حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    مؤتمر القمة الإسلامي يحذر من أي تدخل خارجي في السودان واحترام وحدة وسيادة أراضيه    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الأمم المتحدة: آلاف اللاجئين السودانيين مازالو يعبرون الحدود يومياً    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَنْ يحاكم مَنْ؟ ومَنْ بيده الحل..؟!
في رواية الجزائري الطاهر وطار «الشمعة والدهاليز»
نشر في الصحافة يوم 21 - 09 - 2010


«نحتاج إلى الفن لكي لا تميتنا الحقيقة».
«نيتشه»
يقول الروائي الكبير الطاهر وطار الذي رحل في الشهر الماضي «أنا لم تكن لي غاية في الفن، لربما العكس هو الصحيح، أي ان الفن كانت له غاية فيَّ أنا، أنا فتحت عيني على هذه الدنيا مصطدماً بعدم الانسجام بيني والكون والناس وكل ما هو حولي، فحاولت أن أصرخ، غنيت في صغري لما كنت مراهقاً، حاولت تقليد بعض الأغاني لكن صوتي ردئ فانتقلت إلى الشعر لما كنت طالباً بمعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، لكنني لم أفلح، ووجدت ذاتي في الأخير في القصة القصيرة والرواية، الغريب في كل هذا لماذا كنت مصراً على ان اكتب او اصرخ؟ لماذا لازمني الفن؟ هذه تبقى مسألة اخرى لا ادركها بالضبط». والطاهر وطار يعتبر شيخ الروائيين الجزائريين والمغاربة عموماً، وهو أيضاً من شهود العصر الكولونيالي وما بعده. ورواياته لها طعم ورائحة الجزائر الخاصة، والعربي الذي يقرأ روايات الطاهر وطار يحب الجزائر أكثر مما أحبها هو نفسه كما يقول الكثيرون. وفي رواياته مثل «اللاز» «وعرس بغل» «وتجربة في العشق» «والشمعة والدهاليز» تحس بأنه يبحث في نصوصه عن الصدق والطهارة، ويحاول الكشف عن الزيف في الحياة السياسية والاجتماعية في وطنه والعالم العربي كله. وفي رواية «الشمعة والدهاليز» هذه كان أكثر صراحة وصدقاً في هذا الكشف، مما أدخله أحياناً في متاهات التقريرية والخطاب المباشر.
الراوي أو الشخصية البطلة في هذه الرواية يتحدث بضمير الأنا، فهو محور الرواية كلها، وبالمقدرة الروائية التي يملكها استطاع أن يجعل راويه اشبه بالراوي العليم او الحاضر الشاهد دائماً، كأنما هو فعلاً يمثل الشخصية الثانية للمؤلف. وهو أي الراوي شاعر وأستاذ جامعي، وهذا الاختيار لم يكن عشوائياً او اعطباطياً، فالشمعة التي حملها هي اكثر قوة وضوءاً من بقية الشموع الأخرى. بمعنى اكثر كشفاً وانارة، لدهاليز الوطن ومنعرجاته المظلمة. وهو بثقافته يعترف بأنه من اصحاب الدهاليز رغم الشمعة التي يحملها في يده. وهو اعتراف مقصود ومحمود لكي يؤكد ما يقوله الراوي دائماً بأن الحقيقة لا يمتلكها في الكون شخص واحد او ايديولوجيا واحدة. ورغم ان الراوي يتحدث بضمير الأنا، ولكن الطاهر وطار بخبرته الروائية الطويلة، لم يجعل التيار الروائي يخضع للعفوية أو الرأي الأوحد «احتكار الحقيقة» وإنما ترك المجال لأصوات أخرى أن تتحدث في الرواية بغير صوت الراوي أو صوت الأنا. ففي الرواية توجد تقنية المصادفة، والذاكرة القوية، كأنما