تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(الغريب) ما بين ألبير كامُو وكمال داوود: قراءة نقدية مقارنة .. بقلم: محمد بشير حامد
نشر في سودانيل يوم 19 - 11 - 2015

نُشرت قبل عامين فى الجزائر رواية بعنوان "مورسو: تحقيق مضاد"Mersault, contre-enquête) ) للكاتب الجزائرى كمال داوود وأعيد نشرها فى فرنسا العام الماضى وترجمت لعدة لغات ليس من بينها اللغة العربية حتى الآن. (ويبدو لى–وقد أكون مخطئاً–أن السبب هو تخوف دور النشر العربية من ترجمة ونشر الرواية بعد أن دعا شيخ سلفى فى الجزائر باهدار دم المؤلف وقتله علانية "لتطاوله" فيها على الاسلام وبالطبع لعمالته للغرب وللصهيونية العالمية). أثارت الرواية زوبعة فى الوسط الأدبى فى فرنسا والجزائر حيث فازت بعدد من أرقى الجوائز الأدبية. والمثير حقا هو نجاح كمال داوود فى روايته الأولى وهى تتخذ توأمة مساقها الفنى مع رواية "الغريب" (l'Etranger) لعملاق الأدب الفرنسى ألبير كامو (Albert Camus). ففى "الغريب" التى صدرت فى عام 1942 ولا تزال ليومنا هذا معلما بارزاً فى الأدب العالمى، يقوم مورسو ((Meursault بطل الروايةوراويها بقتل جزائري لا نعرف عنه سوى هويته المُعرّفة "بالعربى" (l'Arabe). وفى (تحقيقه المضاد) يقوم كمال داوود فى جرأة أدبية لا تتأتى عادة إلا عن ثقة متناهية بالنفس، ليس فقط بإعادة سرد رواية (الغريب) من منظور معاكسومكمل فى آن بل بجعل الجزائر نفسها أكثر من مجرد البيئة التى اتخذها كامو ديكوراً مسرحياً لا غير لروايته. ويبدأ بإعطاء العربى القتيل اسما (موسى) ويجعل من بطل روايته وراويها (هارون) الشقيق الأصغر له والذى يقضى سنوات عمره مدفوعاً من قبل والدته المفجوعة سعياً وراء الانتقام لابنها.وفى بداية (التحقيق المضاد) يبدو وكأنه ادانة واضحة للأُسطورة التى جعلها كامو تحيط بقصة مورسو بجعله قاتلا وضحية فى وقت واحد بينما ترك (العربى) القتيل صفرا بلا اسم ولا صوت. ولكن عندما نضع الكتاب جانبا نشعر بأن هناك أكثر من ضحية وأكثر من قاتل وربما انتظم بلداً بأكمله.
الخلفية: مابين كامو والرواية
أذكر أثناء دراستى الجامعية كان مقرراً علينا فى منهج الأدب الفرنسى دراسة رواية "الطاعون" (La Peste) وهى رواية أخرى لألبٙير كامُو تدور أحداثها فى مدينة وهران الجزائرية فى أواخر أربعينيات القرن العشرين وتتحدث عن وباء الطاعون الذى ضرب المدينة، وكيف تعامل السكان مع المآسى التى سببها والشعور بالعزلة والفُرْقة والخوف التى نجمت عن الحجر الصحى للمدينة وعزلها عن العالم الخارجى. وأذكر أن من الأمور التى لفتت انتباهى وانا أقرأ الرواية لأول مرة أن كل الشخصيات فيها من المستوطنين الفرنسيين وكأن مدينة وهران لايسكنها جزائريون عرباً كانوا أو بربراً. ولا أذكر على وجه التحقيق لم أثار فكري هذا الغياب التام للجزائرين في مشاهد الرواية ولكنه بالتأكيد قد شغل تفكيرى للحد الذى جعلنى أسعى جاهداً لتفسيره. كان أحد هذه التفسيرات هو رمزية الرواية نفسها فهى تمثل تصوراً فلسفياً لصراع البشرية الدائم ضد قوى الشر وما يعكسه ذلك أحياناً من عبثية الوجود كما يراها كامو. وعلى مستوى أدق تحديداْ وأكثر تعقيداً ترمز الرواية للغزو النازى لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن هذه الرمزية مع وجاهتها الأدبية وتوافقها مع مجريات أحداث الرواية لم تعطنى تفسيراً مُقنعاً لتغييب الوجود الجزائرى والذى لم أجد فى إمكانية حضوره تعارضاً أو تناقضاً مع المستويات المختلفة التى يمكن بها قراءة رمزية تلك الأحداث.
