(برقو ومن غيرك يابرقو)    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    بيان هام من السفارة السودانية في تركيا للسودانيين    "بناء الدولة وفق الأسس العلمية".. كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    نبيل عبد الله: قواتنا بالفرقة 14 مشاة صدّت هجومًا من متمردي الحركة الشعبية بمحطة الدشول    كيف تغلغلت إسرائيل في الداخل الإيراني ؟!    أكثر من 8 الاف طالب وطالبة يجلسون لامتحانات الشهادة الابتدائية بسنار    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    فيكم من يحفظ (السر)؟    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د.الشوش: من إحتراف التثقيف إلى قيادة الشمولية ... بقلم: صلاح شعيب
نشر في سودانيل يوم 13 - 12 - 2009


salah shuaib [[email protected]]
كانت مجلة (الدوحة) القطرية الرافد الثقافي المميز الذي ينتظره جمهور الثقافة والأدب من المحيط إلى الخليج لما تجود به من دسم المقالات والدراسات. الراحل الطيب صالح، ولكونه وكيل وزارة الإعلام القطرية وقتها، نجح في إستقطاب صديقيه د. محمد إبراهيم الشوش والاستاذ النور عثمان أبكر للمجلة، حيث تسنم الأول رئاسة تحرير المجلة الوليدة، فيما صار الثاني سكرتيرا لتحرير المجلة التي تم رصد ميزانية ضخمة لتحريرها وطباعتها. وربما يصدق القول هنا إن سعي قطر للإهتمام بالإعلام وتأثيره لم يبدأ بقناتها الفضائية التي سحبت البساط من الإعلامين المصري واللبناني، واللذين كانا الأكثر تأثيرا في الإقليم، سياسيا وثقافيا وأدبيا وفنيا ورياضيا.
ففكرة وجود مجلة بإسم الدوحة والتي صدرت في نهاية السبعينات وكذا مجلة الأمة، ذات الطابع الفكري الإسلامي المتخصص، مثلت محاولة قطرية باكرة لإختراق سوق الإعلام العربي، ونجحت قطر في هذا المضمار في ظل تراجع مراكز إعلامية مؤسسة عجزت، بسبب عدم حوزها للمال النفطي، في المحافظة على ريادتها. فضلا عن ذلك فقد سعت قطر بمجلة (الصقر) الرياضية إلى جذب الإهتمام إليها برغم أن مستوى رياضاتها كان ضعيفا وأن فريقها لكرة القدم مثلا كان يخسر بإستمرار في دورة الخليج لكرة القدم. ومع ذلك نجحت مجلات (الدوحة والأمة والصقر) في لفت النظر إلى التفكير الإعلامي القطري الباكر في غزو سوق الإعلام العربي وإحراز نجاحات معتبرة مثل النجاح الذي حققته الآن (الجزيرة) وأصبحت ذائعة الصيت أكثر من الدولة نفسها، ومؤثرة أكثر من أي مؤسسة إعلامية أخرى على نطاق العالم العربي. والغريب أن هذه المجلات وقفت فجأة عن الصدور ولكن الدوحة والصقر عادتا من جديد فيما تجرى خلف الكواليس محاولات دؤوبة لإصدار صحيفة قطرية دولية تنافس صحيفتي (الشرق الأوسط) و(الحياة) اللندنتين، وبالتالي تكون مؤسسات قطر الإعلامية قد سيطرت إعلاميا أرضا وجوا، وبحرا عبر أثير القناة، وهي المثيرة لغيظ المراكز العربية التقليدية، إلى مركز الغرب لمخاطبته بلغته التي يفهمها من جوف واشنطن.
إذا عدنا بالذاكرة للوراء لوجدنا أن مواطننا الشوش، وطاقم التحرير الذي صقلته أروقة وأضابير الثقافة، نجحا أيما نجاح في التخطيط لإصدار مجلة ثقافية حوت كل صنوف الثقافة والأدب من دراسات إجتماعية ونقدية، وشعر وقصة، ومقالات، وتشكيل. فضلا عن ذلك فقد إستقطبت المجلة عددا لا يستهان به من رموز الثقافة العربية الكبار دونما تحيز لدولة ما. وأذكر أن كبار أدبائنا وقصصتنا وروائيينا وجدوا إهتماما من إسرة تحرير المجلة، حيث قرأنا فصولا من رواية مريود للطيب صالح ومقالات للبروفيسور عبد الله الطيب وعلي المك ومحمد عبد الحي والطيب صالح وخالد المبارك وغيرهم كثير.
