مرت السنوات ، ولن تمر ذكرى كبش الفداء الهابط عبر مسارات الأنجم من خلال السماوات ، وتدلى للقاء اليوم الموعود ، بمعية ملاكٍ مأمور . ذلك اليوم لا يشبه يوماً من أيامنا . فمساء الخميس السابع عشر من يناير 1985 ، خَطَب الإمام بالبزة العسكرية ، وقد أعد القتلة الحقيقيون من وراء حجاب للشهيد المسرح المأساوي ، وسنوا سكاكين الذبح.حالوا من قبل بينه وبين أصفيائه من حوارييه. فالحكم قد صدّروه مُذهباً ينتظر التوقيع ،وبتاريخ مضى منذ الستينات من القرن الماضي ، وما من حاجة لاستتابة كما صدروه ، وما على الإمام إلا التوقيع . فما " للحدود " من قول سوى إتّباع قرار ليس له من تبديل. تقمص فيه الجهلة اللئام مشيئة الله وظنوا أنهم كتبوا القرار في اللوح المحفوظ، كأنهم صانعي الموت أو الحياة ! . الصمت أظلم النهار الفاقع ، وتجمعت المرارة في الحلوق. ونجم شمسنا ملأت أضواء الدنيا ، صامتة حزينة في جمعة الثامن عشر من يناير 1985 . وحده الكبش كان فرِحاً بالرحيل ، واستطعم إفطاره ، بل كان يعرف ساعته ، وأوصى تلامذته قبل ذلك بأيام من اعتقاله بأن روحه ستذهب قرباناً ، قبل أن يأت الطوفان . قال لحوارييه : أذهبوا أنتم طلقاء من المصير الذي ينتظرني ، وأن دمه عشقٌ مُباح وجُبَّته قميص أبيض رهيف ،وجبهته فنار . تعرفه السُفن الضالة لتهتدي وهي تبحث أين تكون المراسي، وأين يستبين المنهاج؟ . (2) أيستبين قاصري النظر الذين خطفوا السلطان المسروق بليل ، وهم يلبسون الناس خُرق رمادية ويبشرون بالموت ؟. جرّبوا كل السُبل وقد اختبئوا من وراء الجناية عند موعدها ، واختاروا أقل الناس وضاعة وجهلاً ولؤماً ليكونوا في منصة القضاء ، يهدرون العدل بالجهالة ، يختارون التُهم ويجربون استخدام التشريع وتبديل القضية أمام المحكمة بأخرى غيرها . وهو وعد قطعوا للذين كانوا يدبرون الأمر كله .وتصدوا للقصاص من الفكر ، وما استطاعوا فقد كانت حُجة الشهيد التأويل ، وحُجتهم البتر . ووجدوا أن اغتيال الجسد وفق رأيهم سيغتال الفكرة ،وما كانوا يعلمون أن جسد الشهيد المذلول لعبادة الله ، هو الجسد الذاكر ، الطاهر والروح الناطقة بذكر الله في السرّ والعلن . تلك اللغة الناصعة ، لا يدركها إلا الذين يعلمون ، وما كان للجهل من سلطان إلا على القتلة ، فالنهج قد اكتمل بناءه . والعين قد زالت غشاوتها ، والبصيرة قد أجْلت ما كُنا نجهله من خبايا التأويل والفضاء المفتوح على المعرفة والفهم المتجدد ، لآيات أزكت الفكر وإعماله ، وكرّمت العقل ووسائل تدبيره . (3) لنرى الآن ما جرّ علينا نهج التكفير من ضمور في العقل المفكر ، واستعجال قتل النفوس وإزهاق الأرواح لشُبهة خلاف في الرأي ، أو قُل نقص في إدراك تدبُر مقاصد الذكر الحكيم ، فأسقط الجهل النشط آليته على العقيدة ، وجرّ باسمها الشرور مطلوقة القياد ، بل تصدر ساحة التشفي في القتل وتصويره بآلة حضارية تحط من شأن الإنسان ، بدل أن تكرمه . وباءٌ انتشر ووقوده بين العامّة من المُنوَّمين بسلطان الطاعة الممنوحة لمن لا فكر لهم ولا عقل ولا ضابط. يطلقون الفتوى من علٍ، ويذهب إلى نارها الشباب والأطفال والشيب والنساء ، تزر وازرة وزر أخرى بلا ذنب ! . لم نسمع بشيخ من أصحاب الفتوى يأتزر بحزام ناسف ، بل بُسطاء الشباب ،أو الأطفال الذين لا يعرفون ،يحملون أحزمة القتل ، يفجرون أنفسهم أو يُفجِّرَهم من جَهّزهم للتفجير من بُعد . فئة قليلة من القتلة القادة يهمهم الإعلام ، والمال والسلطة التي تغيب عن أعين البسطاء ، ولكنها لن تغيب عن الذهن الذي يكتشف الحقيقة وسط الضباب المُفتَعَل . (4) {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } محمد24. للذكر الحكيم عجائب لا تنقضي ، معاني ترتقي برُقي الفهم والمعرفة ، لمن يُحب أن يتعرف كيف بدأ الذكر الحكيم ب أقرأ ، والرب يعرف من يخلصون إليه لا الكذبة المُجردين من خصال الإنسانية ، ومن يحبهم مولاهم يفتح لهم سماوات البصيرة فيرون ما لا يرى الناس . لذا لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون . والإبحار كفاحٌ ، ييسره المولى للذين يحب ، فيبصرون كل شيء ولا يُبصر الناس . أيعرف الواحد منا كيف ينقّي سريرته من الشوائب ويُقبل على قراءة القرآن بتدبّر ، فتنفتح الأبواب المغلقة بينه وبين ربه ، ويتعرف على لذة التلقي بلا واسطة . هذه الدنيا كلها تتحدث عن فجور التكفير والتقتيل والبشاعة ، أيمكن أن يكون هؤلاء مهتدون ، قبل أن يتحكموا في البشر ؟.وها هو الذكر الحكيم يخاطب النبي الأكرم : طه{1}مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى {2} طه2 . أيمكن لهذا الإسماح المبين ، وهذا اللطف الخلوق وتلك الرقة الموصولة بين الرب ونبيه ، أن تكون هادياً للذين قتَّلوا الأنفس وهجّروا مئات الألوف بدعوة نشر العقيدة ؟. (5) نجمع قطفاً من مزهرية الشهيد الفكرية من مزرعة الرسالة الثانية : تأويل الشهيد في فكرة المعاوضة : {ليس إلى الحقيقة وصول إذا ظللنا أسرى أوهام الحواس ، وإنما الرشد أن نجعل ما تَرى الأبصار مجازاً إلى ما ترى العقول ، وما ترى العقول مجازا إلى ما ترى القلوب . وهو الحق ، ثم هو الحقيقة ، في الفينة بعد الفينة .فالقرآن ساق معانيه مثاني .. معنى قريب في مستوى الظاهر ، ومعنى بعيد في دقائق الباطن ، ولكن القاصرين عن المدارك لم يفطنوا إلى ذلك ، فجعلوا الآيات التي تجاري أوهام الحواس ، والتي تجاري أوهام العقول ، سندهم ، وبنوا عليها علومهم ، فضلّوا كثيرا وأضلّوا .أما الصوفية فقد فطنوا إلى ذلك ، وعَلِموا أن أوهام الحواس ، وأوهام العقول ، يجب التخلص منها بأساليب العبادة المجوّدة ، التي تبلغ بهم منازل اليقين المحجَّبة بحجب الظلمات ، وحجب الأنوار.وكلما قلَّ الجهل ، وزاد العلم، قلَّ الشر ، ورُفعت العقوبة ، عن المعاقبين ، في تلك المنطقة التي وقعت تحت علمهم. (فالعقاب ليس أصلاً في الدين )، وإنما هو لازمة مرحلية ، تصحب النشأة القاصرة ، وتحفزها في مراقي التقدم ، حتى تتعلم ما يغنيها عن الحاجة إلى العقاب ، فيوضع عنها إصره ، وتبرز نفس إلى مقام عزّها.} (6) لغة صاغها الشهيد واضحة كل الوضوح ، متوسطة الفخامة في معظمها وجزلة في بعضها ،لأن النبؤ في المعرفة تُقرّب من الكشوف النورانيّة للنص القرآني حين تدبُّر معانيه :{ أفلا يتدبرون القرآن ...}النساء: 82].والنص القرآني يُعدي بحلاوته وجزالته ، وعند المحبة الكُبرى تتنفس الريحانة الفكرية . فقدنا برحيل الشهيد تلك الصبوّة و تلك الحلاوة اللغوية المكتوبة ، وبقينا مع الأثر الذي تركه ،حين تبوأ منصّة الكتابة ، وقد فرّ منها أبناء جيله إلى لغة المشافهة . ففي باب "التسيير خير مُطلق" من كتاب (الرسالة الثانية من الإسلام ) ، نجده قد وضع المنهاج وأبان في صلب الفكرة أن ( العقاب ليس أصلاً في الدين ) ، وذكر عقاب الآخرة وأنه لا يدوم أبد الدهر . والتناول المطلق لنص العقاب ليس أصلاً في الدين ،هي قضية أجَّل الشهيد الغوص في تفاصيلها ، وترك أمرها لمن بعده ، ليحفر الفكر في بواطن المعركة الفكرية في مجتمع لما يزل يتمسك بالقشور ، وتراثه موصول بمؤسسة التقليد والإتّباع . ربما لم يحن وقتها بعد. فقضية "المعاوضة في الشريعة" و"المعاوضة في الحقيقة "باب يحتاج إعمال للفكر يتسق مع منهاج التأويل الذي اتخذه " الشهيد محمود محمد طه " ، لأن العقوبات والمعاوضة ، وردت في الآيات المدنية ، وهي التي شكّلت تحوّل دولة المدينةالمنورة عند نشأتها عاصمة لدولة النبوة الأولى، قبل أربعة عشر قرناً. وتلك أبواب مفتوحة للنهل ، وبِركة محبّة للشراب الحلو. عبد الله الشقليني 25 يناير 2015 [email protected]