[email protected] التقيت بأم بدة بالشيخ جامع على التوم بعد نحو أربعين عام منذ آخر اجتماع لنا ببادية الكبابيش. وجامع هو من آخر 4 أبناء للشيخ على التوم زعيم الكبابيش المعروف (توفي 1938). وترأس محكمة سودري بالتناوب مع أخيه المرحوم فضل الله. وفضل الله هذا أول نائب أذيع اسمه فائزاً بالتزكية عن دائرة الكبابيش في برلمان 1954. وصار جامع نائباً في الجمعية التأسيسية 1968 عن دائرة الكبابيش الشرقية ثم في غيرها من من المجالس النيابية اللاحقة. ووجدته في لقائي بأم بده كعهدي به حفياً خفيض الصوت سريعاً إلى الملحة. عرفت جامعاً ورهطه حين انتدبتني شعبة أبحاث السودان بكلية الآداب في 1966 لدراسة فلوكلور الكبابيش. وكانت مغامرة ربما تهيبها ود مدينة حداثي مثلي. فقد نشأنا في حياة "الحلة" (وهو الاستقرار في القرى والمدن في كلام الرعاة ) على أن حياة الرعي طيش كبير ونوع من الجاهلية ولن تقوم لهم تنمية بغير أن يستقروا صاغرين بأمر الدولة. ولكني كنت قرأت "ذكرياتي في البادية" لحسن نجيلة فأطلعني على نظم البادية النسيقة في اقتصادها واجتماعها وثقافتها. وهيأني للتعامل مع مجتمع راشد عقلاني. ولكن هناك من زملائي الكتاب من يعتقد أن آفتنا التي تقعد بنا عن النهضة هي "الذهن الرعوي". وما زلت أراجع صديقي كمال الجزولي عن هذه العقيدة. لم يمنع رأيي غير الحسن في الإدارة الأهلية من أن أقيم أوثق العلائق مع رجالها بين حجولة الرباطاب ونوراب الكبابيش وأتذوق سهرهم على شغلهم بين الناس. فأنا أدرس في هذه الظاهرة (التي لا أعتقد فيها شخصياً) عنصر قيادة أهلها للناس وكيف يسوسونهم في طرقها التقليدية بقبول (وربما إذعان) لم يتأت لقيادتنا الموصوفة بالحديثة. وأذكر وأنا بهذا السبيل نادرة وقعت لي خلال إقامتي بين الكبابيش. فقد زار دكة (نزلة) الناظر بأم سنطة ضابط الصيد بمديرية كردفان. وعرض مسألته على الحضور وهي وجوب امتناعهم عن صيد الغزلان. وهذا مطلب حق. ولكن ما ساءني أسلوبه في عرضه للمسألة. بدا لي كأنه "يسمع" لائحة الصيد عليهم تسميعاً. فجعل من نفسه مدرساً يلقي المواعظ عن قدسية الحياة البرية على تلاميذ لا على صيادين ذوي ولع بحيوان الخلاء. وأفسد كل ذلك بإفراطه في الشرب فأخذ يلغلغ حرفياً بمحفوظاته الأولية. وانتبهت في هذا الأثناء لشيخ جامع (وكان نائباً بالجمعية التأسيسة) يقول له: -يا فلان افندي. والله كلامك دا عين الحقيقة. ومن بكره أنا حأمر بالعرب أشدد عليهم وأقول لهم الحظر الحظر من كتل الغزلان. والسنة الجاية إن شاء الله أنا نازل الانتخابات في دائرة غزلان. ولم يفهم الأفندي الكلام. ومن آيات هذه القيادة التقليدية فروسية متلافة للروح والمال. فقد حكى لي جامع عن أيام أخيه الشيخ محمد على التوم الأخيرة. والشيخ ملقب ب"المر" بين أهله. وكان الوكيل لنظارة القبيلة لعقود. وهو الذي استجداه الأستاذ الفرجوني بقصيدة عصماء ليهبه جرو من كلابه المشهورة في مضمار الصيد. قال جامع إن السن تقدمت بأخيه ومرض مرض النهايات. فوصى الطبيب بأخذه إلى مستشفى سودري شريطة أن يأتيه راقداً على سرير بصندوق السيارة. وهو وضع يسمح بتدفق الداء في الرأس حتى يصل المستشفي. ولما خرج ليركب البوكس توجه لفوره إلى كرسيه في كابينة القيادة. فراجعه أهله الذين كانوا أعدوا له سريره في صندوق العربة. وذكروه بتعليمات الطبيب. فركب في موضعه المعروف من السيارة قائلاً: -طول عمري راكب قدام ما في شيء بيأخرني الليلة. وسارت العربة ولم تمض دقائق في الرحلة حتى أسلم الشيخ الروح.