وربما يمكن القول إن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الحقل الثقافي العربي التي يجد فيها مبدعون سودانيون فرصة للنشر في مجلة صادرة من هامش للمركز العربي يحاول أن يفرض نفسه على مراكز القاهرة وبيروت وبغداد. ونعتقد أنه لولا وجود الطيب صالح والشوش وأبكر في قطر لما أمكن الإهتمام بالثقافة السودانية ومنحها مجالا في ذلك الفتح الإعلامي/الثقافي المميز. والدليل على ذلك أنه عندما آلت رئاسة تحرير مجلة الدوحة للدكتور رجاء النقاش قل الإهتمام بالأدب السوداني وهكذا ظل بسياسة تحريرية جديدة ينحاز إلى الأدباء المصريين إلى أن توقفت المجلة. والدليل الثاني هو أن المجلة بعد عودتها للصدور بعد عقدين من التوقف لم توجد إهتماما ملموسا بإنتاج مبدعينا كما دلنا واقع صفحاتها الآن، خصوصا وأنهم لعبوا دورا كبيرا في تأسيسها وإنجاحها. والدليل الثالث أن المجلة لم تسع لإستقطاب كتاب منتظمين من السودان وفاء لدور الطيب صالح والدكتور الشوش والاستاذ النور عثمان أبكر والذين جعلوا أسم المجلة على شفا كل المهتمين بالثقافة والأدب على نطاق العالم العربي، ولم يستغلوا سودانيتهم لتقصير صفحات المجلة على أبناء جلدتهم، أو تهميش كتاب من جنسيات أخرى. والشاهد أن رموز الثقافة والإعلام المصريين واللبنانيين دائما ما يركزون على توظيف إنتماءاتهم في المهمات التي توكل لهم لبناء مؤسسات فكرية أو سياسية او أدبية أو صحفية أو فني ذات طابع قومي عربي، وبالتالي يقصرون التوظيف على مواطنيهم المبدعين دون غيرهم.
إن النجاح الذي حققه الشوش، والمدفوعة وظيفته بإمكانيات لوجستية هائلة في مجلة الدوحة، كان تتويجا لمجهودات بذلها في حقل الأكاديميا والكتابة النقدية. فقد عرف الشوش عميدا لكلية الآداب ومدير لدار النشر التابع لجامعة الخرطوم، وناقدا في مجال الأدب السوداني ومترجما وكاتبا مهتما بقضايا الثقافة السودانية والعربية والعالمية، بالإضافة إلى ذلك فإن أديبنا الشوش يعتبر من كتاب القصة القصيرة، فقد أصدر مجموعة "وجوه وأقنعة" والتي قال الناقد المثابر أحمد ضحية بمفارقتها وعزى ذلك إلى أن "إعتماد الشوش للمفارقة جاء من كونه احد افراد جيل التحولات الاجتماعية والسياسية الضخمة، التي عاشت الهزيمة السياسية والاجتماعية لسودان ما بعد الاستقلال، ورأت احلامها الكبرى تنهار يوما بعد آخر، فلم يبق امامها سوى الغربة و الشعور بالغرابة. وحملت كتابات هذا الجيل آثار هذه الهزيمة لتكون هنا - في السرد - تجسيدا للمفارقة بين الحلم والواقع في تطور المجتمعات السودانية" وحقا أن دور الشوش لا ينكر في الأدب السوداني فقد ضم مقالاته النقدية في كتاب " أدب وأدباء". وأصدر كتاب "الشعر الحديث في السودان" ثم "الشعر كيف نفهمه ونتذوقه " فكتاب (نوادر هذا الزمان). أما الذين عبروا عن تقديرهم لكتب الشوش ومبادراته الثقافية أبانوا عن إهتمامه بنقد الرواية والقصة والشعر وأنه تميز بذاكرة معرفية ثرة عمقتها تجاربه العملية ومساهماته في الحقول المعرفية، ولعل ترشيح الطيب صالح له لقيادة أسرة تحرير مجلة الدوحة جاء على خلفية هذه الإسهامات ولم يخزله، فقد كانت الدوحة منبرا ثقافيا، ولا يزال البعض يحتفظ بنسخ منها.
