لَكَمْ قرأت له ، ولَكَمْ حللّتُ شخصيته ، التي لا تروق لثقافة سودانية مطبوعة على إعتيادنا الأشياء كما هي والقبول بها ، والتعامل معها ، وإتخاذ موقف سلبي عن كل ما سواها ، مثل ثقافتي ، ولَكَمْ سمعتُ عنه ، ولَكَمْ كرهت أن أذكره حتى في دواخل نفسي ، ولَكَمْ وددتُ أن أسمع خبرا سارا برحيله، ذلك المناضل الشقي الخارج ، من ناحيتي ، عن إرادة أمته وطوعها وعاداتها ، والواقف مع ألد أعدائها بل ومحاربتها بكل صنوف الحرب وبكل الإتجاهات، في كل الأزمنة ، في كل المحافل ، في كل المنابر .... إلا أن تتعبد الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، هذه الديانات الإنسانية الدنيوية ... التي يتعبدها اليسار ، بما فيهم هذا الياسر ، والتي إخترنا نحن ضدها وغيرها في الإتجاه الآخر .... إتجاه اليمين ، في محاولتنا تعلية كل ما هو أُخروي التفكير والرسالة ، وتطبيقه على حياة البشر ، معاشهم ، ومعادهم وممارستهم للحياة ، حتى صار عندنا كل من يخرج عن هذا ، فهو آبقٌ أوكافر وملحد ، فإستبان عندنا الطريقان ، المتوازيان اللذان لا ردم بينهما ، ولا وسط ، ولا غَبَش ولا وسيط ... حتى تخيلنا ، أننا الحقُ كل الحق ، بالطريقة التي نمارس بها هذا النهج ، وظننا ألا يجمعنا مع مثل هؤلاء ، حتى الخبب على الصراط المستقيم في طريقنا للجنة ، وفي طريقهم للجحيم كما نظن . إختلفت معه في كل شئ ، وكنت أظن أنّ مواقفه الشقية هذا إنما أتخذها لنقص في نفسه ، أو في دينه أو قصور في رؤيته ، حتى تزلف للاعداء ومآلئهم ، فهو يعيش بينهم كالمسكين على موائد اللئام ، ولَكَمْ سألتُ نفسي ، كيف يجد مثل هذا نفسه في الغابات مع مثل هؤلاء الذين حاربونا وعادونا واعتدوا علينا ، فبدل أن يناصرنا، ناصر علينا .... وما عرفت أن هذه هي عقيدة النضال ، والمبدأ .. والثبات عليه ، من ناحية أخرى ، حتى وإن كان مغايرا لما نحن فيه ... والثبات عليه كالسيف الحاد الذي يقطع حتى خرائد الأرحام ، والوصل والعلائق الإجتماعية ، وينسى خلفه الدنيا ونعيمها ، أن تأتيه من باب الخلود للأرض ، ثمنا للتنازل عن الفكر والمعتقد ، وإن كان خارجا عن المألوف الذي ألفناه. نحن كسودانيين في غالبنا ، نعبد فيما نعبد ، وبطريقة آو بأخرى طبائعنا وطباعنا التي نرثها ، وما وجدنا عليه آباءنا ، حتى تصير لنا قناعات وثوابت لا تهتز على مدى العمر ، ثم أنّا ننبذ ما سواها ، ونتنرجس في بوائقنا ، وامام مرايا عطاءنا الضعيف ، ونتقوقع في أفكارنا ، ما جعلنا نرى الآخر ، من أفراد أو شعوب ، في إعوجاج وخطأ في كثير من أمورهم ، في توجهاتهم الدينية والاجتماعية ، في ممارساتهم ، وفي سلوكهم السياسي ، ولا نرضى بكثير من الأشياء منهم ، حتى لونهم ، وطباعهم ، ولا نعترف في قعور أنفسنا بأي ( ود مرة ) في هذه الدنيا ... متى ما جاء بغير ما نشتهي أو نعرف . الحواجز والحُجُب بيننا كثيرة ، إن كنا في حزب سياسي ، لا نرضى بحزب آخر ، ونرى كل ما يقوم به الآخرون لا يمت للحق بصلة ، ولا ينتمي للوطن وحب الوطن ، والإنسانية بأي إنتماء ، وهو غير جدير بالسلطة والدولة والقيادة ، وإن ولدنا في قبيلة ، نعلي قدحها حتى نظن أنها الأفضل والأكرم والأكثر رجولة والأجمل نساءا والأنقى دما وعرقا والأقرب شرفا ونسبا وحسبا ، وإن كنا في فرع وعصبية وطريقة من الدين ، لا تؤثر فينا طبول الآخرين ولا نوبهم ، ولا نعترف حتى بدعائهم ونختلف معهم حتى في طريقة التكبير والسجود والطهارة ، وفي العقيدة والولاء والبراء والتعبد والتدين. نحن في الطريق ،دائما ، الأول والأحق ، وفي كراسي الخدمة المدنية نرى ، وأن الكرسي الذي نجلس عليه إنما صنع لنا وعلى مقاساتنا ، وأن لو تركناه لغيرنا لضاعت الدولة والهيبة وسقطت السماء بأطرافها ، وإذا ترأسنا وحكمنا ، نتغير ، ونتكبر ونتجبر ونعتى ونتفرعن حتى تذوب بين أيدينا ، حقوق الناس ، وحدود اللياقة ، ونكسر كل القوانين ، قوانين الدنيا والآخرة نفيا للاخرة وتشبث بالحكم . علمتنا