نواصل سردنا لذكريات ما مضى من أيام قضيتها ما بين دوكة و أم راكوبة مع أحباب خصّهم الله بالنقاء و الوفاء و كل ما هو نبيل من الصفات. توقفنا فى الجزء الأول عند أمر الاستدعاء الذى قضى بمغادرتى أم راكوبة و التوجه للمشاركة فى برنامج تدريبى برئاسة ادارة اللاجئين بالشواك. كانت فترة التدريب بمكتب الميزانية بالشواك فرصة للالتقاء بالكثير من الاخوة و الاخوات أذكر منهم مدير الميزانية حسن عبد المنعم, فاطمة سعد الدين, عاصم, عبد المجيد, على,فاطمة, يس وحاج دمور. انضم الينا لاحقا فوج آخر أذكر منهم خالد, فايقة, عواطف, أميرة, ابتسام, يمانى, أسامة, عادل, تاج السر, الرشيد, مسمار و كشول. بعد انتهاء الفترة المخصصة للتدريب تم توزيعنا على مشاريع اسكان اللاجئين المنتشرة فى شرق و وسط السودان. باستثناء مسمار الذى لازال يعمل باحدى و ظائف الادارة القيادية بكسلا, فقد تفرق الضباط الماليين أيدى سبأ. عدت ادراجى الى اسكان أم راكوبة حيث استقر بى المقام فى دوكة التى باشرت منها مهامى الجديدة كضابط للميزانية بالمشروع. الا أنّ صلتى بمعسكرات أم راكوبة الثلاثة لم تنقطع حيث كنت أزورها بين الفينة و الاخرى بغرض متابعة سير تنفيذ برنامج المساعدات و كذلك كتابة التقارير الدورية لرفعها للUNHCR. كنت أسكن باستراحة اللاجئين بدوكة مع حسن يسن, عوض البارىء, الباقر, الدقيل و آخرين. يجاورنا كل من مدير المشروع الواثق و الباشكاتب مهدى مصطفى. كانت هذه الفترة فرصة للتعرف على مواطنى دوكة المضيّافة.من بين الذين التقيتهم أذكر منهم قرض, مستعد, محمد عبد المحسن, عبد الرحيم, عابدين, بكر, حامد, آدم (كهرباء), ود الشيخ, خالد (ابن عم السر حمد النيل), كربوس و آخرين. ايضا أذكر من أهالى دوكة الأخ قدّورة و الذى كنّا نمازحه أنا و حسن يس بمناداته ب "قدّورة الأسطورة". واضح أنّ قدّورة مولع بأغانى حقيبة الفن أو (حقيقة الفن). أذكر أننى تغيّبت عنه مدة من الزمن و عندما رآنى صاح مناديا "ليك مدة مابنتّ" مشيرا الى أغنية الحقيبة الشهيرة التى صاغ كلمتاها و لحنها عبد الرحمن الريح. كذلك كانت تربطناعلاقات وطيدة مع بعض العاملين بالمصالح الحكومية بدوكة. من مستشفى دوكة أذكر الأطباء مامون العوض, مصطفى و مسلم. من ضباط الجيش اذكر كمال صبرا, أحمد عبد الملك, ابراهيم و محمد ادم. كذلك كان يسكن جوارنا الاستاذ حسن رمرم من مصلحة التعليم. من أهم أحداث تلك الفترة هو تكليفي باعباء مساعد مدير المشروع بالاضافة لمهامي كضابط ميزانية (بعد أن غادر الأخ محمد الحسن التيجاني المشروع).كان ذلك تحديا كبيرا بالنسبة لي, خاصة أنّ معسكرات ام راكوبة كانت بمثابة "مزار" للوفود الاجنبية, ساعد علي ذلك سهولة الوصول للمعسكرات (خلال فترة الصيف) و لقرب أم راكوبة الجغرافي من مدينة القضارف. كذلك كان وجود عدد من الفلاشا بمعسكر ام راكوبة وسط عامل جذب للوفود الاجنبية. شيئا فشيئا تنامت الخبرات و التمرس على العمل, خاصة تنوير الوفود الأجنبية التى كانت لا تنقطع زياراتها لأم راكوبة و ذلك بغرض الوقوف على سير تنفيذ برامج مساعدات اللاجئين. فى كثير من الأحيان كانت ظروف العمل تقتضى قيامى باتخاذ قرارات دون الرجوع للرئيس المباشر, الشىء الذى ساعدنى كثيرا فى تنمية مهارات مثل تحمل مسؤولية نتائج تصريفى للأمور مع التعّلم من الأخطاء . Food for work من أهمّ انجازاتى كمساعد مدير (بالانابة) بأم راكوبة, مشاركتى فى الدراسات الميدانية الأولية التى سبقت تنفيذ مشروع الغذاء كمحفّزللعمل Food for work . ففى العام 1988 مكث معى بأم راكوبة وفد أجنبى مكوّن من حوالى تسعة أشخاص أتوا بغرض التمهيد لتنفيذ برنامج ال Food for work بام راكوبة. باختصار كان الهدف من هذا البرنامج هو تحقيق درجة من الأمن الغذائى أو ضمان يقى الفئات الضعيفة بالمعسكر من الفاقة ( (A safety net, خاصة الأشخاص الذين ليس لديهم مهارات عالية. أستمرت المناقشات و تبادل وجهات النظر حول مشروع Food for work باستراحة أم راكوبة لأكثر من أسبوع بغية اضفاء الصبغة الميدانية على المشروع .