نجم هوى لكنه ساطع: محمود صالح عثمان صالح (1939 - 2014) بقلم بروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه وما كان "محمود" هُلْكُ واحدٍ، ولكنّه بُنيانُ قومٍ تهدّما. نعى الناعي محمود صالح عثمان صالح الذي وافاه الأجل المحتوم صبيحة اليوم السبت 15/11/2014 بلندن. فجزعت النفس عندما جاء الخبر لأن موت محمود موت أمة وفقده جلل على الصعيدين الوطني والإقليمي والعالمي ووقعه أليم على أصدقائه. فمحمود واسع الإسهام ودائم البصمات وذائع الصيت بعمل الخير والبر والإحسان وفي سيرته هذه ما يصبر على فقده الجلل. محمود حفيد العصامي عثمان صالح الذي وضع بصماته على اقتصاد السودان بإيجاد رأسمالية وطنية نظيفة وتربية وتعليم جيل من الأبناء والأحفاد من الدراية والمعرفة يحملون الراية من بعده. رأسمالية صمدت أمام سياسات النظام المايوي التعسفية من تأميم ومصادرة وتدهور في الاقتصاد السوداني. نهل عزيزنا الراحل محمود من علم الاقتصاد وتشرب به في جامعة بريستول ببريطانيا وقرر توظيف ماله بذكاء لخدمة العلم والثقافة في السودان فهو بذلك من الخيرين القلائل الذين يلتفتون لأمر العلم والثقافة. فقد أسهم محمود صالح إسهاما رائعاً باقي الأثر في مجالات متعددة. فهو منشئ وراعي مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي الذي تأسس عام 1998 ويحمل اسم الأديب الدبلوماسي الراحل عبد الكريم ميرغني وتخليداً لذكراه. وسرعان ما تتطور المركز تطوراً ملأ فراغ الجدب الثقافي الذي تعيشه بلادنا. فقد برز المركز في زمن جف فيه ضرع ومعين الثقافة والأدب ، وصار في فترة وجيزة منارة مشعة لنشر الأدب السوداني والثقافة السودانية، وأصبح قبلة للباحثين وجيل الشباب المتعطش للثقافة والمعرفة. كما أعان محمود الباحثين والكتاب بنشر مؤلفاتهم وترجماتهم وأصبح مركز عبد الكريم ميرغني ناشراً لمؤلفات كثير ممن خانهم المال ولكنهم وجدوا في محمود والمركز ضالتهم. وأصبحت للمركز مكتبة للكبار والصغار. وقد حرص محمود منذ البداية أن تكون للمركز سمعة محلية وإقليمية وعالمية. أدرك محمود إدراك المثقف المولع بالمعرفة أن المركز سوف لن يكتب له النجاح ما لم تصاحبه حركة نشر دائبة واعية ترفد المكتبة السودانية بالغالي والنفيس والمفيد من الإصدارات. وأصدر المركز منذ تأسيسه وحتى الآن عشرات الكتب ضمن منشورات المركز الدورية التي اشتملت على قائمة طويلة وإصدارات أخرى وثقت لعدد من رموز الثقافة السودانية وروادها الأوائل.وتجمع وتحفظ وتوثق للتراث السوداني. وأصبح المركز كما يوصفه المؤرخ الموسوعي المقتدر ، الصديق لمحمود، أحمد إبراهيم أبو شوك، "منبر الثقافة الرئيس للقُراء السودانيين في الوطن وفي أقطار الشتات".. حرر محمود "الوثائق البريطانية عن السودان 1940 – 1956" وهي ترجمة إلى العربية لمجموعة من الوثائق تم انتقاؤها بعناية من بين خضم من الوثائق البريطانية عن السودان المحفوظة بدار الوثائق العامة بلندن واختار محمود لترجمتها نخبة من الأكاديميين. وأصبحت هذه الوثائق قبلة للطلاب والباحثين في تاريخ السودان الحديث فقد أعانتهم الترجمة في زمن التدهور المريع في مستوى اللغة الإنجليزية. ويواصل محمود مجهوده في مسيرة الترجمة ويختار بعناية ودقة المادة المراد ترجمتها فيختار للترجمة "آراء وأفكار من الخرطوم" وهو مجموعة محاضرات قيمة ألقيت في دار الثقافة بالخرطوم في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين حررها السير دونالد