ما أن أخطرني، عبر الهاتف، الصديق محمد الجزولي بنبأ زيارة شقيقه، الصديق حسن الجزولي، لمدينة برسبن الأسترالية، حيث يقيم ويعمل محمد، حتى فكرت – كما فكر أصدقاء آخرين وصديقات أخريات – في حثه له على زيارة ملبورن، حيث أقيم الى جانب عدد كبير من السودانيين والسودانيات. ثم فكرنا – نحن بعض أفراد من الجالية السودانية في مدينة ملبورن ممن تربطه بهم- بهنّ أواصر مختلفة – في أن نجعل لزيارته طعماً اجتماعيا وثقافيا عاما. فكانت فكرة أن نستضيفه في أمسية حوارية، التي مالبثت الصديقة تماضر محجوب، ذات الحساسية الاجتماعية الرحبة والذكية، أن أقترحت أن يكون طابعها تسامريا وليس نخبويا. وجد اقتراح تماضر منا ترحيبا وحماسا. ومن ثم غدا المفهوم التسامري أرضا أنشأت عليها حوارا امتد لبضع حلقات – حتى قبل وصول حسن الى ملبورن – عبر وسيط الاسكايب. من تلك الحلقات تمخطت معظم المحاور التي تناولها حديث حسن في "أمسية مسامرتنا" له في ملبورن. حاوره عادل القصاص * دعنا نبدأ الإضاءات حولك وحول تكوينك بأن تحدثنا عن البيئة، التنشئة والمؤثرات الأولى؟!. + أعتقد أنه تكوين ناتج عن تنشئة وبيئة مؤثرة وتربية بالتأكيد،، ودعني ألج مباشرة لأم درمان كمدينة، فالجميع يتحدثون عن مدنهم وقراهم ومنابعهم في مثل هذا المقام!، أم درمان كمدينة كانت مهد الحاضنة منذ نشأتي وطفولتي وصباي الباكر ،، مشاهداتي والانطباعات الأولى، ترعرعت في منطقة بأم درمان تسمى بكرش الفيل لدى العامة ووادي عبقر لدى إنتلجنسيا من يوثقون لها!، ،، ضمت أعلام السودانيين، أزهري ، عبد الله خليل، عبدالخالق محجوب، شيخ علي عبد الرحمن ، مبارك زروق، ومن المطربين كرومة، برهان، محمد ميرغني، ترباس، ولعيبة الكورة برعي أحمد البشير والضب وصديق محمد أحمد ورجال للفكر والأدب كمنصور خالد، علي المك، ، وشعراء كحسن عوض أبو العلا، وأحمد محمد صالح وابنه الديبلوماسي الشاعر صلاح وشقيقه الاذاعي الراحل عبد الرحمن، ومحسنين كعبد المنعم محمد وشقيقته وأعلام مجتمع أم درماني وسوداني كعصمت معني وآل أبو العلا،، والطريق الشاقي الترام!.)!. * حسناً ،، يا ريت إن تحدثنا عن تأثير البيت والأسرة فيما يخص النشأة والتأثير!. أسرة ديمقراطية، والد مستنير كان نقابياً وحزبياً في الأصل منتمي لنقابة الممرضين من فترة نشأة كيانهم النقابي الأول عندما كان (أجزجي) في مستشفى النهر بالخرطوم بحري ثم تدرج في الوعي الطبقي ليصير عضواً في الجبهة المعادية للاستعمار فيزامل الوسيلة والتيجاني وعبد الخالق وزروق والجزولي وبدر الشيخ وآخرين، ثم والدة مستنيرة حملت معه عبء الوعي بقدر استطاعتها ووعيها، كانت تربيتنا بدون تزمت، حتى بالنسبة لشقيقاتي ،، فشقيقنا الأكبر كمال وشقيقتنا الكبرى أميرة أرتبطا بمواقع المعرفة والتلاقح الاجتماعي والسياسي، اتحاد الشباب، الاتحاد النسائي، أبادماك، فحملا مع الوالدين أعباء التربية والتوجيه في مرحلة لاحقة، وهكذا فتحوا لنا طرق الوعي والانتباه خلال تشجيعنا على اهتمامات وهوايات بدأت بسيطة بالتشجيع في الصحافة المنزلية الحائطية. وكذا المدرسية