ثم أكتشفت بعد التقصى والبحث تفسيراً يبدو بسيطاً وإن لم يخلُ من تعقيدات أخرى تخص بشكل مباشر شخصية المؤلف أكثر من مضمون رسالته الأدبية.فقد ولد ألبٙير كامُو فى الجزائر وكان فرنسى الجنسية جزائرى المولد من غير أى حساس بالتناقض، فمدينة وهران بالنسبة له "ليست أكثر من محافظة فرنسية على الساحل الجزائرى" (‘rien de plus qu'une préfecture française de la côte algérienne'). فلا غرو أن نظر إلى الجزائر ومدنها التى أحبها من منظارالمستوطن الفرنسى. والتناقض هنا أن كامو الحائز على جائزة نوبل للآداب ورغم كل قناعاته العقائدية والإنسانية والفلسفية لم يؤيد استقلال الجزائر كما فعل العديد من أركان الحركة الثقافية فى فرنسا مثل جون بول سارتر وسيمون دو بوفوار وفرانز فانون. فقد اتخذ كامو موقفاً اتسم على أقل تقدير بالازدواجية 2ن لم يكن بالتناقض أراد به الحرية لشعب الجزائر على شرط أن تبقى الجزائر فرنسية. وتسبب هذا الموقف فى قطيعة بينه وبين معاصريه وأصدقائه فى اليسار وعداء اليمين الفرنسى الذى رفض دعوته للهدنة ولم يقبلرؤيته لتحالف (متوسطى).
هل كان حب كامو للجزائر، والذى لا جدال حوله، هو جزء من قناعته أو التزامه القائم على أن الجزائر امتداد حتمى لفرنسا عبر البحر المتوسط؟ هذا سؤال مثير للجدل بلا شك وقد لا يسمح المجال هنا بالتعرض للجوانب العديدةوالمختلفة فى الإجابة عنه ويمكن القول فيما يخص هذه الدراسة أن كامو كان كاتبا ذا نزعة إنسانية ولكنه لم يختر العدالة للجزائر ("رجل أخلاقى فى موقف غير أخلاقى" كما وصفه إدوارد سعيد) فهو من جانب قد عارض سياسات فرنسا (الكولونيالية) فى الجزائر ولكن من جانب آخر كان حبه وتعلقه بالجزائر من منطلق وتفهم استيطانى والذى ربما إنعكس فى أعماله الفنية التى كان مسرحها هناك، وقد يكون أهتمامه قد أنحصر فى التركيز على الحبكة الفنية فى رواياته من منظور فرنسى من غير مجرد التفكير فى خلق أى توازن عِرقىّ– مما يمكن وصفه بتعبير اليوم "فقدان الحساسية السياسية" (politically incorrect). هذا التناقض الذى ربما وصل مرحلة التمزق الداخلى فى نفسية كامو بدا واضحا فى سنواته الأخيرة حين حاول تبرير موقفه من إدانة العنف أيا كان مرتكبوه فى كتابه "سجلات جزائرية" (Chroniques algériennes) الذى تضمن نقده الحاد لبعض السياسات الاستعمارية فى الجزائر وتفهمه للظلم والاستغلال الذى حاق بالجزائريين والذى لم يجد فيه مع ذلك مبرراً لحملهمالسلاح ضد المُستٙعمِر. لم يقنع كتاب "سجلات جزائرية ولم يسكت ناقديه مما جعله يشعر بالاحباط والألم وأعلن أنه أدلى بدلوه وليس لديه المزيد والتزم الصمت حيال المسألة الجزائرية حتى وفاته المبكرة فى حادث سيارة فى يناير 1960.
