الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إذا الشعب يوماً أراد الجدال! ؟؟ بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 03 - 02 - 2015

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
(1)
شعرت بالاشفاق الشديد على حبيبنا العميد صلاح الدين محمد احمد كرار احد القادة التاريخيين لانقلاب العصبة المنقذة، وهو يناهد ويجاهد خلال حواره في برنامج (فوق العادة) مع الاستاذ ضياء الدين بلال قبل ايام لينفي، ربما من غير طائل، للمرة المائة بعد المائة أي صلة له بتدبير وإنفاذ قرار اعدام المغفور له بإذن الله مجدي محجوب محمد احمد في ديسمبر 1989.
الحقيقة النجلاء، شاء من شاء وأبى من أبي، هي أن كرار لا علاقة له حقاً وصدقاء بتلك الكارثة من قريب او بعيد. ولكن رئاسته للجنة الاقتصادية لمجلس قيادة الثورة آنذاك أوحت لعدد كبير من مناضلي الكيبورد، الذين اشعلوا فتيل الاتهام في المبتدأ، بأن مطاردة المتهمين بحيازة العملات الصعبة لا بد ان تكون من اختصاص لجنته، وانه بالتالي هو المسئول الاول.
ومن سوء حظ القيادي الانقاذوي ان بروز دور الشبكة العنكبوتية في بدايات الألفية واكبه في ذات الوقت ظهور طائفة القُصّاص الاسفيريين. وتلك طائفة من معارضي الشتات الاوربي والامريكي ممّن اوغلوا وطعنوا في السن، فأحبوا ان يجدوا لانفسهم أدواراً تشغلهم وتكون عوناً لهم على معاظلة ليالي اوربا وامريكا الباردة. أوهم هؤلاء القصّاص صغار السن من المناضلين بأنهم يعرفون كل شئ عن أى شئ يتصل بماضي السودان وحاضره، ثم سدروا في رواية الاحاجي والحواديت.
استيقظ القيادي الانقاذوي من نومه ذات يوم فوجد نفسه غارقاً في قلب مئات الروايات التفصيلية التي اخترعها هؤلاء، مقاومةً للبرد، ونهوضاً في ذات الوقت بواجبهم الثوري في إلهاب فتيل الانتفاضة المرجوة. وهكذا فصّل القُصاص أدواراً مفترضة للعميد كرار في التخطيط للجريمة، وتدبيرها وتنفيذها، ثم ألبسوها إياه عنوةً واقتدارا. فكان كلما نفى العميد صلته بالقضية تضاعفت الروايات حول تورطه فيها، حتي كاد الرجل يستيئس من روح الله. ومن خصال السودانة الراكزة انهم إذا حكّموا رؤوسهم ونسبوا اليك أمراً فلا فكاك لك من بين ألسنتهم إلّا ان يأتيك فرج السماء.
جزء لا بأس به من الحقيقة حول من هم الذين كانوا في الواقع وبالفعل من وراء مأساة اعدام ذلك الشاب الوضيء الورع تجده، أعزك الله، في فقرة واحدة قصيرة من كتاب حبيبنا المحبوب عبد السلام (تأملات في العشرية الاولى لحكم الانقاذ: دائرة الضوء وخيوط الظلام). ولكن من يقرأ؟ ومن يتنبه؟ ومن يُعمل عقله؟!
ولعل مما زاد وضاعف من مأساة العميد كرار افول نجمه في سماء الدولة الانقاذوية. وهذه دولة أمرها عجب. شعارها: الويل للآفلين. فإما ان تصعد وتبقى في الاعالي كالشهب والنيازك، او أن تهبط فتمشي في الارض هائماً تحدث نفسك، حتي يحسب الناس انك من الممسوسين.
بل ان هذه الدولة، بحسب الاستاذ يوسف عبد المنان الكاتب الراتب بصحيفة (المجهر)، تفرق بين أصحاب المعالي الوزراء الكرام من قياداتها تفريقا. كتب عبد المنان في عموده (خارج النص) الاحد الماضي في وصف ذلك الواقع المدهش: (في الانقاذ هناك وزير المساس به يعني المساس بالدين والاخلاق والقيم الفاضلة، وقد يذهب بك الى اسفل سافلين، ويحجب صحيفتك عن الظهور لسنوات. وهناك وزراء لحمهم حلال، والتعرض لهم تعبير عن الحرية). ومن سوء حظ الكرار أن لحمه اصبح حلالاً للمناضلين وللمنقذين على حدٍ سواء. كلهم تعلموا حلاقة (التعبير عن الحرية) فوق رأسه!