هولي . وترجم محمود بنفسه كتاب "السودان" من تأليف هارولد ماكمايكل وكتاب هندرسون عن حياة دوقلاس نيوبولد السكرتير الإداري لحكومة السودان 1939 – 1945. إن علاقة محمود بالكتاب والمكتبة تبرزها مكتبته الضخمة المحفوظة الآن بجامعة بيرقن بالنرويج وتضم حوالي ألفي كتاب وصور ومخطوطات ولوحات نفيسة نادرة ومهمة في تاريخ السودان يرجع تاريخ بعضها إلى القرن الثامن عشر. اشترى محمود من ماله هذه المجموعة الضخمة من الكتب عن السودان في شتى التخصصات والمجالات. مَنْ مِنْ الموسرين في بلادي وظف ماله لهذا الغرض؟ بهرت هذه المكتبة علماء جامعة بيرقن ممثلين في مديرها وأساتذتها وجعلتهم ينظرون إلى محمود بإعجاب ويجلونه ويقدرونه. ومكتبة محمود مصدر غني بالمعلومات للعلماء النرويجيين المتخصصين في مجال تاريخ السودان وآثار السودان وأنثروبولجية السودان وجغرافية السودان، وللسودانيين الباحثين ببيرقن ولمجموعة السودانيين الذين انضموا إلى برنامج أبحاث حوض النيل في أوقات مختلفة والذين كنت واحدة منهم وكنا نشعر بزهو وفخر عندما نشهد زملاءنا من دول حوض النيل الأخرى يهرعون إلى المكتبة يبحثون فيها. تلك المكتبة التي كان محمود يبحث عن السبل الكفيلة بنقلها إلى السودان بصورة ووجه يحفظها من التلف والدمار لتكون في متناول يد الباحثين السودانيين. وكانت فكرة الراحل محمود على حد قوله "نقل جميع المجموعة إلى السودان بعد تأمين منزل مناسب لها. لكن وبعد خمس سنوات من البحث غير المثمر ووعود جوفاء من السلطات هناك قررت بدلاً عن ذلك تسليف المجموعة لجامعة تعطي مقررات في الدراسات السودانية لأجل أن يستفيد منها أكبر عدد من العلماء بقدر الإمكان أحسن من أن تبقى قابعة في صناديق في مستودع في إنجلترا". قد أتاحت فرصة وجود المكتبة ببيرقن سانحة لمحمود للتعرف على الباحثين السودانيين والنروجيين المولعين بتاريخ السودان وحضارته وآثاره كما كانت فرصة لهم حيث يشملهم محمود برعايته وعطفه. وكما تذكر أستاذة الآثار بروفيسور راندي هالاند "مجموعة محمود صالح مصدر رائع. إنه لشعور خالص بالفرح عندما تذهب إلى هناك. محمود رجل أعمال وخير وعالمي بحق وحقيقة. موجود في السودان وخارج السودان. محمود فخور بجميع الأشياء التي كتبت عن وطنه، ولذلك انشغل بجمع التراث الأدبي للسودان. نحن ممتنون جداً لنفع المجموعة، وبالتأكيد فإنها ستدفع الناس لزيارة بيرقن لمشاهدة إرث السودان الأدبي". مكتبة محمود في بيرقن تماثل مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي والاثنين مثالاً رائعاً لأريحية محمود وكرمه العلمي. ومما لا شك فيه أن اعتداد محمود بهويته السودانية جعله يقدم على جمع مجموعة من أجود المجموعات في العالم لأعمال تتعلق بالسودان. ويمثل ذلك نجاحاً منقطع النظير فالالتزام الصارم بتلك الهوية كان محمود ينفذه على جميع الأصعدة على الصعيد الأسري سواء كان أسرته الصغيرة أو الممتدة وعلى الصعيد الاجتماعي وفوق هذا وذاك ذلك على الصعيد الوطني والعالمي. حيث يريد أن يدفع إلى الأمام الحضارة والعلم في بلده الذي يحبه ونقل ذلك إلى بلاد العالم المتحضر. وحيث ينقل لهم صفات سودانية خالصة يحرص محمود كل الحرص على الإبقاء عليها في وقت نفتقدها فيه كثيرا. محمود كما وصفه أهل الشمال في بيرقن شخص كريم بصدق في كلا الأمرين عندما يكون الأمر تقاسم معرفته المتراكمة عن السودان أو كرمه الذي لا تحده حدود. دفع إعجاب العلماء النرويجيون بجامعة بيرقن بمحمود وصفاته