osama khalid [[email protected]] الأديب الفذ والدبلوماسي المطبوع المرحوم جمال محمد أحمد سلط ضوءاً غانياً على حقبة التأميم والمصادرة في عهد مايو ممثلة في محاكم الجور التي أخذ إليها شقيقه محجوب رجل المال والأعمال المعروف الذي عاصر ذلك العهد، حين قال" رأت المرحلة الوسطى من حياة محجوب ميلاد شركة التأمينات الأهلية التي دخلت بالسودان إلى صناعة التأمينات ولكن مايو أقعدت طموحة... كانت شقية مايو، تعيسة، نقض أشرار في سفينتها لا يساراً عرفوا ولا يميناً به آمنو، على اقتصاد البلاد وكان محجوب من أعلامها، أخذوه أياماً طوالاً لواحدة من محاكم الجور لكنه غلب الجند وما جندوا من هيلمان" وطفق جمال يصف حال محجوب مع مايو على لسان قريبه توفيق أحمد يوسف الذي خاطب جمال مواسياً " ماذا يعنيك يا ولدي من شرار كل الذي يستطيعون هو أن ينهبوا ما لمحجوب ثق إنهم سيفعلون، العقل الذي صنع المال والعقار الذي سينقضون عليه سيبقى، وربك غير بعيد، إنه قريب يلحظ هذه الأغربة السود، سيبقى عقل محجوب وتذهب عقولهم إن شاء الله" قالها رافعاً ذراعيه للسماء وعصاته تحت أبطه ومشى... ثم أردف جمال قائلاً "ما كان عمنا توفيق نبياً وما كان ممن يتخرصون فعاد محجوب إلى القمة من السفح وكأن لم تكن محكمة جور ولا أغربة سود فأشرف على البنك الأهلي وعلى شركة الأمن" ثم أختتم قائلاً "وانتهت مراحل محجوب وهي مراحل تكاد أن تكون مراحل وطننا العزيز في مسار اقتصاده فتاريخ محجوب بضع من تاريخ بلاده" انتهى حديث جمال... والحق يقال أن سياسة التأميم التي انتهجتها مايو الحمراء لم تقعد طموحات محجوب وحده بل أقعدت الاقتصاد السوداني بكافة مساراته عن اللحاق بركب الكثير من الدول التي كانت أسوأ حالا منا حين استولت مايو على مقاليد السلطة. تنكبت الإنقاذ في سنيها الأولى خطى مايو بالسيطرة الحكومية التامة على الاقتصاد، قبل أن يسيطر الموالين للنظام والمحسوبين عليه على مفاصله لاحقاً في عهد الاقتصاد الحر، حين رفعت واقعة الإنقاذ قوماً وخفضت آخرين وطفقت تعز من تشاء وتذل من تشاء وقد كان لأسرة محجوب محمد أحمد من رزاياها نصيب، فأخذت مجدي بن محجوب إلى محاكم أكثر جوراً وأشد تعسفاًً، كما تذكرون، في قضية حيازة العملة التي تعامل معها أهل الإنقاذ بمبدأ النسيء يحرمونها عاماً ويحلونها عاماً، بمزاجهم كيفما أتفق، ليواطئوا في ذلك ما أحل الله من تجارة وما حرم من قتل للنفس إلا بالحق وأن كانت مايو قد أكلت أموال الناس بالباطل لأن القائمين على اقتصادها كما قال جمال لا يساراً عرفوا ولا يميناً به أمانوا فما بال الفتية الربانين (يا شيخ الصافي)؟. فليت الإنقاذ وقفت عند حد مصادرة ما للابن كما فعلت مايو مع ما للأب، بل ذهبت إلى ما هو أبعد فصادرت حقه في الحياة. فإن كانت حياة الأب تمثل مراحل السودان في مساره الاقتصادي كما قال جمال، فإن إعدام الابن يمثل فصلاً رمادياً من فصول الاقتصاد السياسي والسياسة