(2)
لكأن صاحبي ضياء الدين بلال، يريد ان يغيظني، ويوالي حبيبنا الآخر السفير خالد موسى دفع الله، فأورد ضمن خطوط الصفحة الاولي من صحيفتنا (السوداني)، منسوباً الى السياسي القديم أحمد ابراهيم دريج، أنه صرح ضمن حواره في حلقة اخرى من حلقات برنامج (فوق العادة) بقناة الشروق، ان الرئيس جعفر نميري كان إبان سنوات حكمه يعتدي بالضرب على وزرائه. وضرب الرئيس السابق لوزرائه عقيدةٌ لا حِوَل عنها من عقائد السوادنة، تماماً مثل عقيدة تدبير كرار وتورطه في جريرة إعدام شهيدنا مجدي.
ثم قرأت الكاتب الساخر صلاح التوم منّ الله يكتب في زاويته بجريدة (الصحافة) العبارة التالية: (استمعت الى احمد ابراهيم دريج يقول بكل ثقة: ان النميري كان يعتدي على الوزراء). حبيبنا صلاح التوم منّ الله إذن لم يستمع الى دريج وهو (يقول) فقط. بل استمع اليه وهو يقول (وبكل ثقة). وفارق بين القول مجرداً والقول بالثقة. وأعلى من ذلك مقاماً القول (بكل الثقة)! وبخلاف ضياء الدين، المتستر وراء محرري الصفحة الاولى، فإن صلاح منّ الله لم يخف نيته في ان يغيظني، إذ أورد اسمي مثلثاً، قبل ان يمضي في مشروعه (التوعوي) الواثق.
وعلى خطى هؤلاء كانت الاستاذة سمية السيد رئيسة تحرير صحيفة (التغيير)، إذ كتبت في مجموعة (الواتساب)، التي تجمعنا، تناديني: (يا البطل ها هو دريج يقول ان نميري كان يعتدي على الوزراء). بيد أن الإغاظة في الواتساب المغلق أخف وطأة من الإغاظة في الصحافة المفتوحة!
فكرت في البدء ان استهدي بالله، وأنا ألعق کأس الهزيمة، فأكتب اعتذاراً للشعب السوداني عن ما (تنطعت) به من تشكيك في الروايات المتداولة عن ضرب النميري لوزرائه، فأُقر واعترف بأن النميري كان يضرب الوزراء بيديه و(يشلتهم) بقدميه. عسى ان يكون ذلك المسعى عوناً لي في الفكاك من أسر المصيدة النميرية التي اوقعت نفسي في شباكها. وأحسبك، أعزك الله، تنتظر مني ذلك الاعتذار في التو واللحظة. فإن كنت كذلك فاسمعني اقول لك: تلقاها عند الغافل!
(3)
بعد حوالي اسبوع من الحوار الذي أجراه ضياء الدين مع السياسي المخضرم احمد ابراهيم دريج وجدت نفسي جالساً، وبجانبي كوب كبير من الشاي المخلوط باللبن، امام شاشة كمبيوتر عرضها ستٌ وعشرون بوصة، أستدعي من اليوتيوب حلقة الحوار، الذي صدعوني به تصديعاً، فأشاهده واصيخ السمع الي الشيخ الدارفوري العتيد.
ولك ان تتصور، هداك الله، حجم الدهشة التي انتابتني عندما اكملت المشاهدة والاستماع، واكتشفت ان السيد/ احمد ابراهيم دريج لم يقل أبداً ان النميري كان يضرب وزراءه. أي والله. لم تجر تلك الكلمات قط على لسانه، كما أوهمني القوم. الذي قال وردد تلك العبارة هو حبيبنا المستر ضياء الدين بلال، فقط لا غير! ولذلك فقد كان من الأصوب والأحري بصاحبي صلاح التوم منّ الله ان يكتب: (استمعت الى ضياء الدين بلال وهو يقول بكل ثقة ان النميري كان يضرب وزراءه)!
اتصور ان هناك عشرات الآلاف داخل السودان وخارجه شاهدوا ذلك الحوار. ولا بد انهم مثلي لاحظوا ان السياسي الذي قارب التسعين لم يقدم اجابات حقيقية على جلّ، ان لم يكن كل، الاسئلة التي طرحت عليه. وفي احيان كثيرة لم تكن هناك علاقة بين الاجابة والسؤال. بل وحتى في معرض الاجابة على الاسئلة غير الحساسة، ذات الطابع الاجتماعي المحض، فقد استمعت الى اجابات غريبة لا معني لها في بعض الاحيان، حتي لقد خيّل لي ان الرجل ربما احتسى اكواباً من (الشربوت) قبل الشروع في الحوار!