الراوي هو التاريخ الحديث للجزائر. والتاريخ كما نعلم لا يقدم حلولاً جاهزة للحاضر، وانما هو للعبرة والاتعاظ ومحاولة كتابة التاريخ الذي سيأتي. يقول الراوي «تمنى لو يدخل وسطهم، ويندمج في جذبتهم، مفسحاً للدهليز المظلم في أعماقه أن يضئ ولو للحظات قصار، إلا انه أحجم عن ذلك» فهو محايد حياد التاريخ لا يريد أن يكون منحازاً في النص لشمعة واحدة من بقية الشموع الموجودة. وهذه الحيادية تجعله لا يقف ضدهم، أي الجماعات الإسلامية، وطالما ان لهم شمعتهم فقد ينيرون ما حولهم رغم انهم بإرادتهم الحرة قد دخلوا في سرداب الماضي كما يقول الراوي، وخلعوا جلباب الحضارة الغربية فجأة وتنكروا لها. وهم الذين يقولون بأن الجزائر هي الشجرة التي ليست شرقية ولا غربية. لذلك فعلوا ما لم يفعله السادة ما بعد الاستقلال او حملة الفيروس الاستعماري، خلعوا اللباس الغربي، وارتدوا زياً جديداً وشكلاً جديداً، والطاهر وطار في هذه الرواية قد استخدم تقنية المفارقة والتضاد بين مجموعتين كل واحدة ترى أن الحل والنور والشمعة هي شمعتها الوحيدة، والحل هو الطريق الذي تسير فيه ويجب أن يتبعها الآخرون. والراوي أو الشخصية البطلة لكي تؤكد حياديتها وسلامة موقفها فقد كان يمثل الاستقامة السلوكية، لأنه كان عازباً ويعيش وحيداً وسط الأسر والعوائل، بحيث لا يستطع أحداً أن يتناول سيرته بسوء في «لو كان يصلي معنا في الجامع لقلنا إنه أحد أولياء الله...». ومهمة الراوي محاولة أن يكشف اللا محالة التي يعيش فيها كل من يدعي انه وحده الذي يمتلك الحل ويمتلك الحقيقة في وطنه. ويقول أحدهم «لسنا فرنسيين، لسنا مسيحيين قطعاً، لسنا اشتراكيين قطعاً، لسنا رأسماليين قطعاً، مدنيون هذا واضح، كذلك لسنا ريفيين، هذا واضح ايضاً لقد انسلخنا منذ ثلاثين سنة عن بداوتنا ولم نتحضر بعد...»، فهنا تجسيد واضح للإحالة التي يعيش فيها المثقف خاصة الذي يدعي فهم كل شيء ولم يتحضر بعد... والطرف الآخر يدافع ويكشف عن هويته خاصة الحرس القديم، «لقد خرجنا من ديارنا والتحقنا بالجبال، وبين أعيننا ملاقاة الله، سلمنا أنفسنا إلى ربنا ولم نهن أو نجبن، أو نتراجع، واصلنا إلى أن منَّ الله علينا بنصره المبين، فهل يمكن أن يشك أحد في إيماننا أو في إسلامنا...» فهي مرافعة قوية لكل من يحاول أن ينزع الهوية الدينية أو يصادرها من الحرس القديم، فقد كانوا يطلقون على انفسهم المجاهدين وليس الثوار، وطالما أن الهوية الدينية هي للكل فلا يحق لأحد أن ينزعها من الآخر أو يحتكرها نيابة عنه. هؤلاء الذين يرفضون كلمة جمهورية لأنها فرنسية معربة. والراوي الشاعر يقول «إن الحضارة التي اتصورها، يغيب فيها السيد، بينما تبقى السيادة ويبقى المسود، انها حضارة الانسان الآلي. والديانات ظهرت في عصر الإنسان المزارع، ألا يقال ان كل الأنبياء قد رعوا الماشية؟». ويقول له أحد الأطراف «أنت تذهب بعيداً أيها الشاعر، وأخاف عليك من كثرة تحكيم العقل على الأقل في هذه الأيام...» لأن الحالة لا تتقبل إعمال المنطق فقط، فاللغة الفرنسية سجن واللغة العربية القاموسية