فى تقديرى أن أهم ما بشرنا به د. غندور فى تصريحاته الأخيرة هو تأكيده على أن حزبه المؤتمر الوطنى الذى حكم البلاد تحت مسميات محتلفة منذ ربع قرن قد بات يهتم بتطبيق الإجراءات الديمقراطية داخله، وها هو يعتمد تعدد المرشجين للتنافس على قيادة حزبه بغرض إنتخاب مرشح واحد فقط فى نهاية الأمر يتم تقديمه للشعب لخوض الإنتخابات المقبلة، تماما مثلما يحدث بالديمقراطيات العريقة من حولنا. ولم يبخل علينا الرجل بتأكيد آخر عله يدخل على نفوسنا السرور والطمأنينية يفيد بأن الإزمات العميقة التى نعيشها إقتصاديا وإجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا فى طريقها إلى الحل، إضافة الى وقف الحرب وقصف المدنيين وتجويعهم حتى الموت وذلك بفضل مجهودات حزبه ومدى قدرة عضويته على (التطهّر). وكيف لا فقد أكد لنا الرجل أن البشير قد تبقت له دورة انتخابية واحدة مما يعنى ان الديمقراطية عائدة و (راجحة). بل لم يكتف السيد غندور بذلك فقد أضاف لا فض فوه، أن باب الحوار مفتوح لمشاركة أحزاب المعارضة وكذلك لتأجيل الانتخابات المفترض عقدها فى أبريل القادم. وكانه يقول لنا أن الإنقاذ مستعدة حتى لتأجيل الإنتخابات فيما لو إلتزمت أحزاب المعارضة بالمشاركة فيها، أما مصادرة الحريات العامة وإعتقال المعارضين وإخضاع بعضهم للتعذيب والإغتصاب وقتل حتى من يجرؤ على التظاهر السلمى، يجب ألا تخيفنا أوتجعلنا نتوهم ولو للحظة واحدة، أن الإنقاذ ما زالت تسعى لإحتكار السلطة والثروة فى البلاد أو أنها تحاول أن تستخدام المعارضة كديكور كما تعودت ان تفعل من قبل !. ومفردة بروكسريتا Procrustes التى وردت فى العنوان هى إسم لشخص فى الميثولوجيا الإغريقية القديمة كان يرابط على الطريق المقدس قرب أثينا ويقوم بإستضافة المارين ويقدم لهم سرير للمبيت ولكنه يشترط فى ضيافته تلك أن يكون السرير على مقاس الضيف. فإن كان السرير طويلا يقوم بروكرستا بضرب الضيف مثلما يفعل بالمعادن كالسيوف بغرض تطريقها وتمديدها، اما اذا كان الضيف أطول من السرير فإنه يقوم بقطع أطرافه حتى يتساوى جسم الضيف مع السرير. الواقع انه لم يسلم أيا من ضيوفه كى يواصل رحلته فيما بعد لأن السيد بروكرستا كان يمتلك اكثر من سرير فى الخفاء، فإن كنت طويلا أحضر لك سريرا قصيرا وهكذا. ويبدو ان معايير بروكرستا عشوائية وإعتباطية لأن الغرض منها تبرير القتل. ربما كان الرجل يحاول أن يوهم نفسه والآخرين بأنه يقدم مبررات وجيهة للقتل بجعل مساواة الضيف مع السرير هدفا ساميا واجب التحقيق، وذلك بحكم انه كان إبن إله. وقد إقترن إسمه بالذعر والإرهاب حتى تم القضاء عليه بواسطة احد الأبطال الأسطوريين وبنفس الطريقة التى كان يقتل بها الأبرياء من المارة على الطريق المقدس. هل يمكن ان يصدق أى إنسان عاقل أن عمر البشير الذى خان العهد ونفذ إنقلابه على الشرعية قبل ربع قرن من الزمان حينما قام بإستخدام القوات المسلحة فى ذلك والتى يصرف عليها دافع الضرائب السودانى من دمه وعرقه ، يمكن أن يتنازل عن السلطة لغيره نزولا عند رغبة حزبه ؟. يبدو أن هذا ما يحاول غندور إقناعنا به حينما تحدث عن تعدد المرشحين فى المؤتمر الوطنى !. أوعندما يحاول الرجل إقناعنا بأن المؤتمر الوطنى حزب سياسى يخضع لتطور الأحزاب المعروف ويمتلك القدرة على البقاء والتنفس الطبيعى خارج إطار السلطة وليس مجرد ( ون مان شو)، وقد كان الأجدر به أن يرجع البصر كرتين ليرى ما حل بما كان يعرف بالإتحاد الإشتراكى الذى حكم على أيام الدكتاتور السابق نميرى. الواقع أن الكل يعلم أن حظوظ أى مرشح آخر غير عمر البشير فى الفوز بترشيح الحزب هى صفر كبير لأن كل الهدف من العملية الإنتخابية التى أعلنت عنها اللإنقاذ هو فوز البشير وحزبه وإنفراده بالحكم لسنوات أخرى، إنه مجرد ترقيع لمشروعية مهترئة تماما وسلطة فاسدة. إذن الهدف معلوم للجميع رغم الحوار المعلن مع أحزاب المعارضة لأن الإنقاذ تنوى الإستمرار فى إستخدامها كديكور، وإذا كانت النتيجة معروفة فى الميثولوجيا الإغريقية والتى تنتهى بقتل الضيف فإن مخرجات الإنتخابات معروفة أيضا وبنفس الدرجة لأنها تعنى المزيد من المعاناة والقتل الحسى والمعنوى للمواطن السودانى لأن الإجراءات الديمقراطية التى تحاول الإنقاذ إستعارتها من الثقافة الديمقراطية المعاصرة والتى تبدأ بتعدد المرشحين ليست سوى (عناقريب ) بروكرستا التى كان يحتفظ بها فى الخفاء. أما محاولات غندور المتمثلة فى إقناعنا بأن البشير سيترشح لفترة أخيرة بحسب منطوق الدستور فإن التصريح لا يخرج أيضا عن التهريج السياسى لأن ذلك هو بالضبط ما كان قد حدث فى دستورى 1998 و2005 ولكن البشير ما زال يترشح ويفوز!. وعلى غندور ان يكف عن التلويح بورقة الدستور إحتراما لنفسه إن كان قد توفر لديه أى قدر من إحترام الذات لأن القانون لا يجد الهيبة والثبات إلا بالمجتمعات العريقة فى تطبيق التعددية الديمقراطية وذلك لسبب بسيط وهو أن القانون يعبر عن الإرادة الكلية للمجتمع الديمقراطى ، أما عند الإنقاذ فإن القانون يعبر عن إرداة القلة ويتغير تبعا لرغباتها وأهوائها، لأن الهدف منه حماية تلك الأقليه التى تتحكم فى الشعب لا أكثر ولا أقل. [email protected]