على سبيل المثال في معرض اسئلة قصيرة سريعة عن المدن السودانية التي أحبها دريج وارتبط بها وجدانيا كان ضياء الدين يورد اسم المدينة وينتظر الاجابة عن الذكريات والانطباعات وعبق التاريخ. قال ضياء: "زالنجي". وهنا حدق دريج في الهواء لبعض الوقت ثم جاءت اجابته على النحو التالي: "بعرف فيها ناس كتار". هنا حدق ضياء نفسه في الهواء لوهلة، محتاراً، ثم مضى الى المدينة التالية فقال: "الدويم"، حيث عاش الضيف سنوات خصيبة في منطقة بخت الرضا. وهنا صمت دريج برهة ثم قال: "برضو بعرف فيها ناس كتار". وكانت هذه هي كل الاجابة!
استمعت بتركيز شديد الى السؤال عن النميري على لسان ضياء الدين: (هل صحيح ان الرئيس نميري كان يضرب وزراءه)؟ ثم دققت في اجابة الاستاذ احمد ابراهيم دريج الذي رد قائلاً: (والله النميري ده كان راجل رياضي، وراجل حمش، ومفتل، وعنده عضلات)، ولم يزد حرفاً يعبر فيه عن معرفة او دراية بحدوث الواقعات موضوع السؤال. وبطبيعة الحال فإن الاجابة قد تحتمل ضمنا معنى (يجوز)، لا اكثر ولا أقل. أى انه من الوارد ان النميري كان يضرب الوزراء، بحكم أنه رياضي و(حمش) و (مفتل) و(عنده عضلات). ولكن الفارق مهول بين الاحتمال الضمني الذي يفرزه الاستنتاج، وبين عبارة قطعية مثل كلمات الصحافي صلاح التوم منّ الله: (استمعت اليه وهو يقول بكل ثقة ان النميري كان يضرب الوزراء)!
يا سبحان الله! ألم أقل لك يا هذا قبل هنيهة ان السودانة اذا حكموا رؤوسهم على شئ، تشبثوا بعروته تشبثاً، وفتلوا له الاسانيد فتلاً، واعتسفوا الأدلة في برهانها اعتسافاً، على نظام (أخنق، فطّس)!
(4)
الذين عاصروا الحقبة المايوية يدركون بغير ريب ان احمد ابراهيم دريج لم يكن لصيقاً بالرئيس السابق ولا حتى قريباً منه بأي وجه من الوجوه. بل كان بعيداً تماماً عن النميري ودائرته، رغم انه تولى منصباً دستورياً في عهده. كان دريج يعيش مهاجراً ومستثمراً في المانيا عندما اندلعت التظاهرات الشعبية في دارفور عام 1981 احتجاجاً على تعيين العميد الطيب المرضي حاكماً للاقليم، ولم يكن من ابنائه. ثم عندما جرى اعفاء المرضي بقرار جمهوري وتعيين الاستاذ دريج نفسه حاكماً للاقليم بناء على رغبة الغالبية الدارفورية.
لم يكن النميري يحتمل ان يطالع وجه دريج، ناهيك عن ان يحادثه، فكان كل ما رآه قطب حاجبيه وعبس، واشاح عنه. وفي تاريخ حكمه لم يمقت النميري، بعد حلفائه الشيوعيين الذين انقلبوا عليه وانقلب عليهم، سوى ثلاث فئات من البشر نغصت حياته وأذلت كبرياءه: الدارفوريين الذين اجبروه على عزل الحاكم الذي اختاره لهم وتعيين آخر في مكانه، وعمال السكة حديد في عطبرة الذين صعقوه بسلسلة اضرابات قزمته وكسرت هيبته في النفوس، وقضاة السودان الذين تمردوا على سلطته وتوقفوا عن العمل، وانتهي الحال بالنميري الى قبول استقالاتهم الجماعية اولاً، ثم الامتثال مكرهاً لمطالبهم بعد ذلك.