ومن ما نذكره أن الناس أشاعوا يوما خبر بعض ملاسنات للأديب عبدالله الطيب تجاه الأديب المرموق والذي هو محظ إهتمامنا. فقد قالوا على لسان مدير جامعة الخرطوم السابق أنه يكره ثلاثة شينات يستحوذ الشوش على إثنتين منهم، ولقد تتابعت الإشاعة وقيل أن جفوة ضربت معاقل العلاقة بين أبن دامر المجذوب وإبن أتبرة. ولكن الشوش في حواره مع مجلة الخرطوم الجديدة (أوراق جديدة العدد الأول يوليو 2005م) يفذلك لهذه الواقعة بقوله عن الأديب عبدالله الطيب: " تقابلنا في نيجيريا وجلسنا وبدأت العلاقة تعود من جديد، لكن الناس لم يرحموها بالنوادر والحكايات التي أصبحت جزءاً من الفلكلور السوداني وكثير منها غير صحيح وإن كان بعضها صحيحاً وقيلت عنه مقولة (الشِينات) الثلاث الشهيرة أنه يكره (الشيوعية.. الشايقية والشوش) والذي في اسمه تجتمع شِينان فضلاً عن (الشلوخ) التي كان منصور خالد يعتبرها عيباً، وقد روى شيخ عطبرة عن عبد الله الطيب- وقد كانت بينهما علاقة قوية- أن الشوش يطلق على البقر الناكر للجميل بحضور منصور خالد الذي سأله وكيف يكون البقر ناكراً للجميل؟ قال: تعطيه علفاً ولا يعطيك لبناً وبعض الناس أبلغوا أبي بهذا الكلام فاتصل بعبد الله الطيب وأنكر هذا الكلام تماماً."
بعد مثول الإنقاذ ثقف دكتور الشوش قلمه، وهاجم الإنقاذ بضراوة، وبقي معارضا لها في مهجره بكندا التي حصل على جنسيتها، فيما بقيت مقالاته في صحيفتي الإهرام المصرية والفجر التي أصدرها الاستاذ يحيي العوض نارا أسبوعية متلظية على جلد الإنقاذ، حتى أنه كتب مرة قائلا في بعض مقالاته التي أحتفظ بها:
"والذين يتذلفون للجبهة ويهرولون طمعا في مصلحة تحقق لهم لن يصيبوا شيئاً مما يتهافتون عليه لأن المفهوم التسلطي التي درجت عليه الجبهة الحاكمة والطريق الذي اختارته سيؤدي إذا ما قدر له ان يستمر ولم تستيقظ بعض رموزه الخيرة الي حرب أهلية تهدد السودان كله بالتمزق والفوضي..".(جريدة الفجر، العدد 78 ، الاحد 8نوفمبر 1998، الموافق 19 رجب 1419ه ) وبعد مضي أقل من عقد على هذا التصريح لا يجد أديبنا النحرير الشوش أية سبة من دمغه بالهرولة نحو (مراسي الجبهة) حيث وطفته دبلوماسيا وكان نصيبه "ملحقا إعلاميا" إحتضنته الدوحة التي كان قد ذهب إليها في السبعينات لينشر المعرفة من المحيط إلى الخليج، وليوطن المعرفة التي تعين قراء العربية على مجابهة الفشل التاريخي في التنمويات الفكرية والثقافية والإجتماعية، وهي التنمويات التي تطعن، إن جاز حدوثها، ظلامية مفاهيم التسلط وحروب التمزق والفوضى التي قعدت بالعالم العربي دون توطين الحداثة الذي بذله رئيس تحرير مجلة الدوحة الغراء.
ولا يقنع الشوش المعارض بذلك التصريح بل يقول عن منظومة الإنقاذ التي حاربها في كل اسفاره ومنتدياته ومحاضراته وجلساته الخاصة إن "..النظام يجني علي الناس جناية تبلغ حد الجريمة فلا يؤنبه ضمير ولايحقق ولايعتذر، بل ويصدر صكوك الغفران لمن أذاهم وحبسهم وشردهم ويجوب الارض يستجدي السلاح من مخلفات قوم لا أخلاق لهم ليقصف بها الابرياء ويقهر بها الخصوم، ثم يتهم الذين اجبرهم لحمل السلاح ضده بانهم خونة يستعينون بالاجانب، يحجر علي الفكر ويصادر حتي الصحف الموالية له وينكل بخصومه ويضع قيوداً علي همساتهم وتحركاتهم، ويطلق زبانيته وجهلته عليهم ان اوقعهم سوء الحظ في يده، ويتحدث عن مناخ الحرية والانفتاح المتاح للسودانيين تحت حكمه المقدس، ويتحدث عن رفضه للارهاب الذي يتعارض كما يدعي وثوابته الدينية والاخلاقية ولايعرف من تلك الثوابت ألا مصلحته وتكمين حكمه.."(جريدة الفجر العدد48 الجمعة 10ابريل 1998 الموافق 13 ذو الحجة 1418ه) .