الاقتصادية في عهد الإنقاذ. وجمال الذي وصف مايو بأنها كانت شقية حين صادرت ما لمحجوب لا شك أنه كان سيصف يونيو، إن قدر له أن يدرك عهدها، بأنها " شقية ومجنونة" حينما صادرت ما لمجدي وصادرت حقة في الحياة... ولعل المرحوم الطيب صالح قد كفاه في ذلك حين نهض معقباً على أطروحة الدكتور حسن مكي الهادفة إلى تسويق السودان كمنارة " يا يحي العوض" في ندوة نظمتها السفارة السودانية في لندن أيام الرايخ الأول للإنقاذ حيث قال إن الوضع في الخرطوم خليط من العقل والجنون. أما الوصف الآخر للوضع في السودان والمنسوب لأسامة بن لادن لدى مغادرته المنارة إلى المغارة مكرها لا بطل "إن الوضع في السودان خليط من الدين والجريمة المنظمة" فقد كان هو السمة التي وسمت مراحل الاقتصاد في عهد الإنقاذ. و قد كان لعراب الاقتصاد الإنقاذي الأستاذ/ عبد الرحيم حمدي صولات في رسم وإنفاذ سياساته الصارمة ومتابعه نتائجه التي لم تبخل على غمار أهل السودان بالفقر ولم تجد عليهم بغير حمأة وقليل ماء. فالأستاذ حمدي منذ أن حرر "ميثاقاً" مغلظاً للحركة الإسلامية في ستينات القرن الماضي حين أخذ الشيخ الترابي موثقاً على أبنائه وإخوانه أن يأتوه بالسلطة إلا أن يحاط بهم، أرتبط أسمه بحركات الجماعة وسكناتها ركوعاً وسجوداً ابتعاداً واقترابا يسبح بحمدها وتشكر له وتالياً بدولتي الإنفاذ الأولى والثانية تخطيطاً وتنفيذاً فقد كان يجلس يحسب بيضها إن باضت ويجتنبها إن حاضت، فمن معجزات الإنقاذ التي لم تؤتى لغيرها إنها تبيض وتحيض في آن. فعندما أنفض سامر برلمان الديمقراطية الثالثة بعد أن قسمت جلسته الأخيرة الليل وأنقض ركب خيول الإنقاذ بعد ذلك بقليل لشقلبة نعام الديمقراطية، كان حمدي نجمة الصباح التي اهتدى بها أهل النظام لطريق الاقتصاد الغربي تحريراً وخصخصة – وهي طريق أخرى غير طريق الإنقاذ الغربي المستور لا إحم ولا دستور. لكن يبدو أن محاولات التجريب والتشريق والتغريب على الرغم من ما ألحقته بالشعب السوداني إلا أنها لم تجنب الإنقاذ من الوقوع في أحضان صندوق النقد الدولي الذي نشر على موقعه في شبكة الإنترنت (خطاب حسن نية) من الحكومة السودانية تطلب فيه تعاونه، وأن يضع برنامجها الاقتصادي تحت مراقبته للأشهر الثمانية عشر المقبلة وذهب الخطاب أبعد من ذلك حين طلب إخضاع السياسات والإجراءات الاقتصادية المالية التي تنوي الحكومة اتخاذها لرقابة الصندوق، مع الاستعداد لاتخاذ إجراءات إضافية بالتشاور مع الصندوق إذا تطلب الأمر ذلك. فعودة حمدي للوزارة في ظل الرايخ الثاني للإنقاذ كانت تحت إلحاح قيادة النظام حسب أفادته بذلك للطاهر حسن التوم في برنامج مراجعات (ألحوا... ثم ألحوا... ثم ألحوا) ومغادرته لدست الوزارة كانت بقراره واختياره رغم قيام القيادة السياسية بتكرار الإلحاح عليه بالبقاء كما ألحت عليه في المجيء (ما ذا أبقيت لسيف الدولة الحمداني يا حمدي) الشيء الذي يؤكد تمسك قيادة المؤتمر