لم يكن من المستحسن عدم الرد على الرسيل مزمل أبو القاسم، لأني عاهدتُ نفسي ألا أشغلها بقضايا فيها قدرٌ من الشخصنة. وكنتُ بالفعل أرغب في تجاوز الرد عليه ليس تعالياً، ولكن تجاوزاً عن الصغائر، والاستنصار للنفس مغاضباً، وإن كان في بعض حديثه ما يُعرف في علم البلاغة بتوكيد الذم بما يشبه المدح. فرأيتُ عليَّ مسؤولية دينية وأخلاقية وتعليمية تجاه بعض هؤلاء الرسلاء الذين تغيب عنهم مفاهيم راسخة في عالم الصحافة والإعلام. عليه حرصتُ على أن يكون ردي حول مفاهيم صحافية غائبة لدى بعض الرسلاء الصحافيين، وأحسبُ أن الأخ مزمل أبو القاسم أحد هؤلاء. باديء ذي بدءٍ، من المعلوم بالضرورة لأهل العلم والدربة والدراية، أن هناك فرقاً كبيراً بين مشاركة الصحافي في مؤتمر صحافي بُغية الحصول على خبر أو معلومة أو استجلاء حقيقة أو تبيان موقفٍ، وبين أجناسٍ أخرى من الملتقيات الصحافية، مثل لقاء التنوير الصحافي والملتقى التفاكري والتشاوري بين مسؤول أو مسؤولين وصحافيين وقادة رأي. وأظنُّ - وليس كلُّ الظنِّ إثماً - أن هذه المفاهيم الصحافية اختلطت على الرسيل مزمل، وحجاجي في ذلك أنه خلط بين مفهومين مختلفين في العمل الصحافي والإعلامي. فاقرأ – يا هداك الله – قوله: "يتم عقد المؤتمرات الصحافية في الأصل لتنوير الإعلام حول القضايا المهمة، وللإجابة عن الاستفسارات المتعلقة بها"، دعنا نبسط القول شرحاً وتعليماً، والمأمول أن يجد قولنا رحابة صدر الرسيل مزمل، تفهماً وإفهاماً. فالمؤتمر الصحافي هو أحد أشكال الحديث الصحافي، والحديث الصحافي فن يقوم على الحوار بين الصحافيين وشخصية أو أكثر من الشخصيات العامة التي يقع حديثها في دائرة اهتمام العامة، Public Interest ، وذلك من خلال استهداف الحصول على أخبار ومعلومات جديدة أو شرح وجهة نظر معينة. والمؤتمر الصحافي عبارة عن لقاء منظم، يتم إعداده من جهة معينة سواء أكانت حكومية أم غير حكومية. ويستهدف المؤتمر الصحافي الإجابة على سؤال أو أسئلة في إطار البحث عن إجابة للخمسة دبليو (5Ws). وهناك تعريف آخر جامع للمؤتمر الصحافي بأنه عبارة عن حديث تُدلي به إحدى الشخصيات المهمة في حضور عدد من الصحافيين، وذلك من أجل شرح سياسةٍ معينةٍ أو موقفٍ محددٍ أو شرح قضيةٍ تُهمُّ الرأي العام المحلي أو الدولي أو الإدلاء بأخبار متعلقة بحدث شغل الرأي العام. من هنا أمثال الرسيل مزمل يكتفون بسؤال واحد، هذا إذا سألوا. أما غيرهم فيتذاكون على المنصة، فيجعلون من الفرصة الواحدة ثلاثة أسئلة، بحُجة أن سؤالهم مكون من ثلاثة أجزاء، هذا ما يفعله كبار الصحافيين في الغرب حتى تحصل أوساطهم الصحافية والإعلامية على أكبر قدرٍ من الأخبار والمعلومات، بناءً على تلكم الأسئلة الذكية. أما لقاء التنوير الصحافي كالذي استشهد به الرسيل مزمل، في انتقاده لي، الأول مع الأخ البروفسور إبراهيم غندور الذي تحدثتُ فيه باللغة الإنجليزية لأني أردتُ أن تكون إجاباته وتعليقاته على حديثي خاصة بالصحيفة التي أعمل بها، لأني أدركتُ أنه ليس بين الحضور ومن بينهم الرسيل مزمل من يزاحمني في ذلك. ولكن أحسبه لم يوفق في تعليقه على حديثي الثاني في اللقاء التنويري للأخ عبد الله الأزرق وكيل وزارة الخارجية لسببين، الأول أنه لم يكن حاضراً ذاكم اللقاء، والثاني أن اللقاء التنويري الصحافي يهدف إلى مناقشة قضية راهنة تُثير اهتمام المواطنين. فالجهة المنظمة للتنوير الصحافي تبحث من خلال الصحافيين وقادة الرأي عن آراء ورؤى تُمهد السبيل للجهات المنظمة، اتخاذ القرارات الصائبة. فلا غَرْوَ أن الأخ الأزرق كان يردد أكثر من مرة قائلاً: نحن نريد أن نسمع منكم انتقاداتكم ومعالجاتكم عن مزاعم اغتصاب جماعي من جنود سودانيين، ونطرح عليكم خلافنا مع بعثة "اليوناميد"، فهو بذلك يريد أن يسمع من أصحاب الرأي كيفية المعالجة الصحافية والإعلامية في هذا الشأن. فالمداخلات التي تكون في التنوير الصحافي ليس لزاماً أن تكون في شكل سؤال أو أسئلة، بل تُطرح فيه معالجات تُسهم في تشكيل رأيٍ عامٍ مؤيدٍ حول قضيةٍ مهمةٍ. وفي ما يتعلق بالملتقى التفاكري والتشاوري مع الصحافيين، تلتمس الجهات المنظمة له موجهاتٍ وأفكاراً حول القضية أو القضايا المطروحة من خلال مُداخلات الصحافيين وقادة الرأي. فالصحافة في العصر الحديث لم تعد مجرد خدمة تقدم الأخبار والمعلومات أو تصبح مجرد منصة للحوار، ولكنها تُقدم آراء ورؤى لمجتمعاتها. أخلصُ إلى أن اللقاء التنويري والملتقى التفاكري تحرص الجهات المنظمة على بلورة الأفكار الرؤى التي يطرحها هؤلاء الصحافيون وقادة الرأي. ومن الضروري أن أُشير هنا في خاتمة هذه العُجالة إلى بيان جمعية رؤساء تحرير الصحف الأميركية عن مبادئ أخلاقيات الصحافة: "إن الصحافة الأميركية حصلت على حريتها لا لكي تقدم المعلومات فقط، أو لكي تصبح مجرد منصة للحوار، ولكن لكي تقدم أيضاً فحصاً دقيقاً ومستقلاً، تعمل قوى المجتمع المختلفة حساباً له، بما في ذلك السلطة الرسمية على جميع مستويات الحكومة". ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ". وقول الشاعر العربي، أبي الطيب أحمد بن الحسين المعروف بالمتنبئ: وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ وكَذا تَطْلُعُ البُدورُ عَلَيْنَا وكَذا تَقْلَقُ البُحورُ العِظامُ