(غريب) ألبير كامو:
ولعل ظاهرة الصمت هذه التى التزم بها كامو فى أُخريات أيامه تفسر لحد كبير صمته عن وجود الانسان الجزائرى فى رواياته التى تدور أحداثها فى الجزائروالتى لا تخلو – للمفارقة – من تغنى بالطبيعة فى الجزائر. وقد يبدو ذلك الصمت مدوياً فى روايته الأولى (الغريب) وذلك لمفارقة أخرى فالرواية بها كما ذكرنا شخصية جزائرية كل ما يحدد هوية صاحبها هو الإشارة إلى أصله (العربى) والذى يميزه عن باقى شخصيات الرواية والذين لا يحتاج المؤلف لتعريف أصلهم (الفرنسى) وكأنهم الأصل و(العربى) هو الدخيل. الدورالوحيد، وإن كان اساسياً فى مساق الأحداث، الذى يلعبه هذا (العربى) هو أن يحضر إلى شاطئ البحر فى مدينة الجزائر ويلتقى مصادفة ببطل القصة وراويها مورسو وفى مواجهة عبثية تؤدى فيها قوى الطبيعة دوراًأساسياً يقوم مورسو باطلاق النارعلى (العربى) ويرديه قتيلا من غير دافع أوسبب مقنع. شخصية القتيل هذه هى التى ينتزعها كمال داوود انتزاعاً من رواية كامو ليعطيها اسم موسى فى حبكة فنية يحكى فيها القصة التى تجاهلها كامو، متنقلاً بين أحداث الروايتين فى حوار آحادى – إن صح هذا التعبير– يقف فى جانب واحد منه الراوى والمؤلف هارون/داوود ويقف فى الجانب الآخر الصامت منه فى هذه المعالجة الدرامية الراوى والمؤلف مورسو/كامو.
فى الجزء الأول من (غريب) كامو نشعر بأن شخصية الراوى مورسو مبنية على الكثير من السلبيات فهو شخص يعيش داخل ذاته منطوياً لامبالياً وهو لا يستطيع أن يشغل نفسه بأى شئ لا يثير اهتمامه وهو شعور أقرب إلى عدم المقدرة على التداخل والتعامل الإجتماعي منه إلى الأنانية أو حب الذات. ثم أنه يبدو وكأن حاجاته الجسدية كثيراً ما تطغى على مشاعره العاطفية فهو لم يبكِ عند وفاة والدته لانه لم يشعر برغبة فى البكاء. وبالنسبة له فإن الخيارفى فعل الشىء أو عدم فعله يبدو واضحاً من غير تعقيد، فبصراحة قاسية يخبر صديقته مارى بأنه لا يحبها ولكنه على استعداد للزواج منها اذا كانت تلك رغبتها، فالأمر عنده سيان. وبهذه السلبية التى لا دافع عقلانى أو مبرر أخلاقى لها يبدأ مسلسل الأحداث الذى يقود كقدر محتوم لمقتل (العربى).
فى الجزء الثانى من الرواية تبدأ ملامح التحول فى شخصية مورسو فى الظهور أو بالأحرى ملامح التغيّر فى نظر القارئ لشخصيته وهى عمليةتدريجية يجعلها ال2بداع الفنى لكامو تتم بطريقة تكاد تكون غير محسوسة،فنجد أنفسنا نعيد تقييم الخصال السلبية والمٙعيبة فى شخصية مورسو لنكتشف أن لها جوانب 2يجابية مشرّفة لم ننتبه لها من قبل. ومن المفارقة أن ادراكه لابعاد جريمته ("تذكرت أنى قد قتلت رجلاً") يتزامن مع اصراره على أن يكون صادقاً مع نفسه رغم ما قد يسببه له ذلك من متاعب. يشكل هذا الاصرار على الصدق رغم عواقبه الوخيمة أرضية أخلاقية جديدة فى ذهن القارئ فيبدو مورسو رجلا تحكمه عدة مبادئ لعل أهمها أنه فى التعبير عما فى دواخله لا تهمه آراء الأخرين وأن ما يبدو عليه من مظاهر فقدان الحساسية(l'insensibilité) ينبع أساساً من التزامه الأخلاقى بقول الحقيقة. وفى شهوره الأولى فى السجن كان "التفكير كرجل طليق" (‘des pensées d'homme libre') من أصعب الأمور عليه ولكن بعد فترة لم تعد لديه "سوى أفكار السجين". فهو لا يستطيع مثلا أن يفهم عندما صادروا سجائره لماذا يحرمونه من شئ لا يسبب سوءً لأحد 2لا أن السجان يشرح له أن ذلك كان جزءً من العقاب ولكنه بعد أيام من المعاناة يتخلص من التٙوْق الشديد 2لى التدخين وعندها يقول وكأنه يعقب على عبثية القرار: "لم يعد العقاب عقاباً بالنسبة لى".