الوطني والنظام بالعراب الاقتصادي. تبعاً لذلك فقد ظلت أطروحاته ومشاركاته الاقتصادية في مؤتمرات الحزب الحاكم ما يطلبه المؤتمرون رغم الجدل الكثيف الذي تثيره، وما أطروحته الاستثمارية الشهيرة بورقة حمدي إلا خير مثال على ذلك. فقد قدّم ورقة حول مستقبل الاستثمار في السودان في مؤتمر القطاع الاقتصادي للحزب الحاكم ( المؤتمر الوطني) والذي انعقد في قاعة الصداقة في الفترة 11-12 سبتمبر 2005م، وقد بنيت على محور (دنقلا- سنار –كردفان)، وقد أثارت الورقة جدلاً واسعاً ووجدت معارضة ليس فقط من المنتمين للمناطق التي تخطاها محوره الاستثماري بل حتى من بعض المحسوبين على النظام. وقد دافع حمدي عن أطروحته بزعم أن التكليف جاء من حزب سياسي، وليس من الدولة و إن الورقة صممت لمراعاة مصلحة الحزب في الاستفادة من الاستثمار خلال الفترة الانتقالية لتحقيق مكاسب تضمن استمرارية الحزب في الحكم متناسياً مبدأ الحلول والإتحاد الحلاجي "ما في الدولة إلا الحزب" والذي مارسته الإنقاذ بصرامة ما يعني بالطبع إن الورقة ستكون بمثابة السياسة الدولة الرسمية في حال تبنيها. وقد ركزت الورقة على استقطاب التدفقات المالية العربية والإسلامية وبالذات الخاصّة (أي الاستعانة بالأصدقاء) والتي سوف تأتي إلى الشمال الجغرافي حيث القوة التصويتية التي ستحسم أي انتخابات قادمة وهي الأكثر تدرباً على الانتخابات والأكثر وعياً وتعليماً وهي بموجب هذا التعليم والوعي الأكثر طلباً للخدمات والإنتاج وفرص العمل ولهذا فإن التركيز لابد أن يكون هنا بالضرورة، حسب ما أوصت بذلك الورقة. ثم أن حمدي برز أخيراً ليقر باستحالة تنفيذ أو تفعيل الخارطة الاستثمارية بالبلاد مؤكداً إن المشكلة الأساسية في الاستثمار هي الأراضي، واصفاً الدولة بالمتقاعسة والمتساهلة مع المواطنين في أمر نزع الأراضي لمصلحة الاستثمار ومشيراً إلى أن قانون1970م الخاص بالأراضي يعطي الحق بالانتزاع بتعويض أو بدونه. فإن كانت ورقة توت حمدي الاستثمارية قد سقطت من قبل مبدية عورة توصياته الاقتصادية الجيوسياسية، فإن نصفيه قد سقط الآن، لا فرق إن أراد أم لم يرد إسقاطه، مبدياً العور البين في تعليقه فشل تنفيذ الخارطة الاستثمارية على شماعة المواطن المسكين صاحب الحق و تحريضه الدولة على نزع ملكيات الأراضي من المواطنين بالقانون وبدون تعويض، إن شاءت، ثم العودة وبكل قوة عين للتأمين على ضرورة الاستدانة من الجمهور عبر السندات (يده في جيوبهم وأصابعه في عيونهم). لم يتبق إذن في جراب الحاوي حمدي من حيل ومخارج اقتصادية، بعد استخدامه فرصة حذف إجابتين في سياسة الخصخصة الأولى ( القطاع العام والشفافية) وبعد الإقرار بالفشل في الاستعانة بصديق (المستثمرين من الدول العربية والإسلامية) كما أوصت بذلك ورقته الاستثمارية، لم يتبق له إلا الاستعانة بالجمهور والاستدانة منه عن طريق طرح السندات الحكومية... فأي جمهور هذا الذي يبحث حمدي في محفظته الخاوية عن تمويلات لخزائن الدولة ومصاريفها؟ فالمسألة تحتاج تعريفاً دقيقاً كما قال علي عثمان عن تقرير أمبيكي!! هل هو جمهور المصاطب الشعبية الذي هزمته السياسات الاقتصادية الحمدية؟ هل هو جمهور قرش الكرامة "الكان داك" الذي كان الواحد منهم يوصي ابنه قائلاً "حقك تحت أباطك وحق الناس فوق رأسك كان مديت إيدك تشيل حق الناس حقك بقع"؟ أم جمهور "القل والكسر" الحالي الذي يوصي فيه الواحد ابنه قائلاً "قل والله بحل"، فأصبح يعيش حالة سحب على المكشوف (Overdraft) مستدامة بما في ذلك الجوكية أصحاب القروض الحسنة المتعثرين في الدفع بسبب سوء التقييم والرفع(leveraged Collaterals)!!! أم هل ينتظر مشاركات السودانيين الضائعين بالخارج الغاوين الذين أشجى مسامعهم موال الاستثمار الإنقاذي فضاعت استثماراتهم في الأماني "السندسية" التي لم يقبضوا منها سوى نداوة أشعار الصافي جعفر وطلاوة لسانه ... أم ترى هل ينظر حمدي لاستحقاقات المعاشين و حقوق العمال المسرحين من مشروع الجزيرة والتي قبضوها بالأمس القريب سعياً لاستدانتها منهم وينتظر أن يسدوها له بكل "شهامة" أبناء البلد... شهامة التي تكفي شهادة فيها ما شهد به المراجع العام – وهو شاهد عدل مؤتمن بحكم وظيفته وتكليفه- والذي حذر في تقريره الأخير من تفاقم حجم الدين الداخلي المتمثل في رصيد شهادات شهامة البالغ 3.3 مليارات جنيه في عام 2008م بزيادة مليار جنيه عن العام السابق مم يشير إلى أن الدولة تجدد الشهادات سنويا وتطرح المزيد منها دون القيام بتصفيتها، الأمر الذي قاد لتفاقم حجم الدين الداخلي بشكل مزعج. وكذلك شهادة أحد الاقتصاديين الذي يتعامل في الشهادات من خلال الشركة التي يديرها حيث قال بما أن طرح الشهادات قائم على صيغة المشاركة لا افهم المبرر الشرعي لتخفيض الأرباح دون توضيح ذلك للشريك واقصد بذلك أرباح شهامة المعلنة «7،16%» في السنة مشيراً إلى أن المحاولة لتوجيه المستثمرين للاستثمار في صكوك التمويل الحكومية غير مغر بعد أن أعلن أن أرباحها المتوقعة ستكون ما بين «12 إلى 15%» في العام. لم يتبق إذن من شرائح الجمهور شريحة قادرة على الإدانة والاستدانة غير تجار المؤتمر الوطني أصحاب "الختات المليارية" ومن حام حول حماهم. وليس لدينا إلا أن نختم بسؤال لعراب الإنقاذ الاقتصادي، ألم يفكر في الاستعانة بالجن؟ ولا أقصد الجن الأحمر الراكب "محمد أحمد" ولكني أقصد الجن المسلم حتى لا نتهم بالخروج عن خط أسلمة الاقتصاد الذي انتهجته الإنقاذ. فإذا عزمتم على ذلك فقط أوصيكم بممارسة شيء ولو يسير من الشفافية في عطاءات استيراد الزئبق الأحمر. أما الجمهور الذي ينتظره عراب الإنقاذ الاقتصادي للمشاركة في السندات الحكومية وهو الذي ذاق الأمرين من سياساتها ومختطوها فلم يتبق له سوى امتثال قول الشاعر الذي ضاق به الحال من تعسف الحاكم فأنشد قائلاً ( ليتني كنت بعوضة في أست شيطان بأرض بابل... لأرى بحق كيف أنه بي فاعل).