الحائطية والاهتمام بهوايات الشعر والرسم والمسرح وخلافه. * يا ريت نماذج ،، التأثير الأولي له أهميته كما أعتقد!. + إن أردت تفاصيل يا عادل ، أحيلك لتأثير حياة المجتمعات المختلطة ،، زي إشلاقات الجيش مثلاً وبحكم مهنة الوالد كمجند فيما بعد بالسلاح الطبي عشنا في ثكنات الديش في عدة مدن ومن بينها العاصمة،، ودي كانت تضم جماعات وشعوب من مختلف بقاع السودان، مختلف القبائل والسحنات، والثقافات دي تقريباً هي العرفتنا أكتر في الصغر والكبر بالسودان العريض متعدد الثقافات والهويات ،، ولذلك لمن إستوعبنا مضمون زي دا ما كان بالنسبة لنا ولي على وجهه التحديد يشكل عائق في الفهم والهضم، عشان كدا ساهم في بلورة مفهوم قضايا ليها علاقة بالتعدد والهوية والانصهار داخل منطقة زاخرة ثقافياً وتراثياً. ورسخت فينا مفاهيم التلاقح الثقافي بحكم البيئة أكثر من التنافر بحكم الدين والمعتقد. فتبنيت مفاهيم زي دي فيما يخصني والعالم من حولي وبنيت عليها. * طيب المدرسة وتأثير البيئة التعليمية كانت كيف؟!. + أعتقد إني منتمي لجيل محظوظ بمقارنات المناهج التعليمية اللي أصبحت غير مستقرة في ظل الأنظمة اللي فرضت نفسها مؤخراً وأصبحت تقعد وتفرض نفسها أطول فترة في حياة الناس في السودان، أنحنا إستمتعنا بمناهج تعليمية وبرامج تربوية غنية ، المدرسة بالنسبة لينا كانت هي الحياة الحقيقية التي نعيشها من السابعة صباحاً وحتى الثامنة مساءاً ،، بمعنى إنو المدرسة كانت تتقاسم التربية الأساسية لنا كأطفال وصبية مع أسرنا، فأسرنا هي اللي جادت قريحتها بالمقولة المشهورة " ليكم اللحم ولينا العضم"!،، الأسرة كانت تثق في المدرسة! ،، والأنشطة داخل المدرسة من الابتدائي وحتى الثانوي كانت غنية وكانت محبذة وكانت جاذبة، جمعيات تصوير، مسرح وجمعيات وزراعية وأدبية والمنازل والرحلات المدرسية وجمعيات الصحافة. والصحف الحائطية. والمسرح والتشكيل ،، وفعلاً ،، زي ما بقولوا حسع " المافي شنو"!. * فيما يخص بيئة المدرسة ربما أنك تعني تأثير المعلم الوطني الديمقراطي والمستنير وإسهاماته في التأثير على تلميذه أو طالبه!. + في المقام ده ربما كنا ضمن الأجيال المحظوظة كما ذكرت، كون أن المعلم نفسه كان مستقراً نسبياً في معيشته، فقد درسنا عدد من أساتذة أجلاء كان لتأثيرهم أثر بارز على نشأتنا وتوجهاتنا مستقبلاً، في مرحلتي العام والثانوي العالي تحديداً، وهؤلاء ساهموا قطعاً في تنمية قدراتنا اللغوية والنحوية والجمالية إضافة لذائقتنا الأدبية والمعرفية، أساتذة لا زلنا نكن لهم كل تقدير وامتنان ومحبة ومكانة رفيعة كالما وردت ذكراهم أحياء وأموات، أساتذة زي أنور محمد عثمان والخبير المسرحي المعروف فيما بعد وقد درسنا مادة التاريخ، والشاذلي مولود أستاذ التربية الوطنية في الثانوي العالي وأساتذة كعيسى الحلو وفيصل مصطفى كتاب قصة الستينات + شيخ مصطفى شاعر المعهد العلمي وصديق التيجاني يوسف بشير + أساتذة من الزمن الجميل حباهم الله بالطرافة والجمال في العلائق الاجتماعية بين الاستاذ وتلميذه ، كمثال أشير للمربي الجميل أستاذنا