جنوب أفريقيا ، على مدى ثمان عشر عاما ، الذوق الإجتماعي وأداب التعامل مع الغير وإحترام حقوقهم ، وقبول الآخر ، وإحترام رأيه ، وإنسانيته ، عضم إنسانيته ، بغض النظر عن دينه وعرقه ونوعه وجنسه ، وإلتزمنا بذلك إن لم يك بالحق الإنساني العام ، فبالقانون ، والإرث البشري النبيل ، حتى صرنا نرى الناس سواسية كأسنان المشط . هذبت فينا جنوب أفريقيا نظرتنا وحِسّنا السياسي ، فلكل حزب آدابه وأدبياته وإلتزامه بالدستور العام ، وبدستوره الخاص الذي يتنزل من الدستور الأعلى ، حتى يحتفظ بنظم الحياة والنظام بين الناس وتنظيمهم وتنظيم مسلكهم وعملهم وانتاجهم وحقوقهم الدقيقة والرفيعة والعليا . في بعض مقالاته عن النضال في جنوب افريقيا ، وعن رمزه مانديلا ، وثريات هذا النضال بعنوان (رسالة لأرض الضياء ... عن مانديلا حزمة من الضو في كل الأزمنة ) ... وجدت نفسي ولأول مرة ، أتطابق ياسر ، تطابق المحب مع الحبيب في رأيه عن مانديلا ورفاق مانديلا ... وعن جنوب أفريقيا التي كتبنا عن جمالها ونضالها وخلالها وأخلاقها عن بشرها وأنهارها ومحيطاتها ووديانها ، وبكينا لآلامها منتصف السبيعنات ، ومانديلا تحجبه أقبية الظلم والجور، مع آلان بيتون وبطله خومالو من أعالي الإيلوڤو إلى مواطن إلاكساندرا الوضيعة المبنية من الصفيح والتي يتقسام أهلها المراحيض بالجماعات ، والتي تقع تحت ظل سانتون الحي الأبيض ،من أغنى أحياء العالم ، وإلى صوفي تاون ، وسويتو ، في ملحمة ألان بيتون (إبك يا وطني الحبيب cry the beloved county ) ، وشعرنا بأبداننا تتمزق على الأرض ، لسحب كريس هاني بسيارات البيض حتى ذابت أوصاله وفارق الحياة . تَغَشى ياسر في مقاله ، شخوص النضال في جنوب أفريقيا ، من صانعه البرت ليثولو وولتر سيسولو ، وأليڤر تامبو ، ويوسف دادو ، وأحمد كاترادا ، عادا كل حبات العقد النضيد التي أورثت كل أفريقيا هذا الرأس العالي والسمعة البشرية المرموقة . وعلى الرغم أنا نعيش في جنوب أفريقيا هنا منذ ثمان عشر عاما ، إستقينا فيها وتشربنا منها حب مانديلا وغاندي ، وكِرس هاني ، وجو سلوڤو وسلومون مهلانقو ، ورُث فيرِست ، وفاطمة مير ، إلا أن ياسراً اليوم هز أوتارنا بهذا المقال الرائع الذي جعلني أحني رأسي إجلال للنضال وإحترما لمواقف الرجال ، وصلابة الرجال ونفاذ الرأي وسداد العزيمة ... وقوة العزم ، مهما إختلفنا معه ، ولنبق مختلفين ، إذا جمعتنا في مثل هذا الجمال الإنساني الرفيع ، والإحساس بالآخر ، الذي جعلك تذرف دموعك مثلما ذرفنا ، وبمثل هذا الحب لأرض مانديلا وشخوص النضال في قارتنا الفتية. اليوم نعذرك ونعرف من أين إستقيت وتعلمت النضال ، ونعذُر حِرَة النضال فيك ، هذه الحِرة التي جعلتك ، جعلينا ، دينكاويا ، نويراويا ، دارفويا ، نوباويا ، شايقيا ، يحمل هم السودان في قلبه ، وجعبة نِصاله ، ونعذر فيك حرقة الحق والنضال الذي جعلك ، سودانيا شماليا ، سوادنيا جنوبيا ، أفريقي الروح ، والإشتهاء ، ونرى فيك حقاً ربما رأيته بزاوية خلاف ما رأينا ، وبعقل خلاف ما حكمنا ، وبطريق خلاف ما سلكنا .... إن كنت تظن أن هذا سيوصلك لوطن متماسك وقوي ، ولله راضيا وباسماً ، ونحيي فيك الإنتفاض ، إن كنت ترى أن هذه أقصر الطرق التي تحفظ بيضتنا ، عن طريق سلكته بخلاف ما إنتهجنا ، إن كنت ترى أن هذا سيحفظ للسودان قوامه ، ومقامه ، وقيامه على الحق الأجرد ، ونحيي فيك إبناً لنا ، إنتفض عن إعتيادنا ورؤيتنا للدنيا كما إنتفض البغلُ الأجربُ عن الرماد ، حتى ولو إختلفنا في طريق الوصول للدولة ، والسلوك للآخرة ... فشأنك شأنك ... ولو شاء الله لآتى كل نفسٍ هداها . وصدقني أنني لم أصدق أن سيجمعني معك ليلٌ أو نهار لولا هذا الحب الذي ساوى بيننا لجنوب افريقيا ، ولمانديلا النضال ، وللوطني الأفريقي ، ولربما يعجب المرءُ بالآخر ، مثلك ، رغم مُقعِدات الإعتياد. ولنختلف !!! الرفيع بشير الشفيع بريتوريا ، جنوب أفريقيا [email protected] ////////