كل هذا التقريظ أصبح من مخلفات ماضي الاستاذ الجامعي التي كفر بها نهارا جهارا ليلوذ إلى خدمة النظام المنتقد عبر مهمات خصصت لصد غائلة الهجوم عليه في الفضائيات العربية ومجلة المجلة، قبل توقفها الأخير، وصحيفة المؤتمر الوطني (الرائد) والتي إحتضنت مساهماته ككاتب يبصق قلمه على تلك المخلفات ولا محالة أنه يلقى أجرا زهيدا على هذا الصنيع. فالنظام المنعوت بقلم الصحافي المثقف أنه يجني على الناس صار كريما على واحد من أشرس معارضيه، كرما ربما يغيظ إعلاميي الحركة الإسلامية الذين حفروا على الصخر عبر صحف (الراية، وصوت الجماهير، وألوان) ليوجدوا صوتا نافذا للتنظيم في وقت كان د. الشوش يناصب (الجبهة الإسلامية القومية) العداء لا محالة. ولكن، على أية حال، كان نصيب الشوش أن يتم إستئناسه ضمن هرولات المثقفين التي وجدت محظات جديدة للإسهام الوطني لا تكلف رهقا مثل رهق توطين الحداثة أو الديمقراطية في مجتمع يفتقر لثقافة عصرية للتخلص من فضلات معدته. وهكذا تبقى تلك الهرولات الفردية والجماعية والقبلية مبررة بكل سهولة إذا تفاجأ الماسكون على جمر القضية بأن مثقفين كبار تنكبوا جادة الطريق وساروا على نحو حزين نحو السقوط في باحات الشمولية التي ضنت بإكرام الرموز الثقافية المؤلفة قلوبها بسفارات نفطية أو أوربية كاملة مثل التي يهرول بعض الدبلوماسيين إلى مكتب الوزير للتوسل إليه لتسنم إدارتها حين تخلو لاسباب طارئة، أو آن مثول زمن التنقلات. فالشوش والذين تركوا قضية المعارضة من المثقفين خلفهم لا يجدون كثير عناء في تبرير هذه الخطوات الجديدة للإسهام الوطني، فكل ما يمكن أن يقال للجوقة التي تمسك على الجمر هو قول الشوش بأن دور الإعلاميين تجاه التعبير عن قضايا السودان يجب أن يتم وفق نظرة قومية) ولا ينى من التنبيه الى "خطورة مايستهدف السودان" يوم أن إستقبله نفر من السودانيين في إحتفال اقيم على شرفه في الدوحة حين تقلد منصبه. وقال للمحتفين به إنه " ليس من واجبنا الدفاع عن حكومة او حزب، وانما عن بلد غني بحضارته" مركزا على (ضرورة ألا يتجاوز الناس عن اي مظالم او اخطاء، لأن النقد مطلوب، وان الخلافات والجهوية هما الثغرة التي يدفع ثمنها الجميع في حال استهدف الوطن).
برر الشوش إستوزاره بهذا (الإنشاء) أمام ذلك النفر الذين بينهم من فقدوا منصابهم بسبب النظام الذي يدافع عنه الشوش تحت غطاء (نظرية التآمر) كسقف أعلى يداري به سوءة خدمة الشمولية وقيادتها فكريا، وإذا كان الشوش يرى أنه لا بد من نقد هذه الحكومة التي إنتمى إليها حتى يدخل في نفوس المتشككين حول خطوته هذه الطمأنينة بأنه لا يبصم على صفحة الأخطاء السلطوية، فمن الأولى بالنسبة لنا أن نوجه النقد له حتى ندخل في نفسه الطمأنينة بأن الذين قرأوا مادة نقده في الكتب والمجلات تعلموا منه أن النقد، أونقد النقد، هو ثمرة من ثمار زرعه القديم، وما عليه هاهنا إلا تثبيت إهمية (نقد النقد) ليجابه هذه الكتابة بدفوعاته عن فكرة تحوله من خدمة رواق الثقافة إلى دعم بلاط السلطان.