أيضاً سجن، كأنما المنطق هنا يتطلب الوسطية. ولكي يؤكد بأن اللغة الفرنسية لا تعبر تعبيراً حقيقياً عن وجدان الإنسان الجزائري يقول «كان يتفادى التحدث عن المرأة إلا بما توحي به اللغة الفرنسية، التي يكتب بها، والتي يحس انها لا تستطيع أن تتنزل لملامح أمه أو خالته، أو حتى العارم ابنة خالته، لأن عليه في الآن الواحد، أن يستحضر، وأن يستبعد المخزون المترسب من لامارتين وراسين ومونتسكيو ورامبو وفيكتور هيجو، يستحضره لأنه قرأه، وأحبه ورسب في ذاكرته، ويشكل وجداناً تجريدياً في أعماقه، تطل ازميرالدا وهو يتخيل «العارم» فلا ينطبق الوصف على الموصوف ولا الرسم على المرسوم» والعارم هي ابنة خالته التي تغلّبت على الجندي الفرنسي الذي أراد اغتصابها. والراوي يعترف أيضاً بإشكالية اللغة العربية الفصحى في الوطن أي اللا حالة التي يقع فيها حتى الجزائري العروبي المثقف الذي يريد أن يعبر ويكتب بهذه اللغة، فيقول «حاول أن يكتب باللغة العربية، أن يقول على غرار شعراء الغزل، لكن الانغلاق في لغة القاموس التي يتلقاها في شكل متخلف جداً بالنسبة للغة الفرنسية جعله يعدل عن ذلك...». وهو لكي يؤكد هذا الازدواج وهذه الثنائية التي بداخل الراوي والتي يريد أن يؤكد بها حياديته فهو عندما وقع في الحب والغرام فقد اختار فتاة جزائرية عادية وغير متعلمة، لا تتحدث الفرنسية، وتتكلم العربية بطلاقة، وفي نفس الوقت يتمثل في احاديثه، بالخيزران زوجة الخليفة هارون الرشيد، ذات الأصول البربرية، فيقول عنها «هي أي الخيزران، قد أهمل شأنها لأنها من أصل بربري، انها احدى الاشكاليات في العلاقة بين العرب وبين الشعوب الأخرى، والجزائريون منساقون بالمنهج الذي يضعه لهم الباحثون المشارقة» فالشاعر أيضاً يمثل اللا حالة شخصياً، فهو متنازع بين الفرانكفونية ولغتها التي يشمل التعبير بها، وبين عشقه للعربية ومن يتحدثونها، وصعوبتها في التعبير وانغلاقها ومفرداتها غير المواكبة، ويعجب تاريخياً بالخيزران البربرية ويلوم المؤرخين على اهمالها، وفي نفس الوقت ورغم اعجابه بالفتاة التي لا تتحدث الفرنسية فإنه يعتبرها من الجيل الذي تربى في السهولة وولد فيها وشاهد السهولة تغمر أهله.. الذين سكنوا بدون تعب ولا إرهاق، اغتنوا في أسرع وقت، امتلكوا أرفه الأثاث، وأفخر السيارات، وتولوا أعلى المناصب دون كفاءة أو شهادات». ولكن هذا الجيل الذي ولد في السهولة، عندما يستيقظ من هذه السبات وهذه السهولة، يجد ان الآباء قد استنفدوا كل شيء، فازوا بغنيمة الاستقلال ولم يتركوا للجيل الجديد شيئاً، كأنما الصانع قد استأثر بالصنيعة والغنيمة. فانفصم هذا الجيل عمن سبقه، وامتد هذا الانفصام ليشمل الزمان والمكان. والمكان دائماً للأسف هو الوطن، رغم أن هناك شمعة بعيدة تبشر بالأمل.. شمعة لا تزال متقدة في قلوب من يظنهم الجيل الجديد قد انتهى دورهم مثل والدة الفتاة التي يحبها الشاعر، وهي تمثل الفطرة الايمانية السليمة أو ايمان العوام كما يقول الامام الغزالي هي التي ترى ان الخير موجود طالما هنالك أولياء اتقياء كجدها