وصديقنا الحبيب طمبل، والذي تعرفت على علاقته الأسرية بكم يا عادل، وهو والد هيثم لاعب المريخ وفاكهة مجالس أم درمان والعاصمة إلى جانب عوض دكام وأحمد داؤود والهادي نصر الدين . في الثانوي درست على أيادي أدباء في مقام الشعراء محمد عبد القادر كرف ومهدي محمد سعيد والذي تغنى له زيدان إبراهيم (جميل ما سألناه ولكنا هويناه)، الدرديري ساتي أحد رواد المسرح الجامعي مع النصيري وعلي عبد القيوم، الشاعر النور أبكر والروائي إبراهيم إسحق وآخرين لا تسعني الذاكرة بتعداد أسمائهم للأسف. * وربما أن هذه الأسماء ساعدت في إنجذابكم نحو عوالم الكتابة والأدب والقصة القصيرة؟!. + نعم بالتأكيد، ما أذكره أن أستاذنا القاص فيصل مصطفى وكان أستاذاً لمادتي اللغة العربية والتاريخ، قد إختار مجموعة طلاب من كافة فصول المدرسة، "بيت الأمانة العامة لاحقاً" وقد نظم بهم مسابقة عامة في كتابة القصة القصيرة ، ما أذكره أنه أعطانا مقدمة لنبني عليها عوالم الحكاية، فجاء عملي في المرتبة الأولى، ومنذ تلك الفترة إنطلقت بإشرافه وآخرين في كتابة القصة القصيرة والاهتمام بعوالمها، وأذكر إني شاركت في مسابقة أكبر نظمتها ندوة أم درمان الأدبية بمناسبة يوبيلها الفضي فكنت ضمن العشرة الأوائل الفائزين في تلك المئسابقة، وهكذا عرفت طريقي نحو الصفحات الثقافية للصحف التي بدأت تستقبل وتنشر أعمالي القصصية، وكنت محظوظاً أن كان من يشرف على تلك الصفحات أساتذة وأدباء في مقام علي الك وعيسى الحلو. وبالفعل وكما ذكرت أنت فللأستاذ دوره الريادي والمتقدم في ترقية عوالم تلميذه واكتشاف المداخل الملائمة لتوجهاته وتطوره في مستقبل حياته. * .....!. + في السنوات ديك بتزكر إنو أصدرت صحيفة حائطية مع عدد من الأصحاب في المدرسة، الصحيفة دي استمرت نحواً من خمس سنوات بمدرسة بيت الأمانة العامة، وبتزكر كتبت عنها الصحف بعد تضامنها مع اضراب الصحافة السوداني عام 68 وأعتقد إنو كان إضراب شهير له علاقة بالحريات العامة وكان من المفترض تنظيم معرض صحفي لهذه الصحيفة التي لا نزال نحتفظ بعدد وافر من أعدادها، وفكرة المعرض جاءت في الأساس من حبيبنا الراحل محجوب شريف إلا أن المرض وتسارع صراع محجوب معه حال دون تنفيذ الفكرة، ما هو طريف حول المعرض أن السيد الصادق المهدي كان من المفترض أن يفتتحه، وإن سألتني لماذا الصادق المهدي تحديداً، فلأن الصحيفة كانت قد بعثت له بمجموعة أسئلة عام 1968 عندما كان رئيساً للوزراء بغرض إجراء حوار صحفي مع سيادته، ولسبب ما لم تصل تلك الأسئلة إليه ولكنا عرفنا أنه ما يزال على استعداد للإجابة على تلك الأسئلة، وكان سيكون مانشيت المعرض الأساسي " أسئلة صحفية توجه لرئيس الوزراء الأسبق عام 68 ليرد عليها في العام 2008"!. * سنوات الستينات نفسها شهدت صعوداً في الاهتمام بالأدب والثقافة بشكل عام وبرزت أتجاهات في الابداع وجماعات متعددة، أبرزها " مدرسة الغابة والصحراء وجماعة أبادماك، + وقتها كنا يفعاً، ولكنا قطعاً كنا ضمن المحظوظين بالتعرف على قامات من هؤلاء المبدعين، تعرفنا على عدد من رموز الثقافة