ويقول الشوش في مقال له"..المجموعات المتنافرة التي جمعها النظام من كل حدب وصوب يحملون بثورهم وامراضهم تنكر لهم وغدر بهم واغلق الابواب في وجوههم عند اول بادرة محاسبة وأرسلهم الي الكهوف والجبال، وما شكره أحد بل ظل مطارداً مطالباً بالمزيد.. والجنوب الذي أعلن في ارضه الجهاد وبشر بالنصر الموعود تسانده القرود والمطر واوراق الشجر تنازل عنه لحفنة انفصالية انتهازية لم يجن منها غير مدفوعات الطعام والشراب والعربات الفارهة وتسويق سحناتهم في رحلات الاستجداء..ما أفلح كل ذلك في تغييب ملامح النهاية الوشيكة: يراها في مصارف نهبت اموالها، واقتصاد مدمر محاصر ووجوه معذبة اضناها البحث عن لقمة العيش وفساد اخلاقي استشري بسبب الحاجة وارجل مهرولة نحو الخارج، وقوي شرعية قبلت التحدي وحملت السلاح.." جريدة الفجر، العدد 19، الاربعاء 17 سبتمبر 1998، الموافق 16 جمادي الاول 1418ه
إذا كان ذلك التقرير الناقد للنظام لا يزال ماثلا، وأن النهاية الوشيكة للمنقود تلبست مصير الناقد، إذن فما الذي جعل الاستاذ الجامعي المرموق، والناقد المنصف، والكاتب الشغوف بتسجيل الموقف الوطني الحاذق، أن يترك كل هذه القناعة وراء ظهره لينتهي عند أبواب السلطان ليوزره في وظيفة إستحقها بعض الذين تخرجوا على أيدي من درسهم؟ هل (نداء إستهداف الوطن المظنون بخفة) هو السبب على إعتبار أن المسافة تلاشت بين الوطن والحزب وبقي (المؤتمر الوطني) هو حارس السودانيين أمام (هجمات التآمر) أم أن الدكتور الشوش تيقن بحدسه الفني أن ثمة تنازلات لا بد أن يبدعها المثقفون الكبار، وبالتالي عليهم أن يخدموا الأنظمة الشمولية، بصرف النظر عن الموقف الذي يتوقعه المواطنون من أبنائهم المثقفين الذين تعلموا ثم بعثوا لدراساتهم العليا عبر مال الخزينة من أجل أن يعينوا أوضاع الناس بالدعوة للحرية والديمقراطية والعدل والمساواة وتحقيق سبل التسامح والتقدم والرفاه؟ والسؤال الأكثر إلحاحا هو: هل كان لا بد لكل هذا التاريخ الذي بناه الشوش في تسميد حقول الثقافة محليا وإقليميا وتعليم الأجيال أن ينتهي إلى (إنتحار ثقافي) رخيص على أبواب دبلوماسية تسد قليلا من الرمق، وتوفر مكتبا، ومنزلا، ومرتبا، وبعض نثريات؟
ما دام أننا لا نتوفر الآن بالطبع على إجابات مباشرة من ناقدنا الهمام على هذه التساؤلات، فإن المهم إدراكنا أن رئيس تحرير الدوحة السابق يدرك لا محالة أن دور المثقفين إبان سطوة الشموليين على أوطانهم تتصاعد بإتجاه المثال المشهود في الموقف ضدهم وليس بإتجاه التخاذل المقيت وتلقي عطاياهم. ولعله الشوش الذي لا ينكر الجميل والعارف لمواقف المثقفين في إرث الإسلام والعروبة أو إرث الإنسانية، وما كان له أن يخرج من حصاد معرفته بهؤلاء المثقفين والذين بقيت ملاحم سيرتهم نضرة بفكرة أن يصير ممثلا لنظام شمولي ليس بينه والثقافة إلا ما صنع الحداد، وما بينه والمثقفين إلا النفي والتشريد، والأمثلة كثيرة.