الولي «بولزمان»، وهذا التدين الفجائي الذي ساد وسط الشباب ما هو إلا من نفحات هؤلاء الاولياء. والفتاة التي يحبها الشاعر والتي تعتبر امتداداً لجيل الفطرة الايمانية تكتشف الازدواجية واللا حالة التي يعيش فيها الشاعر نفسه التي أطلقت عليه لقب هارون الرشيد «شوفي يا يمة، عندما تكونين معه، يطمسك تماماً تماماً، مرّة يتحدث عن العرب، مرّة عن البربر، مرّة أفلاطون، عن كسرى، دقيانوس، مرة عن الجن، مرّة عن العقل...» فهذه الفتاة ذات الفطرة النقية والسليمة محتارة بين من يريدون إرجاعها للماضي والتخلي عن الحاضر، وبمن يكلمها عن كل ذلك. كأنما هي الجزائر محتارة عند من يكمن أو يوجد الحل؟. وهي فعلاً عند الشاعر تمثل الجزائر التي يريدها وموجودة في داخله. يريدها بنقائها وفطرتها الأولى، تتحدث العربية فقط لا شرقية ولا غربية.. آسيوية وإفريقية. «هل أنت عزلتي واغترابي؟ هل أنت ترددي وحيرتي؟ هل أنت الزمن الذي يفلت مني؟ هل أنت الوجه الذي لم يوهب لي؟ هل أنت العارم ابنة خالتي؟ انسلت روحها من ملكة الأوراس الكاهنة؟ أو من خديجة بنت خويلد؟ أو من عائشة أم المؤمنين، أو من زينب أم المساكين؟ أو من إحدى قصائد امرؤ القيس؟ أو من إحدى لوحات راهب طاردت خياله صوره العذراء». فهو هنا يحلم ويتمنى أن تكون الجزائر كل ذلك، مجتمعة دون تجزئة. بمعنى أن تعود إلى ما قبل الكولونيالية، والتي يريد أن يجزئها البعض، بعضهم يريد لها أن تعيش في الحاضر فقط والآخر يريد لها أن تعيش في الماضي فقط، والبعض يريد المعايشة بين الماضي والحاضر.
ورغم ان الراوي يريد أو يبدو أنه يريد أن يكون محايداً ولا يحمل فكرة واحدة ضد الأخرى أو حتى لا تنسب فكرة الراوي إلى قصدية الكاتب، ولكنه لم يستطع ذلك حين كان الراوي منحازاً إلى الجزائر العربية المسلمة وضد الجزائر المستلبة ثقافياً. وهو يخاطب أبيه صراحةً وهو يمثل جيل المحررين المجاهدين الذي قد يمثل ويخاطب به السلطة بعد الاستعمار «عذرك أنك خرجت من ليل الاستعمار، وان هذا منعك من لغتك، وأبعدك عن دينك، وحجب عنك تاريخك، ومع انه لم يستطع ان ينصرك فإنه دينياً حيدك، أسكن في رأسك لامارتين بدل حسان بن ثابت، وجان دارك بدل طارق بن زياد والاسكندر الأكبر بدل خالد بن الوليد». ورغم انحيازيته الخفية لكنها لم تنجه من المحاكمة والاتهامات، فالكل يعتبره ضده، لأنه كان سلبياً ولم يثبت لأحد منهم صراحة بأنه واحد منهم، وكان مصدر الاتهام المشترك هو إغوائه الفكري للفتاة التي تبدو في الوقت الواحد «آسيوية إفريقية». أصحاب السلطة يعتبرونه قد تآمر ضدهم معها، وأصحاب الاتجاه الإسلامي اعتبروه بأنه قد أغواها لتغير أفكارها بأفكار عصرية، وأصحاب الثقافة الفرنسية اعتبروه يمثل معاداة الغرب بصفة عامة وفرنسا بصفة خاصة، فهو مادام خطراً على فرنسا فهو خطر على الجزائر وعلى الإسلام، وعلى الحلف الأطلسي ومجلس التعاون الخليجي والعروبة أيضاً.. وحبه لهذه الفتاة التي لا تتحدث الفرنسية هو دلالة على كرهه لكل غربي وعصري. فالكاتب هنا يحاكم الكل بمحاكمة الراوي، حيث أن كل واحد