هنا نبدأ التعرف بشكل أكثر وضوحاً على جانب آخر من شخصية مورسو يمكن أن نصفه – ربما لافتقاد تعبير أدق – (بوجودية تفكيره) والتى يشكل فيها ولعه بالطبيعة وشغفه بالحياة مرتكزاً أساسياً. وتقترن هذه الوجودية بحالة الانسان العبثية فى الوجود والتى تحكمها لاعقلانية الأشياء والأحداث. وتشكل محاكمة مورسو خلفية الابداع الفنى فداخل المحكمة يشعر مورسو بأنه الغريب عن كل ما يدور من حوله فمحاميه يترافع فى قضيته وكأنها تخص شخصاً غيره وإفادات الشهود تحكى عن مشاعره أكثر من ملابسات جريمته ("تحدثوا كثيرا عنى، وربما عنى أكثر من جريمتى") مما يجعله يدرك للمرة الأولى أيضاحقيقة أنه "مذنب"، والمدعى العام يتهمه بأنه "قد دفن أمه بقلب مجرم" تاركا محاميه يتساءل فى حيرة اذا كان موكله متهما بدفن أمه أم لقتله رجلا؟(‘est-il accusé d'avoir enterré sa mère ou d'avoir tué un homme?'). وهو تساؤل لا ٙيثير إلا الضحك فى الحضور داخل قاعة المحكمة رغم أهميته القصوى.
والقارئ لرواية كامو بتمعن لا يمكنه إلا أن يتوقف عند هذا التساؤل ويأخذه لنهايته المنطقية بتساؤل آخر: لماذا تمت إدانه مورسو بقرائن ظرفية وعاطفية (مشاعره حيال موت أمه) وليس بالقرائن الدامغة لقتله (العربى) عن تٙعٙمُّدٍوسٙبْق إصْرار؟ ولعل كامو قد اختار هذه الطريقة لإدانة مورسو لعدة أسباب يُمكن إستخلاصُ بعضها من البنية الفكرية والسياق الدرامى للرواية ككل. فالتركيز على جريمة القتل كان سينقل مفهوم (الضحية) من القاتل مورسو إلىالقتيل (العربى) مما قد يخل بالتوازن الدرامى للرواية وبالتركيبة المعقدة لشخصية مورسو التى بناها كامو بتدرج ليجعل القارئ يتعاطف معه. ثم لعله من المهم من منطلق فلسفى ابراز عدم عدالة المحكمة أو زيف الأدلة التى تمت بها الإدانة للدلالة على استكشاف كامو لمفهوم الوجودية فى شخص مورسو وتصرفاته ومصيره. ويبدو هذا واضحاً فى مواجهة مورسو الغاضبة مع قسيس السجن قبل اعدامه عندما يؤكد عبثية الاشياء: "ماذا يهم اذا أُتهم بالقتل أو أُعدم لانه لم يبكِ عند دفن أمه؟"
(غريب) كمال داوود:
هذا التجاهل لشخصية (العربى) – حتى عند محاكمة قاتله – سواء أملته حبكة الرواية الفنية لكامو المؤلف أو فرضه استكشاف معانى الوجودية على كامو الفيلسوف أو جاء نتيجة طبيعية لنظرة كامو المستوطن الفرنسى للجزائر، له فى النهاية ميزة اعطائنا بعد سبعين عاما رواية داوود (مورسو: تحقيق مضاد) التى تتناول قضية (العربى) من وجهة نظر جزائرية لا تنتقص من رواية كامو بل، فى مفارقة أدبية أخرى، تضيف إليها وتعيدنا لتأملها لنكتشف ما فات علينا فى قراءاتنا السابقة. وتتكشف لنا رواية (التحقيق المضاد) بتدرج داخل حانة بمدينة وهران فى منولوج يحادث فيه الراوى هارون كل ليلة دارساًفرنسىياً جاء ليتقصى حقيقة قصة مورسو ويبدو فى هذا الاسلوب القصصى تأثر داوود برواية كامو "السقوط" (La Chute) والتى يحكى فيها الراوى المحامى داخل حانة فى أمستردام قصة سقوطه الأخلاقى. ما يحكيه داوود على لسان هارون قصة سقوط من نوع آخر أكثر تعقيداً عبر تاريخ مشحون بالاحداث الشخصية والتاريخية من فجيعة الموت ووجيعة الفقد ("لم يتبق شئ من موسى حتى جثته") ومذاق الانتقام المر ("أرٙدت التخلص من الظل الثقيل الذى حول حياتى إلى ظلام") وحكم المستوطنين البغيض ("الذين أصابتهم السمنة من أكل محاصيلنا") ونضال دموى من أجل استقلال يتمخض عنه فجر كاذب ("أضعنا الوقت فيه جريا حول أنفسنا").
ويبدأ داوود بالتفاف حول جملة كامو الشهيرة التى افتتح بها رواية (الغريب): " اليوم ماتت أمى" (‘Aujourd'hui, maman est morte') فيقول فى توازن عكسى: "اليوم أمى ما تزال على قيد الحياة" (‘Aujourd'hui, M'ma est encore vivante') ويجعل شخصية الأم منذ الوهلة الاولى رابطاً مهما بين الروايتين، ففى حالة مورسو فالإدانه التى أدت للحكم باعدامه جاءت من اتهامه بعدم المبالاة عند دفن أمه وكأنها تعاقبه من وراء القبر أو كأن المجتمع يعاقبه بالوكالة بعد موتها. أما بالنسبة لهارون فأمه كما يصفها قد كرست حياتها لتتحكم فى حياته ولتجعل منه أداة انتقامها لمقتل شقيقه ("أن تجعل موسى يعيش بعد موته فى مكانى").ولعل عبثية حالته هذه تجعله يشعر وكأنه يجر جثة شقيقه كل يوم لقمة التل ليراها تتدحرج الى القاع فى عملية بلا نهاية فى إيماءة عابرة إلى عمل فنى آخر لكامو:"أسطورة سيزيف" (Le Mythe de Sisyphe).
ما يميز حديث هارون فى البداية هو الغضب لما حل بشقيقه موسى ("أن تقتل أحدا ثم تنتزع منه حتى موته") وهو غضب يتزايد داخله بمرور سنوات عمره ويعيد اجتراره كصورة مصغرة فى ذهنه لما حل ببلاده فيربط بين قتل "الأجنبى" (‘el-roumi') لشقيقه ونهبه لبلاده فخسروا الأرض والهوية. ويحكى هارون قصة البحث المضنى بلا جدوى عن موسى على شاطئ البحر وفى أحياء المدينة وهو طفل فى السابعة يجرى وراء أمه المكلومة وكأن موسى لم يكن أو كأن البحر قد ابتلع جثته. ثم تأخذه أمه ليعيشا فى قرية بعيدا عن المدينة والشاطئ المشؤوم، فيعيش طفولته وصباه وشبابه تحت مراقبة لصيقة من أمه التى جعلت من شبح موسى زائراً مقيماً لتذكير هارون بمطلبها الدموى: "لم تتركنى أضيع وقتا من غير شحذ سكين أنتقامنا العائلى".
