هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    تعادل باهت بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا    ((نصر هلال قمة القمم العربية))    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشهيد أبوسالف: عنقاء الزمان : الخل الوفي .. بقلم: د. خالد حسن إدريس
نشر في سودانيل يوم 14 - 01 - 2016

نفت العرب في أزمانهم القديمة وجود الصداقة الوفية في حيز الخلق الانساني حتي أضحى لا انفصام بين العنقاء الاسطورية والخل الوفي. والحق يقال لم يشهد عالمهم بعد الراشدين الخلفاء غير التصديق بالمأثور حينما طغت الإحن على وقائع أيامهم ولونتها بانعدام الثقة فى الأقربين والأصدقاء وتطاول التطاحن والغدر منذ بغداد الكرخ إلي أندليسيا قرطبة تحكي لي الأميرة سارة نقدالله وقد إتصلت تعزينى ( لأنها لم تلاقني فى التشيع في المقابر ولا في بيت العزاء) واقعة كوبر حينما جئ بعبدالله من بيوت الأشباح لسجن كوبر وكان من أوائل من ذاقوا الأشباح ونالوا بشاعة بيوتها الأليمة وسطوة غياب الضمير فى عنفوانها المجنون. رفض مدير كوبر استلام الأمير أبوسالف من رجال الأمن لأنه لا يمكن أن يتحمل مسؤولية مواطن ينازع الموت سكرات. مشهد من تراجيديا إغريقية شهده السيد الصادق المهدي والأمير الحاج نقدالله وكانا نزيلين آنئذ هناك، قالا لمدير السجن نحن نتحمل مسؤوليته. الرجوع به إلي بيوت الأشباح يعني موتا محتوما. حدثني الأمير أبوسالف قال لي عن هذه الواقعه ‘حينما عرفنا من همسهم أن وجهتنا إلي سجن كوبر شعرنا كأنما نحن مساقون للجراند أوتيل‘. كان هذا التعذيب يمحق حتي حبيبات الأدرلين في الخلايا. لكنه مختلف عن جنون أمن النميري الذي ركل وسحل وعذب وقتل وقد ذاق أبوسالف نصيبا شقيا من ذلك.
قرأت عن تعذيب أبوسالف حبيبي من تقارير آمنستي إنترناشونال وأنا في أمريكا. وكنت فخورا بتضحيته وبطولته لكني مشفق أشد الإشفاق عليه مع يقيني بصموده المعهود وحبه المطلق للحرية والفداء. حقا من علمهم مثل هذه الآيات الشيطانية وألوان عذابها الرجيم.. والتلذذ بالإهانة والتعذيب والضلال. ألا يشي هذا بمن هم ومن أين جاؤوا. ستون عاما تزاحم أيامها بعضا ونحن في عروة الصداقة الوثقى ولم نختلف لحظة على شىء يذكز. نتذاكر في شