أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شذرات متفرقة ما جاء عن السودان في كتاب "أغنية الفداء: قصة عملية موسى" .. بدر الدين حامد الهاشمي
نشر في سودانيل يوم 14 - 12 - 2013


لويس رابو بورت
Louis Rapoport
بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا عرض وترجمة مختصرة لقليل مما جاء عن السودان في كتاب بعنوان من تأليف الصحفي الأمريكيلويس رابورت الذي كان يعمل محررا في صحيفة "جوريسلم بوست". والكتاب كما هو واضح من العنوان يتناول العملية السرية المسماة "عملية موسى" والتي قامت بها إسرائيل في منتصف ثمانينات القرن الماضي لترحيل اليهود الفلاشا من أثيوبيا إلى إسرائيل عبر أراضي وأجواء السودان. صدر الكتاب عن دار نشر HBJفي الولايات المتحدة عام 1986م. للمؤلف مقالات كثيرة وكتبا عديدة أخرى تتناول في غالبها قضايا اليهود في مختلف أنحاء العالم مثل كتابه "اليهود الضائعون" و"تاريخ المحرقة" و"تاريخ اليهود" وغير ذلك. المترجم.
***** *********** *******
في الفصل الثالث للكتاب (والمعنون "المدرس") حكى المؤلف عن قصة اليهود الفلاشا وعن تاريخ المجهودات التي قام بها نفر من اليهود في الذهاب لهؤلاء في مناطقهم في أثيوبيا وفي اختيار الصغار النابهين منهم وإرسالهم للتعليم في فلسطين ودول أوربية أخرى عديدة. توسع المؤلف في وصف تاريخ حياة واحد من هؤلاء الصبية الإثيوبيين اليهود (من "بيتا اسرائيلbeta Israel الذين هم جماعات اليهود الذين يعيشون في شمال وشمال غرب أثيوبيا ) لم يكن لديهم في خمسينيات القرن الماضي قائد يتحدث باسمهم غير شخص اسمه يونا بوقولا والمولود في قوندار في عام 1908م. كان ذلك الرجل الإثيوبي اليهودي رجلا مثقفا ومجيدا لعدد من اللغات منها العربية والإنجليزية والايديش والإيطالية والألمانية، بالإضافة لعدد من اللغات الإثيوبية. كان الرجل، وفي السنوات التي سبقت عام 1979م (حين هاجر إلى إسرائيل وهو في سن الواحدة والسبعين) يداوم على إثارة قضية يهود ا أثيوبيا في أوساط المحافل والتجمعات الرسمية والشعبية لليهود. أثمرت جهود يونا بوقولا وأستاذه فيت لوفيتش وغيرهم عن اقتناع كبار رجال الدين اليهودي بصحة "يهودية" الفلاشا بحسب القانون اليهودي المعروف باسم هالاشا، وإصدارهم لبيان بذلك المعنى في 9/2/1973م . جاء في ذلك البيان أن "الفلاشا هم من نسل قبيلة اسرائيلية هاجرت للجنوب لتستقر في إثيوبيا". قرر المسئولون الإسرائيليون في 14/ 3/ 1977م أن قانون "عودة اليهود لدولة إسرائيل" ينطبق على اليهود الإثيوبيين أيضا فقاموا بين عامي 1979 و1990م بترحليهم عبر السودان في عملية سموها "عملية إخوان Operation Brothers " كانت أضخمها "عملية موسىOperation Moses " التي هي موضوع هذا الكتاب.
أدى الجفاف والتصحر والمجاعة لموت عدد كبير من الفلاشا في إثيوبيا، وتكتمت إثيوبيا بقيادة الإمبراطور هيلاسلاسي على تلك المجاعة وعلى موت آلاف الفلاشا ونفوق بهائمهم، وتعذر القيام بمد يد العون والمساعدة لهم حيث هم لصعوبة الوصول لأماكنهم النائية القصية. كذلك تعرض الفلاشا للاضطهاد والتهجير القسري من بعد سقوط الإمبراطور في عام 1974م وتولي حكومة يسارية التوجه مقاليد الحكم في البلاد. ازدادت معاناة الفلاشا مع مرور السنوات، فكتبوا للمجلس اليهودي العالمي خطابا يناشدون فيه يهود العالم لإنقاذهم "من المسيحيين الذين يقتلوننا ويهجروننا من أرضنا ويزعمون أننا نمص دمائهم..." بحسب ما ورد في ذلك النداء المستغيث.
********************
في عام 1982م أعلن نميري عن بدء العمل بقوانين الشريعة الإسلامية (الصحيح بالطبع أن تلك القوانين أعلنت في 1983م. المترجم) والتي تضمنت عقوبات الشنق في الميادين العامة، وقطع أطراف اللصوص والمهربين. رغم توجهه الإسلامي مضى نميري في محاربة المسلمين الأصوليين بقيادة الإخوان المسلمين (والذين كان يسميهم "إخوان الشياطين"). وما أن أتى عام 1984م حتى وقعت البلاد في قبضة موجات جفاف وتصحر ومجاعات، وانكمش الاقتصاد بأكثر من معدل هبوط منسوب النيل لأقل مستوى مسجل له في التاريخ، ووجهت الحكومة كل ما تبقى لها من موارد شحيحة لقتال المحاربين الوثنيينوالمسيحيين في الجنوب. تدفق آلاف اللاجئين على حدود السودان من أثيوبيا وتشاد، وتمادت ليبيا وإثيوبيا في التدخل السافر في شئون السودان، وطفق رجال البنوك الخليجية يحلبون ما بقي في البلاد من مال ولا يقدمون لها شيئا يذكر. باختصار، كان عند نميري ما يشغله وأكثر عن متابعة أمر الفلاشا وترحيلهم من بلاده.
مضت إسرائيل و دون عون من المانح الأكبر للسودان (أي الولايات المتحدة) تخطط لترحيل يهودها الفلاشا من السودان إلى أن بقي على تنفيذ عملية ترحيلهم جوا (والتي أسميت عملية موسى) بضعة شهور قليلة. في غضون تلك الشهور ظلت الاتصالات مع المسئولين السودانيين عشوائية وغير منتظمة.
في السنوات الست التي قضاها مناحمبيجن على رأس الحكومة الإسرائيلية والتي انقضت في نهاية 1983م أكتمل ترحيل 3000 من يهود الفلاشا إلى إسرائيل. بيد أن الأهم من ذلك هو أن ما فعله بيجن قد بدأ عمليات الترحيل ومهد الطريق لمزيد من عمليات النقل والتي رحلت أعدادا أضخم فيما أقبل من أعوام.
************
تعد الخرطوم، تلك المدينة الصحراوية المتربة، مكانا لالتقاء الناس، ولالتقاء النيلين الأبيض والأزرق أيضا. تأتي غالب مياه النيل من النيل الأزرق الذي توجد منابعه في أثيوبيا حيث تمر سريعا على الأرض التي ظل الفلاشا يقطنونها منذ عقود سحيقة القدم. تعد الخرطوم كذلك ملتقى طرق للعرب والأفارقة وللمسلمين والمسيحيين كذلك. كانت الخرطوم بكل صفاتها تلك هي مركز عملية تهجير اليهود الفلاشا لإسرائيل. كان "يهودا" من ضمن عدد قليل يعد على أصابع اليد الواحدة من العملاء الذين بعثت بهم إسرائيل للسودان في أوقات معينة بالغة الحرج لمتابعة "عملية موسى". كانت أهم إنجازات "يهودا" في الشهور العشرة التي صرمهابالسودان في عام 1980م هي نجاحه في ترحيل مجموعات صغيرة من اليهود الفلاشا خارج السودان، وتمهيده لعمليات قادمة تم فيها بنجاح إخراج أعداد ضخمة نسبيا من هؤلاء الفلاشا.
