحدة / فرجينيا [email protected] إن يستعتب أهل الإنقاذ عن قلّة اهتمامهم بكثير من مظاهر الثقافة ، طوال فترة حكمهم ، فما هم من المعتبين ؛ ذلك لأن الثقافة جزء أصيل من المشروع الإسلامي ، وأن القراءة ، والكتابة الإبداعية ، والتفكّر ، والتّدبّر، وإعمال الفكر ، والاهتمام بموروثنا الثقافي ، وغير ذلك ،ركائز هذا المشروع ،ولحمته وسداه . والذي يبدو لي ، والله أعلم ، أن الحكومة ، والحزب الحاكم ، وقادة الفكر والرأي في الحركة الإسلامية ، الهتهم السياسة عن الاهتمام بالثقافة ،على كل مستوياتها ، فما قدروا بعض جوانبها حق قدره ، واستخفوا بدورها في التغيير الاجتماعي ، فالتقطتها بعض منظمات المجتمع المدني ، وبعض المراكزالثقافية ، وبعض دور النشر ذات التوجهات الفكرية المعادية للثقافة العربية والإسلامية ، فاستثمروا فيها ، وجعلوا منها سلاحاً ماضياً في غزو عقول الشباب واختراقها ، تمهيداً لامتلاخ ثوابت المجتنمع ، واقتلاع جذوره، والذي يرى كمية الروايات الأدبية التي كتبها الشباب خلال ربع القرن الماضي ، ووجدت طريقها للنشر، بغض النظر عن جودتها أو رداءتها ، يدرك صواب ما أقول . المعاتبون لأهل الإنقاذ يذكرون وينكرون أنّ جُل اهتمام قنوات التلفزيون ، الحكومية منها والأهلية، بالغناء ، دون سائر الفنون الثقافية الأخرى ، مع أنّ الظن بهم أن يكون الغناء في ذيل اهتماماتهم ، كما يذكرون وينكرون أنه طوال عهد الإنقاذ لم تشيّد مكتبة عامة واحدة في الخرطوم ، دعك عن الأقاليم ، بل إنّ المكتبات العامة التي كانت قائمة لم يعد لها أثر. لست بصدد تقليب المواجع على أهل الإنقاذ ، فعندهم ما يكفيهم ، أو نصيحتهم ، فما أرخص النصائح وما أبردها ! ولكني أُذكّرهم، والذكرى تنفع المؤمنين ، وألوم الأثرياء منهم، وبعض اللوم ينبه الغافلين ، على تقاعسهم ، واتّباعهم سنن من قبلهم من التجّار التقليديين الذين يخافون من الاستثمار في المجالات التي لم يطرقها سلفهم . هناك أمورتتعلق بالثقافة كثيراً ما ترد على الخاطر ، ثم يطويها النسيان ، أو أضرب عنها الذكر صفحاً ، لعلو صوت السياسة فوق كل صوت ، ولزهد الناس في غير ما يمس أمر معاشهم ، أذكر منها في هذا المقال أمرين : الأوّل ، يتعلق بمعلم من معالم تاريخنا الثقافي ، وهو ما آل إليه كلّ من " رواق السنارية " و" رواق دارفور " اللذين كانا يقيم فيهما طلاب الأزهر القادمون من مملكة سنار ، وسلطنة دارفور ، وظلا رمزاً ثقافياً لأهل السودان حتى عمدت إليهما إدارة الأزهر، فحولتهما إلى مكاتب ،ولا أدري متى تمّ ذلك ، ولكني زرت القاهرة قبل ثلاثة أعوام ، وكان من بين المناطق التي زرتها بصحبة صديقي الدكتور تاج السر حمزة ، الأزهر الشريف ، وطاف بنا المرشد السياحي على أقسام الأزهر المختلفة ، فلا حظنا خلال زيارتنا لأروقة البلدان الإسلاميّة ، أن لا وجود ل " رواق السنارية " ، ولا ل " رواق دارفور " فسالنا المرشد فذكر ، بلا اكتراث ، أنهما حوّلا إلى مكاتب إدارية ، فكانت خيبتنا عظيمة لهوان تاريخنا في أعين إدارة الأزهر ، ولقلة حيلتنا وعدم اهتمام القائمين على أمر الثقافة في بلادنا بتاريخنا الثقافي . بلغت الملحق الثقافي في سفارة السودان بالقاهرة بما شهدنا وسمعنا، وطلبت منه أن يتحرك لعلاج هذا الأمر ، ثم كتبت مقالاً في إحدى الصحف السودانية عن هذا الموضوع ، وعقّب عليه الصديق الدكتور غبد اللطيف سعيد بمقال ، ثم عدت بعد عام وسألت الملحق الثقافي عمّا فعل ، فذكر لي أنّه قابل المسؤولين في إدارة الأزهر ، وناقش معهم الأمر ، ووعدوه بمنح دراسية تعويضاً عن ذلك ، فكانت خيبتي أعظم . من الذي أعطى الملحق الثقافي أو غيره كائناً من كان أن يقايض تاريخنا الثقافي ببضع منح دراسية ؟! قابلت الأستاذ علي كرتي ، وزير الخارجية ، في واشنطن ، الأسبوع الماضي ، ورويت له تفاصيل القصة ، فوجدته ، كما كنت أتوقع ، لا يعلم عن الأمر شيئاً ، وأنى له أن يعلم مثل هذه التفاصيل ، وفي السفارة ملحق ثقافي ، وفي البلاد وزارة للثقافة !وعد السيّد وزير الخارجية أن يعالج هذا الأمر مع الجهات المسؤولة في مصر. آمل أن يتذكر الأستلذ كرتي هذه القضية ، أو أن يجد من يذكّره . الأمر الآخر هو أن كثيراً من المبدعين ولاسيّما الشعراء ، تدركهم المنية قبل طباعة أعمالهم ، لا زهداً في الطباعة ، ولا بخلاً بأعمالهم ، ولكن ضيق ذات اليد يحول بينهم وبين تحقيق هذه الأمنية التي أحسب أن كل واحد منهم كان يتوق إلى تحقيقها ، ولو أن في البلاد دور نشر كبيرة تهتم بنشر الكتب لكفت الدولة مؤونة القيام بهذه المسؤولية ، ولكن في غياب دور النشرالكبيرة أو قلتها ، يصبح لزاماً على الدولة القيام بهذه المهمة ولعل من أهم الشعراء الأفذاذ الذين غيّبهم الموت ، ولما تطبع دواوينهم بعد ، ما يمكن أن نسميهم بشعراء الجزالة وهم : الأستاذ محمد عبد القادر كرف ، والدكتور بابكر دشين ، والأستاذ بركات جمعة إدريس .أما الأستاذ كرف فشاعر مفلق من طبقة فحول الشعراء العباسيين، وقد قرأت منذ أعوام ثلاثة نداء من مركز عبد الكريم ميرغني لجمع أعماله الشعرية المتفرقة في صدور أصحابه وكراريسهم تمهيداً لطبع ديوانه ، ولا أدري أتم هذا العمل ولم أطّلع عليه أم طواه النسيان ؟ أما الدكتور بابكر البدوي دشين حفيد القاضي دشين قاضي العدالة ، وصديق البروفسر عبد الله الطيب وتلميذه ، فعالم ثبت من علماء العربية ، وشاعر مفن ، لم أر ديوانه مطبوعاً ، مع أن ابنه أستاذ من أساتذة اللغة العربية بجامعة أم درمان الإسلامية ، يعرف الشعر الجيد ، ويقدر قيمته وأما الأستاذ بركات فواحد من قلَّة قليلة تعرف الشَّعر وتحفظه ، وتتذوق الُّلغة ، وتعرف أسرارها ، وهو يقرأ الشعر ويكتبه محبة فيه ، وخدمة للغة العربية ،لا شيء غير ذلك ،كتب إلي مرّة يقول : (...ويشرفني أن يكون ما أكتب عبداً طيِّعاً للُّغة . وما قيمة الشعر إِنْ لم يحفظ للعربيّة قلائدها ومجوهراتها الثمينة ؟ ! ومن أجل هذا كنت ممن يعدَّ شاعر العربيّة أبا تمَّام لا المتنبي ، لأن الفصحى في شعره غادة ذات عقود على نهود ، لا بدوية عطل من الحلي ، وَلَخَنَتْ كما تلخن المعاطن والأرقاع ، ولئن نلت من ذلك نصيباً فإنّه يكفيني) أ . ه . كلامه . وبركات من تلاميذ الأستاذ الشاعر الهادي آدم ، وشديد الوفاء له ، فمما حيّاه به ، قوله : شيخي وودي وقنديلي ومغفرتي إذا سريتُ مع المسفار في سَفَرِ عايشت بعدك أعلاماً ، وما قدحوا كما قدحت فلم تشرق بهم فكري وَلَّوْ ولم أقفُ آثاراً لهم طُمست وفي حياتي كم ختمتَ من أثرِ الشمس أنت وهم زُهْر مشعِشَعة وأين ضوء ذكاء من سنا الزُّهَرُ والقصيدة أكثر من خمسين بيتاً ، وقد بادله أستاذه التحيّة بتحيّة أحسن منها في قصيدة بعنوان ( كنتَ السموءل ) جاء فيها : هذا كتابك في كفيّ أقلّبهُ تقليب صبّبما يحويه منبهرِ أوردتني فيه بحراً لو نهلت به مجاجةً أقعدت خطوي عن الصدرِ ونُطت بي فيه فضلاً أنت كاسبه وهالة أنت منها موضع القمرِ إلى أن يقول : كنت السموءل في محض الوفاء وفي مصقولة برئت من ربقة الحصرِ أُناشد الأخ الأستاذ السمؤل أن ينظر في شعر بركات ، وهو موجود إذا أراده ، فلعله يجده أحق بعناية " أروقة " من غيره ، ولعل ما أوردته من أمثلة يغريه فينظر فيه . ///////////