ولعله الشوش الذي يعلم تماما الحطام الثقافي الذي خلفه (تمكين) العقدين الماضيين. فإذا نظر للمنتجات الفكرية لكوادر الإنقاذ لما وجد كتابا واحدا يضيف للقارئ بعدا معرفيا جديدا في شؤون الإسلام أو الوطن أو الأفريقانية أو العروبة أو السودانوية، وإذا ألم بسيرة المؤسسات الثقافية والأكاديمية والبحثية والإعلامية لوجد أنها دجنت لصالح آيدلوجيا البؤس الإسلاموي، وإذا بحث بتؤدة وإناة عن إضافات صحافيي الإنقاذ للمعرفة والعلم والثقافة والفن والنقد والمؤتمرات الثقافية والإبداعية لوجد أن لا رأي يعلوا في حرثهم المنشور فوق الرأي المعبر عن مصالح المؤتمر الوطني. أما إذا راجع الشوش أحوال الدبلوماسية السودانية التي يستطعم بها لوجد أن الإنقاذ قد أفرغتها من الكوادر المؤهلة وصارت مواقفها العنهجية مدعاة للضحك والسخرية، ولعرف أن لا تأثير لها في موازين العمل السياسي الذي يعجن خبيزته في الداخل بعيدا عن مشورة الدبلوماسية المهيضة الجناح أصلا. فضلا عن ذلك فإنه سيدرك أن دبلوماسيي الشمولية لا علاقة لهم بواقع شعبهم، فحسبهم أن يتمطوا في وسادة الحياة الرغدة التي يوفرها عمل السفارات.
وإذا كان الشوش قد قارن بين وضعية دار نشر جامعة الخرطوم والتي كان مسؤولا عنها يوما لراعه ما حاق بهذه المؤسسة من إستهداف برغم إستقلاليتها المفترضة. ولقد كانت تلك المؤسسة تقدم سنويا (معرض المليون كتاب) وتصحبه بنشاط ثقافي يمتد لمدى شهر كامل تتنوع فقراته وتختلف إتجاهاته الثقافية، فيما كانت الدار حفية بناشئة الأدب، حيث تنشر الروايات، والقصص والدراسات وتهتم بالكتاب السوداني في مقابل الوافد، وكانت تشجع الباحثين على نشر أبحاثهم المختصة بفروع المعرفة السودانية حتى صارت لها ميزانية تمول بها بعض أنشطة الجامعة. وحينما جاءت الإنقاذ شردت كل الكوادر المؤهلة وإعتقلت بعضهم حتى إنهارت المؤسسة.
ثم ماذا عن المجلس القومي للثقافة والفنون والذي كان يهتم بثقافة الطفل ومسرح العرائس ومجلات (الخرطوم، والثقافة السودانية، والوازا)، وهل سأل كاتبنا عن مجلة السودان الثقافية المفتقدة في واقع نظام يدعي أنه يقوم على البعث الثقافي الحضاري؟، وهل سأل عن حال المسارح والسينما ومراكز الثقافة الإقليمية، وأين هو المسرح القومي ومؤسسة الدولة للسينما، ومن الذي شرد خيرة المثقفين والأكاديميين والفنانيين ونفاهم في الأرض؟ ألم تحرك هذه الأوضاع الثقافية المزرية مشاعر المثقف التي كان الأولى لها أن توظف لترقية العمل الثقافي والفني إن كان لا بد من التوظيف؟
يقول الشوش في موضع آخر من المقال"الجبهة كغيرها من الجماعات العقائدية المتطرفة تؤمن ان كل مسألة في الوجود محسومة برأي واحد تمتلكه ولا احد غيرها، بحكم تقمصها للمبدأ أو العقيدة التي قررت أن تتسمي بها او تنتسب إليها، ولان الجبهة اختارت ان تنسب نفسها للاسلام فهي تتقمص بالضرورة كل قوة الاسلام وحصانته إحتكاراً يتكون لدي اعضائها قناعة بانهم هم وحدهم الاسلام حتي وإن تعارضت افكارهم وممارساتهم مع كل قيم الرحمة والخير والتسامح فيه، وتبلغ هذه القناعة حداً من الفحش يجعل في مقدورهم تبرير كل تناقض مع الاسلام حتي ان ادركوا ذلك التناقض وقلما يفعلون، فالقتل والفساد والغدر والحنث بالقسم والكذب وتعذيب المعارضين وكل الممارسات التي تتسم بالقسوة المتناهية والغلظة والتعدي وحتي إغتصاب النساء وتهشيم الرضع، والتي شهدنا طرفاً منها في الجزائر وبعض ممارسات طالبان، تجد عندهم تفسيراً يعجز الاخرون عن فهمه كما لو كان الانتساب الي الاسلام يكسبهم مناعة تبيح لهم الخروج عن روحه وقواعده ونصوصه الصريحة، وقد رأينا بعض المصارف والتي لا تفترق عن المصارف العالمية الا في اضافة صفة الاسلامية لها والتي تبيح في نظر اصحابها ممارسة الربا تحت مسميات اخري واحتكار السلع وبيعها باسعار تفوق قدرة الطبقات الفقيرة." الفجر، العدد 78 الاحد، 8 نوفمبر 1998، الموافق 19 رجب 1419ه