كان الخرطوم تبدو كمشروع بناء ضخم لم يكتمل العمل فيه بعد، فهي مغبرة وواهنة ومتعفنة. الحرارة فيها بالغة الارتفاع (قد تصل إلى التسعين بمقياس فهرنهايت) وتصيب المرء بالإعياء حتى في شهر يناير، والذي يعد أبرد فصول العام. كان طقس الخرطوم بالنسبة ليهودا، والذي ألف جو مرتفعات إثيوبيا البارد وطقس مدينة القدس اللطيف، حارا لا يطاق. كان يستأجر – كغيره من زوار المدينة من الأجانب- سيارة أجرة غالية الأجرة لأقل المشاوير قصرا وذلك تفاديا لضربات الشمس. رغم ذلك لم ينقطع عن تذكر حال مئات الآلاف من قومه في المعسكرات شرق الخرطوم، وهم جوعى وعراة ومصابين بمختلف أمراض سوء التغذية.
كان يهودا يستخدم بالطبع أوراقا مزيفة واسما مستعارا، فقد كانت مهمته بالغ الحرج والخطورة وكان يغامر فيها بحياته. حتى ذلك الوقت (وإلى صيف 1984م) لم يكن جهاز الأمن والمخابرات السوداني قد بدأ التعاون بعد مع إسرائيل، ولم يتعاونوا إلا لاحقا بعد تدخل ووساطة أمريكية كانت تتحدث باسم الإسرائيليين. أتى بعد يهودا الذي عمل كمنسق عام لعملية ترحيل الفلاشا رجل آخر اسمه "تقرين فلاشا" بيد أن ذلك الرجل اليهودي التقراي لم يكن مدربا بما يكفي لذلك النوع من العمليات، فنجحت السلطات السودانية في اعتقاله بعد وصوله بوقت قصير، وتطلبت عملية إطلاق سراحه المعقدة تدخل جهات عديدة في أماكن متفرقة. يجب أن نذكر هنا أن يهودا لم يكن أيضا عميلا محترفا، بيد أنه بدأ يمارس ذلك النوع من العملمنذ عام 1977، وتدرب على العمل في غضون سنوات مهمته، وكان رجلا بالغ الحرص يدرك تماما حدود قدراته وامكاناته، ويتذكر دوما ما فشل من محاولات سابقة لترحيل الفلاشا.
أحس يهودا براحة عظيمة في عمله وهو يجوب في الخرطوم بشوارعها المغبرة المكتظة بالبشر من كل جنس ولون في أزيائهم المتنوعة. كان عمله يسير دون ضغوط تذكر، إذ أن كل من قابله من السودانيين كانوا جد لطفاء وكرماء معه، وكانوا يعاملونه بحرارة ومودة. كان من بين هؤلاء مسؤول كبير استخرج له إقامة (visa) نظير "بقشيش"مقدر! رغم ذلك فقد كان يهودا يلزم دوما جانب الحذر ولا يختلط بالسودانيين أو غيرهم كثيرا، وقلما يقابل أحدا ليس له عنده من حاجة.
ذات مساء كان يهودا يجد في طريقه نحو فندقه المتواضع المسمى "الأكربول" في وسط الخرطوم عندما سمع من خلفه صوتا يناديه باسمه. تجاهل يهودا ذلك المنادي، وكان رجلا يهوديا اثيوبيا يعرف يهودا من أيامه في أديس أبابا. تنبه الرجل إلى أن تجاهل يهودا له يعني أن في الأمر سرا فتوقف عن مناداته ومضى في طريق آخر وابتلعه زحام السابلة. شاءت الأقدار أن يلتقي يهودا بذات الرجل بعد ذلك بسنوات وهما في مطار "بن غوريون" وكانت تلك الحادثة في الخرطوم مصدر تندر ضاحك لهما. لم يقبض على يهودا في الخرطوم غير مرة واحدة، حين قام من قبض عليه بتفتيشه فوجد في جيبه مبلغ 250 دولار، فإتهمه على الفور بأنه لا بد أن يكون قد سرق ذلك المبلغ. نفى يهودا ذلك وقال إنه يعمل مدرسا، وهو يقيم في السودان كلاجئ سياسي، وأن ذلك المبلغ كان قد بعث به إليه قريبه في إيطاليا. وكالعادة حسم الأمر بالطريقة التقليدية (والمتوقعة) بأن تنازل يهودا عن معظم المبلغ لمن قبض عليه واستبقى لنفسه (درءا للشبهة) مبلغا قليلا من ما وجد عنده. في الواقع كان يهودا لحظة القبض عليه يحمل مبلغ 2000 دولار في حذائه! كان الرجل الحريص يحتفظ بمبالغ كبيرة من الدولارات في أماكن متفرقة من العاصمة، وفي القضارف أيضا، حيث كانت تعد مركزا لللاجئين.