جاء وقت الانتقام مع مشارف الاستقلال، ففى أول أيامه يقوم هارون ومن ورائهأمه بقتل فرنسى هارب دخل منزلهم خطأ ويكتشف أن قتل الفرنسى لم يك طريقاً للخلاص الذى ظل ينشده طوال حياته. فهو لا يسمى جريمته قتلا ولكن تعويضاً أو استعادة لما فقد (une restitution) ربما عن استحقاق ولكن من غير شرف. ويظل هارون بعد اعتقاله ينتظر عقوبته ولكن العدالة فى حالته كما كانت فى حالة مورسو، لها أيضا مدار تكتنفه العبثية وعدم المنطق. فالتحقيق معه لا يدور حول جريمة القتل التى أرتكبها فى حق الفرنسى بل حول أنها حدثت بعد يوم من اعلان الاستقلال. وكما يوضح له ضابط جيش التحريرالذى حقق معه أنه لو قتل الفرنسى أثناء حرب التحرير بدلا من يوم واحد بعد نهايتها لكان الوضع مختلفاً فالقتل أثناء الحرب يختلف عن القتل بدون حرب ("فهناك قوانين يجب أن تتبع"). ثم يريد الضابط غاضبا أن يعرف لماذا لم يشارك هارون فى حرب التحرير ثم يهدأ بعد أن يعرف أن شقيقه قد"استشهد" على يد فرنسى (قبل عشرين عاما!).
فى النهاية يطلقون سراحه مما يثير غضبه لأن عدم محاكمته فيها نوع من عدم العدالة: "وجدت موقفهم غير المبالى يكاد يكون إهانة لى...لقد قتلت رجلاً ولكن يبدو أن التوقيت فقط شكل مشكلة مبهمة لهم...وكأن انتقامى قد تم اختزاله إلى نفس مستوى مقتل موسى من عدم الأهمية". وكما حدث تغيير فى شخصية مورسو بعد دخوله السجن، حدث تغيير لهارون بعد اطلاق سراحه. فهارون يشعر أنه مذنب تماما مثل مورسو ("اكتشفت اننى عملياً صِنْوالقاتل") لانه يرفض أيضاً ان يؤدى الدور الذى فرضه المجتمع عليه، فالذى ضايق الضابط المحقق أكثر من التوقيت غير المناسب لجريمة القتل كان اتخاذ هارون موقفاًغير مبالى اثناء حرب التحرير. ثم بدأ هارون يلتفت أكثر للأحداث فيشاهد حماس ما بعد الاستقلال يستنفذ نفسه والاوهام تنهار فى صراع حول السلطة يتحول لحرب اهلية أو ما وصفها "بالافعى التى لا نهاية لها" (‘le serpent sans fin')..
وأذا كان هارون قد اتخذ موقفاً وسطاً فى حرب التحرير فان موقفه من طرفى المعادلة فى الحرب الاهلية (العسكرتاريا والاسلام السياسى) لم يكن وسطياًبل كان رافضاً لكليهما فهو ضد التكيف مع الأوضاع أو التماشى مع الأعراف التى يفرضها الحكم الشمولى على حريته الفردية. أما رفضه للاسلام السياسى فيتمثل فى نظرته للدين والتى يمكن أن يفهم منها رفضه ليس فقط لكل الديانات بل لأى وسيط بينه وبين ربه: "أود أن ألقاه لوحدى عند موتى كما عند مولدى" وبالتالى رفضه للحركات والتنظيمات الاسلامية: "أريد التوجه إلى الله على قدمىّ إن دعا الأمر ولكن لا أريد الذهاب فى رحلة منظمة" – لعله يقصد بها النقل العام الدينى اذا صح التعبير (‘J'aime aller vers ce Dieu, à pied s'il le faut, mais pas en voyage organisé')