السودانية منذ منتصف الستينات وكنا نلتقي بعضهم بمنزلنا كأصدقاء لشقيقنا الأكبركمال ، زي عز الدين عثمان الكاريكاتير الأشهر في عقد الستينات والسبعينات، الصحفيين صديق محيسي ويحيي العوض وميرغني حسن علي وعبد الله عبيد، المسرحي يوسف خليل وإبراهيم حجازي قريبنا ، عبد الهادي الصديق ومحمد المهدي بشرى وعبد الله جلاب ، محمد المهدي المجذوب وعبد الله حامد الأمين في ندوته التي كنت أمشي ليها مع كمال، ولاحقاً استطعت التعرف على مجموعات واسعة من أصدقاء شقيقنا كمال ومداخل أخرى ، وزي ديل كتيرين جداً، أثروا فينا بشكل مباشر واستفدنا من توجيهاتهم وملاحظاتهم السديدة التي درجتنا في هذا الحقل. * المكتبات العامة والخاصة وحتى المكتبات المدرسية التي كان لها وجود قد تكون أثرت أيضاً في تنشئتكم الأدبية والإبداعية؟!. - دون شك وملاحظتك سديدة، فقد توفرت لنا امكانيات لقراءة كتب منتقاة بعناية فائقة تركت أثرها علينا ( جرجي زيدان، سلامة موسى، روائع الأدب والمسرح العالمي، زي البؤساء لفيكتور هوجو والأم لمكسيم جوركي والحرب والسلام لتلستوي، نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد ويحيي حقي ومحمود أمين العالم وتوفيق الحكيم والطيب صالح وأحمد فؤاد نجم والأبنودي وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور وأحمد أمين ، روز اليوسف وصباح الخير ومجلة الدوحة والصبيان وسوبر مان والوطواط ولولو وصديقها طبوش وطه القرشي في المستشفى ، حتى أصل الانسان عند دارون، شعراء فلسطين درويس وسميح القاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو وغالبية شعراء السودان قديماً وحديثاً ،، المسرح والسينما والموسيقى والغناء السوداني والرياضة وكورة القدم والسلة والسباحة) من جانب آخر لامسنا وتعرفنا على قضايا شعوب وحركات تحرر وطني ، فلسطين والجزائر واليمن الديمقراطي والصحراء الغربية، ظفار في البحرين وأرتريا، وموزمبيق وأنقولا وكوبا وفيتنام وحركة الفهود السود ومارتن لوثر كنج وأمريكا والامبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية ، وزعماء سياسيين ومفكرين طليعيين منهم ماركس ولينين، وماو وشوان لاي وجياب وهوشي منه وجيفارا وكاسترو ولوممبا وغسان كنفاني، أمريكال كابرال وأغستينو نيتو وسومورا ميشيل وجومو كنياتا وجوليس نايريري وأحمد بن بيلا وهواري بوميديان وعبد الناصر وعبد الفتاح اسماعيل وجميلة بوحريد وانجيلا ديفز والفدائية الفلسطينية ليلى خالد، وفي السودان عبد الخالق محجوب ومحمد أحمد محجوب ومحمود محمد طه والصحفيين السودانيين) ودي كلها أثرت في وعينا وتوجهاتنا فيما بعد. * .....!. + ممكن أضيف ليك أجواء نهاية الستينات وزخم السبعينات من أنشطة ( المسرح وأعمال ديبلومات خريجي معهد الموسيقى والمسرح ، صالات العروض التشكيلية، نادي السينما السوداني، سينمات العاصمة وأفلامها، الفرق الموسيقية للجاز تحديداً والتأثر بموضة السبعينات من أزياء ومظهر وشكل ، فرق الكشافة وأنشطة الكديت في الثانوي والأسواق الخيرية في حدائق المقرن والريفيرا والجندول.