**********************
في ربيع عام 1980م اكتمل وصول بضع آلاف من الفلاشا لمعسكرات اللاجئين. قام حينها يهودا بالتشاور مع العملاء الإسرائيليين الآخرين الذين دخلوا للسودان عن طريق جوبا في الجنوب، أو بالطيران للخرطوم من كينيا للاتصال بهؤلاء الفلاشا وإخبارهمبأنهم سيرحلون خارج البلاد في مجموعات صغيرة لا تزيد الواحدة عن 15 – 30 فردا كل أسبوع بالحافلات أو الشاحنات أو بسيارات "لاند روفر". أخبرهم أيضا بأنهم سيقضون بعض الوقت بالقضارف ريثما يتم نقلهم للخرطوم للسكن في "بيوت آمنة" إلى أن يمكن تسفيرهمجوا إلى أثينا أو باريس.
في غضون شهرين فقط استطاع يهودا أن يساعد الجهات الأمنية الإسرائيلية على بناء شبكة متكاملة من العملاء تقوم بالعمل على تسهيل الترحيل الداخلي واستخراج وثائق وتصاريح المرور من وزارة الداخلية والشرطة والصليب الأحمر والموظفين السودانيين من العاملين في شئون اللاجئين. كان يمكن – وبسهولة- تغيير الصور والأسماء في تلك الوثائق والتصاريح وإضافة صور عوائل كاملة عوضا عن صورة شخص واحد في كل وثيقة. كانت العقبة الكأداء هي توفير "بيوت آمنة" في الخرطوم. كان من المتعذر استئجار منازل ليعيش فيها عشرات من اللاجئين الأثيوبيين دون أن يثير ذلك الانتباه. إضافة لذلك فقد كان سوق استئجار المنازل المناسبة محدودا جدا في الخرطوم. ولكن نجح يهودا أخيرا – وبمساعدة سيدة من دولة مجاورة للسودان تعمل في "أقدم مهنة في التاريخ" - في استئجار بيت واسع يلاصق بيتا للدعارة. كان ذلك "البيت الآمن" يضم في بعض الأوقات ما لا يقل عن خمسين شخصا، وكان من المتعذر أحيانا الحفاظ على سرية المكان. كان كثيرا ما يشتكي الجيران من الضجة التي يحدثها ذلك العدد الكبير من السكان، بل قامت ذات مرة إحدى العاهرات في البيت المجاور بتقديم شكوى للشرطة من إزعاج سكان ذلك البيت الكبير! كان يهودا يتولى بطرقه الخاصة تسوية تلك الشكاوى، بيد أنه أضطر في نهاية المطاف للبحث عن بيت أكثر أمنا وخصوصية. كذلك حرص يهودا على التنقل المستمر بين الفنادق، فسكن لمدد مختلفة في فنادق فخمة (مثل فندق قاعة الصداقة) وفنادق أخرى متواضعة موبوءة ببعوض الملاريا، بيد أن اجتماعاته السرية مع العملاء الاسرائيليين كانت تتم دوما في المطاعم والسيارات حيث يتم فيها تبادل مبالغ ضخمة من الأموال محشوة في أكياس بلاستيكية سوداء. كان يهودا يحصل كل أسبوعين على 90ألف جنيه سوداني (تعادل حينها 20 ألف دولار) ليوزعها على قادة اللجان المصغرة الذين عينهم يهودا لتوزيع الأموال علي زملائهم اللاجئين والذين كان يبلغ عددهم نحو 3000 من اليهود الأثيوبيين. حل توزيع تلك الأموال على اللاجئين مشاكل عديدة، بيد أنه خلق مشاكل من نوع جديد تمثل في الصراع حول المبالغ المعطاة وعدالة توزيعها، وأثار كذلك الشك (والغيرة) في نفوس بعض اللاجئين الآخرين من غير الفلاشا.