وهل تغيرت (الجبهة) خلال العقد الذي تلا هذا التصريح الواضح والذي لا لبس فيه، أم أن الذي تغير هو كاتب السطور، تغييرا يدفع به للتلاقى في منتصف الطريق مع أعضاء الجبهة والذين (تعارضت أفكارهم وممارساتهم مع كل قيم الخير والتسامح) كما جاء في مرافعة الأديب؟
للإجابة على هذا السؤال هناك إحتمالان: الأول هو أن الجبهة ما عادت من الجماعات العقائدية المتطرفة وعليه فهي تؤمن أن كل مسألة في الوجود غير محسومة برأي واحد، ما يعني ذلك أن الدكتور الموقر وجد أن كل ما كتبه ليس إلا ضربا، لا ضريب له، من مخادعة للقراء الكرام في سبيل إقناعهم بحروف المعارضة، أو أن كوادر (الجبهة) تخلت عن "القتل والفساد والغدر والحنث بالقسم والكذب وتعذيب المعارضين وكل الممارسات التي تتسم بالقسوة المتناهية والغلظة والتعدي وحتي إغتصاب النساء وتهشيم الرضع". أما الإحتمال الثاني فهو أن الدكتور الكريم لم يكن ربما في يوم من الأيام متسقا مع مايقول ويكتب، وبالتالي قيض الله لنا كشف أمره في خريف عمره، حيث تركنا نحن قراء مادته الثقافية وولى الأدبار نحو الذين (يمارسون الربا تحت مسميات أخرى، وكذلك الذين يحتكرون السلع ويبعيونها بأسعار تفوق قدرة الطبقات الفقيرة). نعم هي الطبقات الفقيرة، والتي إنتظر أربابها الدكتور المفكر كثيرا ليرفع من طاقة قدراتها للتعايش وليوفي حيلها بمدد من أسس تدبر لتعليم أبنائها وتوفير الصحة لهم، ولم لا فهو المثقف المتوقع منه أن يخصب الطريق إلى التقدم عبر قلمه، وأن يصارع ضد إغتصاب النساء وتهشيم الرضع.
أما إذا كان هناك إحتمال ثالث فهو أننا ربما لا نعرف جيدا أدب (الواقعية السحرية/السياسية) والذي به يثبت الدكتور الشوش موقفه الوطني، وبه أيضا يحكم دوره كمثقف رائد!. فمن لوازم هذا الضرب من (الترجيع الثقافي السحري) كما قد يقول قائل هو أن يتناوب المثقفون الذين يتم وصفهم ب(الرموز البناءة) في الرقص أمام سلطان الشمولية عراة من شهاداتهم التي منحتها لهم جامعات رفيعة المستوى من ناحية، ومن الناحية الأخرى عراة من تجاربهم المعرفية، والعرفانية، والأخلاقية، التي لم يتم التنور بها حتى إذا فجعنا بهذا التعري ردتنا ذاكرتنا لواقع (السحر السياسثقافي) الذي يفعل في الأدب والأدباء مفعلا خارقا.
وبهذا التصور الواقعي السحري المحتمل لم تتغير الجبهة، ولم يتغير كاتب السطور الذي اسقط بقلمه ورقة التوت العقائدية للجبهة حينما كان معارضا، وإنما الذي تغير هو فهمنا نحن المساكين، وإلا فالأمر مردود لتفسيرات الواقعية السياسية: لا علاقة ود بين مثقف وسلطان، كريم أو لئيم لا يهم. وعندئذ يغدو إحتمالنا الأصوب هو أن الدكتور محمد إبراهيم الشوش سعى لحتف مشروعه الثقافي عبر دبلوماسية الإنقاذ التي هي في عرف من يمتهنونها منزلة من منازل البحث عن (جوف الفرا) القومي..ولله في خلقه شؤون وشجون!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.