منهم يدّعي امتلاكه وحده للحل والحقيقة، والفتاة «أي الجزائر» بريئة من كل من يدعي أنه يملك حلولاً لمشاكلها، وهو الوحيد الذي يحق له أن ينطق باسمها. فكل قاضٍ في هذه المحاكمات لم يكن يملك شهوداً أو دليلاً على ما يقول سوى البندقية التي سينفذ بها الحكم فقط. وهي دلالة رمزية كبيرة في هذه الرواية. ورغم أن الخطاب الروائي في روايته «الشمعة والدهاليز» كانت فيه احيانا بعض الهتافية التقريرية، ولكنها كانت احيانا ضرورة لتجسيد الفكرة التي يريد الكاتب ابرازها، وهي تحمل بعضا من افكار الكاتب التي قال عنها في أحد اللقاءات التي اجريت معه وقد سئل عن مدى ما يمكن قوله بأن مجموع انتاجه الابداعي ما هو الا شذرات متفرقة من سيرته الابداعية وايضا الذاتية، وخاصة في رواية «الشمعة والدهاليز» حيث هو أقرب الى دعاة العروبية والإسلامية في الجزائر، اي ان الراوي في تلك الرواية يمثل الذات الثانية فعلا للكاتب، وقد اجاب يرحمه الله عن هذا السؤال قائلا «الكاتب والرسام والموسيقار بصفة عامة عبارة عن مصدر حرارة، عن مصدر طاقة تمول كل ما ينتج منه من اعمال. والعمل الادبي لا يمكن ان يكون بعيدا عن ذات الكاتب ابدا، سواء عن وعي او لا وعي، إننا اشبه ما نكون بنحلات ترعى في الجبل او في غابة، او في حديقة من الزهور، هي مجبرة اصلا على ان تعطي عسلا، ولكن مذاق العسل مرتبط بالنحلة وبما رعته في اللاز» او في الزلزال، او في «عرس بغل» او «الشمعة والدهاليز»، بل في كل اعمالي مهما حاولت اخفاء نفسي فالتعابير هي تعابيري، والكلمات هي كلماتي، والشهقات هي شهقاتي، مهما كانت موضوعيتي وهذا شيء طبيعي».
واستيعاب الروائي الطاهر وطار للماضي والحاضر جعل زاوية النظر عنده متسعة وليست ضيقة، فهو بحكم الميلاد والتجربة يعتبر شاهدا على الماضي والحاضر، ويجعل حتى انحيازه مقبولا حتى من الذين يختلفون معه.. فالرواية خالية من الفصول، وهي حرة في الزمكانية، بحيث كان الراوي حرا في الدخول لكل الدهاليز لأنه كان يحمل شمعة واثقا من أنها ستجعله يتجول بحرية في الماضي والحاضر. وهي رواية كشف وأسئلة عن الأسباب، فهو بذلك حاول أن يكسر قاعدة ثقافة الجواب التي تقوم بها بعض الروايات العربية، وهذه الأسئلة ليست مباشرة وإنما هي مستنتجة خاصة في نهاية الرواية، ترى ما هي أسباب المشكلة، هل في احتكار الرأي والحل؟ أم هي أزمة مثقف تاه في منتصف الطريق بين عهد الاستقلال ما قبله وما بعده؟ أم هي أزمة جيل جديد لا علاقة له بما حدث في الماضي وما يحدث الآن في الحاضر؟ أم هي أزمة الذين ضحوا وقاوموا وصنعوا الاستقلال ولكنهم يريدون ثمناً لكل ذلك؟ ومن حقهم، فالرواية قوتها في طرحها لكل هذه الأسئلة دون أن تحاول هي نفسها الزعم بامتلاك الحقيقة، كأنما أرادت أن تقول بأن شمعة واحدة لا تستطيع انارة كل الدهاليز، وهي بذلك، بمضمونها القوي وشكلها الحداثوي الذي أخضعه الكاتب للمضمون حيث كان المقال في خدمة المقام، بكل ذلك يجعلها من الروايات الرائعة في تاريخ الرواية العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.