كانت أصعب مراحل العملية هي توفير وسائل النقل الكافي والمناسب لهؤلاء اللاجئين، فقد كان السودان يمر بحالة حرجة من النقص في المواد البترولية حتى أن طائرة نميري رئيس البلاد نفسه كانت تحمل بكثير من الوقود الإضافي عندما يستقلها للسفر لجوبا، خوفا من عدم وجود وقود كافي في تلك المدينة! تحتم شراء كل شيئ في "السوق الأسود" وبأسعار مضاعفة. كان استئجار سيارة "لاند روفر" لبضعة أيام يكلف قرابة الألف من الدولارات، وكان الوصول للقضارف يستغرق نحوا من خمس ساعات كاملة. كانوا يغادرون الخرطوم للقضارف في الفجر الباكر حتى يضمنوا رجوعهم منها للخرطوم قبل المغيب حين تقل السابلة في الطريق ولا يثير إنزال أعداد كبيرة من اللاجئين في ذلك "البيت الآمن" أي شبهة من أحد المارة. لم تكن نقاط التفتيش التي يقيمها الجيش أو الشرطة تمثل أي عقبة حقيقية ليهودا فقد تعلم أن الرشوة بالمال يمكن أن تحل أي مشكل طارئ.
أشاد يهودا بحرفية العملاء الإسرائيليين الذين عملوا في تلك المهمة الخطرة، فهم يجيدون اللغة العربية باللهجة السودانية، ويجيدون كذلك التخفي والعمل تحت مختلف الظروف، فقد تجد أحدهم يرتدي يوما حلة أنيقة ورباط عنق حريري وهو يناقش في تفاصيل عقد ما، ثم تراه بعد أيام وهو يجوب شوارع الخرطوم المغبرة في ثياب رثة وكأنه متشرد بائس. حكى يهودا قصة عجيبة عن حادث وقع لهم وهم في طريقهم بسيارتي "لاند روفر" حيث تعطلت إحدى السيارتين ولم يجدوا سلسلة حديدية لجرها. أضطر عميل اسرائيلي للمشي لمدة 10 أميال للقضارف حيثلجألتسلق سور كنيسة هناك و"صادر" سلسة حديدية من مخزن سياراتها. قال فيما بعد ضاحكا: "يدين الفاتيكان لليهود بأكثر من هذا"! حكى يهودا أيضا قصة أكثر غرابة حين تم وضع بعض الفلاشا الإثيوبيين عن طريق الخطأ في طائرة الخطوط العربية السعودية (وليس الخطوط اليونانية المعروفة باسم "اولمبيك" كما كان مقدرا) ، وتم اكتشاف الأمر وإصلاحه في آخر لحظة!
***************
ذكرت بعض المصادر أن المكتب السامي لشئون اللاجئين في السودان لعب دورا مهما في إخراج الفلاشا لإسرائيل عبر السودان، وذلك بتسهيلاستخراج التصاريح والتأشيرات، بيد أن الإسرائيليين ينفون ذلك نفيا قاطعا وقال إن ذلك المكتب لم يكن ليساعد في خروج اليهود الفلاشا فقط دون غيرهم من كل اللاجئين، فإنه إن فعل ذلك فسيعرض نفسه للتهم التحيز ومخالفة القانون.