وقد قضى الاستاذ احمد ابراهيم دريج في منصبه اشهراً قلائل حضر خلالها عدداً محدوداً للغاية من الجلسات الموسعة لمجلس الوزراء، وهي جلسات استثنائية كان يحضرها حكام الاقاليم. وكانت آخر جلسة حضرها دريج، ثم غادر البلاد بعدها بلا عودة، تلك التي حدث فيها صدام مباشر بينه وبين الرئيس نميري، حين ابدى دريج احتجاجه على عدم اتخاد الحكومة المركزية اجراءات كافية للتصدي لمظاهر المجاعة في الاقليم والحظر الواقعي الذي كان يفرضه النظام على منظمات الاغاثة الاجنبية الراغبة في تقديم العون. كما اظهر عدم رضائه ايضا على حملات اخلاء العاصمة التي كانت تقودها القوات النظامية في اوائل الثمانينيات، شاكياً من ان هذه الحملات استهدفت في الاساس أبناء دارفور.
وقد غضب الرئيس على دريج ورد عليه بكلمات غليظة (ولكنه لم يضربه). ثم غادر النميري القاعة ودخل الى مكتبه مقهوراً وهو في حالة الغضب تلك. وتولى نائبه اللواء عمر محمد الطيب رئاسة الجلسة بدلاً عن الرئيس.
زبدة القول أن دريج قضي في منصبه أشهراً قلائل، لم يكن فيها من اصفياء الرئيس السابق او المقربين له. كما لم يكن من المداومين بل ولا حتى من الزائرين لأماكن وجوده وعمله، باستثناء حالات محدودة. ويستتبع ذلك بالضرورة أن شهادته عن سلوك الرئيس السابق لا تختلف في شئ عن شهادة مئات غيره من شاغلي المناصب العامة، الذين سمعوا روايات متضاربة عن تعامل الرئيس مع وزرائه، فإما استسخفوها وردوها على اعقابها، وإما قبلوها وطفقوا يرددونها على مسامع الناس.
وعندما يقول (والله شوف، هو كان رياضي ومفتل وعنده عضلات وحمش)، فهذا لا يعني اكثر من الترجيح الظني، وجوهره انه ربما كان النميري يضرب الوزراء فعلاً، ولكنه لا يقطع بذلك، ولا غرو. فلو قطع لكان كاذباً!
من المفارقات ان صحيفة (الرأى العام) نشرت قبل عدة اسابيع صورة للرئيس السابق داخل غرفة نومه الخاصة ايام سطوته وصولجانه، وهو يرتدي فانيلة داخلية بغير أكمام (حمالات)، وفيها يظهر ساعديه، ضعيفتان مهزولتان، وان كان جسده مربوعاً. والحقيقة ان النميري ربما مارس الرياضة في سنوات دراسته الثانوية بحنتوب، ولكنه لم يعرف بمزاولتها بعد ذلك، كالامام الصادق المهدي على سبيل المثال. ولم يكن جسده متناسقاً تماما، لولا ألق وبهرج الزي العسكري الذي كان يرتديه كل الوقت، كما انه كان قصيراً نسبياً. لم يكن الرجل في الواقع رياضياً، ولا (مفتلاً)، ولم تكن له (عضلات)، كما ظن دريج. وانما هي الهيبة التي تأخذ بالابصار وتزغلل العيون، يضاف اليها روايات القُصاص وحواديتهم واحاجيهم!
(5)
وأقاصيص القصاص لا تنتهي. هاك هذه الرواية وقد نشرتها صحيفة (الرأى العام) قبل اسابيع، ونشرت معها الصورة التي حدثتك عنها. والرواية ترد على لسان رجل قيل انه عاصر النميري ايام اقامته في منزل خصصته له الحكومة المصرية في ضاحية مصر الجديدة بالقاهرة بعد عزله من منصبه. قال الراجل، ويفترض انه شاهد عيان، شاهد ولم يسمع، أن النميري اراد ذات يوم ان يغادر منزله بصحبة زوجة أخيه مصطفى التي جاءت مصر للعلاج، وكان مقصد الرجل وزوجة اخيه عيادة طبيب بالقاهرة. ولكن ضابط وجنود الحراسة منعوه من الخروج وابلغوه بأنه تحت الاقامة الجبرية. عظيم. وماذا فعل النميري؟
بحسب رواية الرجل فإن الرئيس السابق أوهم الحراس انه سيعود الى داخل المنزل، ولكنه اتجه الى السور الخارجي الخلفي وتسلق السور ونجح في الوصول الى قمته، وكاد يقفز منه الى الناحية الاخرى في الشارع المقابل. ولكن احد ضباط الحراسة شاهده، فأمسك بقدميه وجرجره جراً، حتي سقط النميري على الارض. وهنا قام النميري ووقف على ساقيه مرة اخرى، ثم صفع الضابط المصري على وجهه غضباً وانتقاماً!