وكما فى بدايته يقوم داوود فى الجزء الأخيرمن "تحقيقه المضاد" بالتفاف آخر حول رواية كامو فيحول اسمها إلى "الآخر" (L'Autre) بدلا عن "الغريب" (l'Etranger) ويجعل الراوى مورسو هو المؤلف بدلا من كامو . ثم يجعل من (مريم) الباحثة عن حقيقة (العربى) والتى يحبها هارون فى علاقة لا مستقبل لها هى الوسيط فى تعريفه برواية مورسو وما تحويه من تجاهل شائن لمقتل شقيقه موسى. وللقارئ ان يتساءل هنا هل لاسم مريم دلالة أكثر من كونه المصطلح العربى المقابل لاسم (مارى) صديقة مورسو فى صدىً آخر لرواية كامو؟ أم أن الإشارة لمريم ولاسمى النبيين الكتابيين هارون وموسى تحمل هنا رمزية دينية يمكن للقارئ تفسيرها– أوعدم تفسيرها – من أى منطلق أراد؟ ثم أن لتبادل الأدوار بين كامو ومورسو مقاربة أخرى حين يتقمص داوود نفسه أحيانا شخصية هارون مما يعطى القارئ انطباعاً بأن ما يدور من أحداث متشابكة ومتداخلة فى الروايتين هى أكثر من سرد روائي وليد الخيال بل تبدو أحياناًوكأنها وصفاً أو مراجعة لاحداث حقيقية. أو من منظور مختلف تماماُ فى النهاية – فى مفارقة ابداعية أخرى–كأن كل ما رواه هارون لا يعدو أن يكون أكثر من خطرفات عجوز مشتت الأفكار داخل حانة بمدينة وهران! فهو فى النهاية يثير تساؤلاً فى أذهاننا حول حقيقة ما رواه لمحادثه فى الحانة: "أنا شقيق موسى أو لا شقيق لأحد وربما مجرد كذاب أشر .... فما هى الحقيقة فى ماحكيته لك؟ هذا خيارك يا صديقى!" فكأن داوود فى النهاية يقول للقارئ أيضاً: عليك أنت أن تقرر! (‘À toi de trancher')
ولعل من المآخذ القليلة على تحقيق داوود – فى تقديرى على الأقل – يأتى من تماهٍ أخير مع رواية كامو حيث يقتبس مقطعاً طويلاً من مواجهة مورسو الدرامية مع قسيس السجن ليوبخ إمام المسجد بنفس الكلمات التى استعملها كامو/مورسو. هذا الاقتباس الطويل لا يزيد شيئا للتواصل الفكرى والفنى بين الروايتين والتى ينجح داوود فى ربط المقاربات والمفارقات فيهما باسلوب سلس ومشحون وذى رمزية وتوازن يكاد يكمل التطابق بين شخصيتى هارون ومورسو. ألم يكن فى الامكان إذن خلق مواجهة أخرى بين هارون وإمام المسجد بمعان وكلمات مستوحاة من تجربة الجزائر نفسها والتى وصل فيها التطرف الدينى حد الحرب الأهلية؟ وفى المقابل ربما يكون للاقتباس معنىًمحدداً فى ذهن داوود قد لا يستطيع كل قارئ سبر أغواره كما قد يصعب على من هو غير جزائرى أن يتمكن من أن يتفهم بشكل افضل تصورات داوود ونظرته لاهمية ومعان التقاطع والتواصل الثقافى الذى يربط فرنسا ما بعد كامو بجزائر داوود.
ومهما يكن من أمر فإن ما يجمع الجزائر من تراث اسلامى ليس فقط بسائر دول المغرب العربى فى شمال أفريقيا بل أيضا فى شرق القارة وغربها قد أفرز أيضا ظاهرة مروجى الهوس الدينى ومحتكرى صناعة التكفير وموزعى الفتاوى بحز الرؤوس واستباحة دماء خلق الله. فالدعوة الأخيرة من زعيم حزب سلفى فى الجزائر لقتل كمال داوود تقف دليلاً مؤلماً على أن المعتقدات البالية المنكِرة للحريه وللحياة لا تزال تعشعش فى أذهان الذين أنغلقت عقولهم عن تقبل العلم والابداع الفنى. فى رواية (الطاعون) يقول أحد أبطال القصة: "ان الشر فى العالم يكاد يأتى دائماً من الجهل...والناس فى غالب أمرهم أميل إلى عمل الخير من عمل الشر. ولكن هذه ليست القضية. فهم جهلاء لدرجة قد تزيد أو تنقص وهذا ما نسميه بالرذيلة أو الفضيلة والرذيلة التى لا يجدى معها اصلاح هى الجهل الذى يتصور أنه يعرف كل شئ ولذا يعطى نفسه الحق ليقتل..."
17 نوفمبر 2015
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.