***********
لم تقم أي جهة رسمية أو مسئول حكومي سوداني بالتعاون الصريح في عملية نقل الفلاشا لإسرائيل، بل لقد قامت السلطات السودانية في بعض الأحايين بين عامي 1980 – 1984م باعتقال من يشكون أنه من عملاء الفلاشا. يجب القول هنا أن الحكومة السودانية لم تكن على علم كامل بمدى تورط جهاز الاستخبارات الإسرائيلية في تلك العملية ، بيد أنهم لا بد أن يكونوا قد أحسوا بأن هنالك "شيئا ما" يجري التحضير له، وظل الرئيس نميري – مع كان يحيط به من مشاكل- يغض الطرف عن حقيقية أن اليهود الفلاشا كانوا ينقلون من بلاده إلى إسرائيل، مثلما حدث حين حطت طائرة "هيركيوليس" ضخمة في صباح يوم 16 مارس 1982م في أرض يباب بمنطقة مغبرة تقع في منتصف الطريق بين معسكري اللاجئين في "تواوا"و"أمراكوبة" (التي أطلق عليها الكاتب في الفصل الخامس "أم الطاعون". المترجم). كان من المفروض أن تقل تلك الطائرة مائة من الفلاشا، بيد أن عدد من كانوا في انتظارها بلغ ألفا، وتسببت الفوضى التي حدثت عقب ذلك في حادث سيارة مات فيها بعضهم. تكرر هبوط تلك الطائرات الكبيرة التي تنقل الفلاشا حتى آخر رحلة لهل في يوم 4 مايو 1984م ، ولفت ذلك نظر بعض رعاة الأبل في المنطقة ، ومن بعد ذلك ذاع نبأ ترحيل الفلاشا فوصل إلى أسماع الأوساط الدبلوماسية والمخابراتية في الخرطوم. بيد أنه من الثابت أن ما من أحد خارج الدوائر الإسرائيلية كان على علم كامل بكل تفاصيل العملية.
*************
قمت في تلك السنوات بزيارة للخرطوم ومعسكرات اللاجئين. لم أفصح بالطبع عن اهتمامي بالفلاشا، بيد أن بعض المتعلمين السودانيين كانوا كثيرا ما يسألونني عن ما إذا كنت أنوي الكتابة عن الوضع العام في البلاد أم عن عملية ترحيل اليهود الفلاشا تحديدا.كان كثير من السودانيين يلخصون رأيهم في تلك العملية بطريقة ساخرة/ عائبة cynicalويقولون بأن تلك العملية لابد أن تكون قد أدخلت في جيب النميري ونائبه ع. م. الطيب مالا كثيرا. لم يكن ذلك بصحيح.
لم يصرح أحد من المسئولين السودانيين بشيئ عن أمر نقل الفلاشا سوى ما أدلى به متحدث عسكري لم يقل إلا ما يعرفه الجميع سلفا. صرح الرجل فيما بعد بالقول: "يكرهنا العرب الآن بسبب الفلاشا". وفر ترحيل الفلاشا لمعارضي نميري الكثر أسلحة إضافية لمهاجمة نظامه، وأدت تداعيات الأحداث السياسية والاقتصادية في السودان للإطاحة بنميري في انقلاب عسكري في أبريل من عام 1985م ، بيد أنه ما من أحد في السودان يعتقد جادا أن ل"عملية موسى" دخل في سقوط نميري.
تلت "عملية موسى" عملية أخرى سميت "عملية السبع Operation Sheba"شاركت في وضع لمساتها الأخيرة في أوائل عام 1985م أطراف من المخابرات السودانية والأمريكية لاستكمال تهجير الفلاشا من السودان (بحسب بعض المصادر سميت تلك العملية أيضا بعملية يوشع بن نون Operation Joshuaوتم فيها ترحيل 494 من اليهود الفلاشا لإسرائيل. المترجم).
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.