هل بلغك أبداً، اعزك الله، أن الرئيس السابق كان يقيم في القاهرة تحت الحراسة الجبرية، وان السلطات المصرية كانت تمنعه من مغادرة المنزل؟! أنا شخصياً لم يبلغني ذلك!
هاك واحدة اخرى: في مادة صحفية نشرت عام 2014 قالت الصحفية السودانية آمال مينا انها ذهبت لمقابلة النميري في القصر الجمهوري لاجراء حوار صحفي، وانها ارادت مناقشة الرئيس في امر قوانين الشريعة الاسلامية التي كان قد أمر بتطبيقها في كافة انحاء البلاد. ولكن النميري غضب منها بسبب ذلك و(ضربها). واتصور انه صفعها على وجهها، ولم يضربها بالكرباج!
قوانين الشريعة الاسلامية جري اعلانها في سبتمبر 1983 وسقط نظام النميري في 1985. كنت أنا وقتذاك موجوداً في دواوين الرئاسة وفي قلب الاحداث. كيف اتفق انني لم اسمع بتلك الحادثة؟ وكيف اتفق ان كل الصحافيين السودانيين لم يسمعوا بها ولم يتداولوها؟ وكيف اتفق ان واقعة الضرب الدرامية حدثت في سني تطبيق الشريعة النميرية 1983 - 1985 ولم تجد طريقها للنشر والاشهار الا عام 2014، اي بعد ثلاثين عاما من تاريخها؟! وكيف اتفق ان السيدة آمال مينا، وكانت وقتها صحفية عاملة، ضمن عشرات الصحفيين والصحفيات في صحف الحكومة، ولكنها لم تكن في منصب اعلامي قيادي، سُمح لها باجراء حوار مع الرئيس مع ان حوارات الرئيس على قلتها كانت قصراً على رؤساء التحرير وكبار الاعلاميين؟ وكيف اتفق ان السيدة آمال مينا أرادت ان تناقش الرئيس حول الشريعة الاسلامية حتى اغضبته فضربها، وهي قبطية مسيحية، بينما لم يكن الصحافيون المسلمون يجترؤون على مناقشة الرئيس حولها؟!
(6)
هذه وتلك، كلها اسئلة معلقة. ولكن لا بأس. فكما أن الناس مصدقون في أنسابهم، فكذلك هم مصدقون في أقاصيصهم. أنا شخصياً اصدقها جميعا، فهي تبدو لي سليمة ومنطقية ولا غبار عليها أبداً. فلا يغضب مني أحد.
ثم ان هناك رواية جديدة خاصة بالفقير الى ربه كاتب هذه الكلمات، كنت استخفي بها زمناً، ولكن آن اوان الاعتراف والاقرار. لقد كنت أجلس ذات يوم في مكتب استاذي ومديري عبد العزيز الطيب الهندي نائب مدير مكتب رئيس الجمهورية لشئون التكامل مع مصر (مدير مؤسسة ظلال للاستشارات بالعمارة الكويتية حالياً)، ذات يوم من ايام فبراير 1982. وفجأة ومن غير مقدمات دخل علينا الرئيس السابق وعيناه تتطايران شرراً، وسأل الاستاذ الهندي عن شئ لم اتبينه. وفجأة رأيته يمسك بزمارة رقبة صاحبي ويطيح به ارضاً، ثم يرفعه بكلتا يديه ويخبط به الارض مرة ثانية.
ثم التفت الرئيس الىّ وكنت اقف مشدوهاً، وسألني في عصبية فائقة: انت منو؟ تعال هنا. فسرت اليه مستسلما، ثم فوجئت به يمسك بي بكلتا يديه ثم يقذف بي من نافذة المكتب بالطابق الرابع الى الارض.
وكان من نتاج هذه الحادثة انني اصبت بارتجاج في المخ، لعله هو الذي تسبب في حالتي العقلية الراهنة التي تجعلني في كثير من الاحيان اميل الى اللجاج والجدل العبثي حول قضايا بديهية مسلّم بها، يعرفها الجميع، ويتحدثون ويكتبون عنها (بكل ثقة)!
من هو هذا المخبول الذي قال ان الرئيس النميري لم يكن يضرب الوزراء والمسئولين وعامة الناس ويوسعهم (تشليتا)؟!
نقلاً عن صحيفة (السوداني)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.