وملكاته أن يهدوا له في عيد ميلاده السبعين كتاب "وصل الجنوب بالشمال دراسات سودانية من بيرقن " وهو مجموعة مقالات علمية في تخصصات مختلفة، تشرفت بترجمته إلى العربية. وقد أعد هذا الكتاب أصدقاء محمود في الشمال البعيد رمزاً وتقديراً لرجل من الجنوب أحبوه وعاشروه. لقد أسرهم محمود بشخصيته الطيبة البسيطة ولطف معشره. وهم إن ذكروه بهذا الكتاب فلنذكر نحن محمود ببعض مما جاد به تراثنا الشعبي في وصف أمثاله فهو "عشا البايتات القوى" "أخو الأخوان والأخوات" "الوافر ضراعو". " محمود قبيلة وسط قبيلة فهو الشمري حاتم الطائي (وحاتم لجميله حافظ). وقد انتبهت جامعة الخرطوم أم الجامعات مبكراً لإسهامات محمود عندما منحته الدكتوراه الفخرية عام 2005 عرفاناً بما أسداه من خدمة جليلة للثقافة. كما منحه رئيس الجمهورية عام 2010 وسام نوط الجدارة والأدب. انتبه محمود العاشق للأدب والفكر ومركز عبد الكريم ميرغني الثقافي إلى رعاية أدب الطيب صالح "الكتاب الشامل" كما يصف محمود الطيب. علاقة محمود بالطيب وحتى رحيله علاقة صداقة ومودة عميقة لم تخالطها شوائب وصغائر فاهتمامات كليهما أكبر من ذلك. أخلص محمود للطيب حياً وميتاً دون "المتاجرة" بالطيب صالح. فقد كان الصديق والخل الوفي لأديبنا الراحل. ويرعى المركز جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي وقد اختار أديبنا الراحل الطيب صالح المركز ليكون مقراً لجائزته التي يتنافس عليها سنوياً مجموعة من الروائيين السودانيين. كما أهدى الطيب مكتبته الخاصة الضخمة والفخمة والدسمة لمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي. وأصدر المركز مختارات الطيب صالح في عشرة أجزاء تبدأ "بمنسي" وينتهي جزءها العاشر "بمقدمات" يجد فيها القارئ متعة وثقافة وتثقيفاً كما يذكر شاعرنا الموهوب الراحل سيد أحمد الحاردلو. وفي مجال الفرص التي تتيحها زيارات محمود لبيرقن كانت واحدة من إشراقاته أن أتاح للسودانيين، وكنت من بينهم، والنرويجيين بجامعة بيرقن فرصة ذهبية حين قدم الطيب إلى بيرقن في مايو 2007 بصحبة محمود وأمضى وزوجه أياماً كانت متعة حقيقية لنا ومترعة بأدب الطيب وحديثه الذي لا يمل. وفي بيرقن أيضاً يتذكر محمود الطيب بعد الفراق الأبدي ويقيم تأبيناً له في أبريل 2009 أمه جمع محترم من بينهم سفيرة السودان لدى النرويج آنذاك إلهام شانتير. ما يدهش في محمود هدوئه بدرجة تظن بها أن الرجل لا يعلم شيئاً ولكنه حين يحدثك تجد في حديثه المتعة والفائدة. وما يدهش فيه أيضاً تواضعاً، مع الكبير والصغير، وكرماً وشهامة ومروءة وسماحة وإقداماً يفوق الحدود. وتحضرني صفات محمود ويرتبط في ذهني دائماً ببيت شعر معبر لأبي تمام يقول فيه: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس؛ ذكاء وسماحة حين يسخر محمود ماله لخدمة العلم والثقافة ويصبح من ذوي الفضل الكبير عليهما. محمود كما كتب عنه الباحث كمال الدين أحمد يوسف "جبر كسر ذاتنا الوطنية". نم هانئاً يا محمود في رحاب الله وسنظل بعدك نعاني وجع الحياة وجفافها، وستبقى وستظل نجماً ساطعاً في سماء الأمة بما قدمت فمثلك لا يموت. وسيبقى غرسك مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي منارة سامقة. وستبقى مكتبتك في بيرقن متكأ للعلماء والباحثين ورمزاً للمحبة التي تربط بين بيرقن وبين كل من زارها ودرس فيها من السودانيين ووصلاً للشمال والجنوب. وستبقى محبتك في نفوس أهلك وعشيرتك وأصدقائك وعارفي فضلك.