كنت حريصا على أن يكون اللاجئون حاضرين فى هذه الحوارات المطوّلة عبر لجان اللاجئين المنتخبة. حتى يتمكن اللاجئون بالمعسكر من التعبير عن آرائهم , توليت بنفسى أمر الترجمة (عبر مترجم اللاجئين) لتمكين اللاجئين من ايصال صوتهم و صياغة احتياجاتهم. كان ذلك من التطبيقات النادرة لمبدأ مشاركة اللاجئين Refugee Participation فى الأمور التى تمس حياتهم. و قد أضحى هذا المبدأ فيما بعد أحد المكونات الرئيسة لبرامج المنظمات العاملة فى مجال مساعدات اللاجئين. بل أنّ بعض الجهات المانحة فى الوقت الحاضر تشترط على منظمات العون الانسانى تضمين استراتيجياتها الخاصة باشراك اللاجئين قبل حصولها على التمويل اللازم. (و فى الآونة الأخيرة ظهر مصطلح تمكين اللاجئين Empowerment). و بالفعل تم تنفيذ المشروع حيث كان الذين انخرطوا فيه يحصلون على مواد غذائية نظير قيامهم بأعمال تعود فائدتها لمجتمعات اللاجئين (مثل الردميات و اصلاح الطرق و غيرها من المشاريع ذات النفع المجتمعى). و قد لجأت كثيرمن المنظمات فى الوقت الراهن لبرنامج ال Food for work, ليس فقط فى مشاريعها قصيرة الأجل, بل فى مشاريع التنمية طويلة الأجل. تهريب الفلاشا عندما وصلت أم راكوبة, لاحظت أنّ هناك مجموعة صغيرة من اللاجئين بمعسكر أم راكوبة وسط كانت تخضع لحراسة مستمرة من قبل الشرطة. تبيّن لى انّ هؤلاء هم بقايا اليهود الفلاشا الذين لم يتثنى لهم المغادرة الى اسرائيل فى العملية السرية الشهيرة Operation Moses. العملية المذكورة بدأت فى نوفمبر 1984 و أنتهت فى يناير 1985 بعد أن شارك فى تنفيذها كل من وكالة الاستخبارات المركزية CIA , الموساد الاسرائيلى (دخل بعضهم السودان بتأشيرات موظفى اغاثة) و جهاز أمن الدولة ابّان فترة حكم نميرى. فقط للتذكير كان السودان فى تلك الفترة يحتل المرتبة الثالثة بين الدول المتلقية للمعونة الأمريكية (بعد اسرائيل و مصر), لذلك كان من الطبيعى أن تتعاون طغمة الدكتاتورية العسكرية الثانية, خاصة بعد أن أجزلت لهم الدوائر الاستخباراتية العطاء. كما هو معلوم للكثيرين فقد تمّ تنفيذ العملية أثناء فترة المجاعات الناجمة عن موجة الجفاف التى ضربت القرن الافريقى فى ثمانينات القرن الماضى. ولا يستبعد أن تكون هذه الدوائرالاستخباراتية العالمية قد قامت بتهويل (dramatising) أمر المجاعة حتى يتسنى لها تهجير الفلاشا دون لفت الأنظار و ذلك بركوب موجة اللجوء الى السودان باعتبار الفلاشا ضحايا أثيوبيين أجبرتهم المجاعة للفرار بحثا عن ما يقيم الأود. و الاّ كيف يستقيم عقلا دفع آلاف الجوعى الذين أنهكتهم المخمصة الى رحلة مضنية (مات الكثير منهم قبل اكمالها). هل تمّ بذل كافة الجهود لاغاثة هؤلاء فى أماكنهم داخل اثيوبيا؟. ما أود قوله هو أنّ التضخيم الاعلامى العالمى الذى صاحب أخبار تلك المجاعة ربما كانت واحدة من غاياته ال " camouflage" المفضى لافساح المجال لتنفيذ عملية موسى. فى نهاية الأمرتم نقل حوالى ثمانية آلاف من اليهود الفلاشا جوا الى اسرائيل عبر العاصمة البلجيكية بروكسل بواسطة Trans European Airways (TEA).. من أشهر الكتب التى أحتوت على تفاصيل مثيرة عن هذه العملية كتابTudor V. Parfitt* (1985) . أختم مشيرا الى أنّ أجهزة الاستخبارات العالمية التى شاركت فى عملية موسى يبدو أنها تفادت الاصطدام بسطوة السيد حسن محمد عثمان الذى كان يهابه الجميع, ليس فقط بسبب سيطرته على الأمور الخاصة باللاجئين فى شرق البلاد, بل أيضا لاستحالة زحزحته عن ما يؤمن به من مثل و مبادىء. ربما كان ذلك أحد أسباب لجوء الجهات التى شاركت فى تهريب الفلاشا الى احاطة "عملية موسى" بالكتمان. *Tudor V. Parfitt (1985). Operation Moses. The Untold Story of the Exodus of the Flasha Jews from Ethopia. Weidenfeld & Nicolson. طارق-ايرلندا عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.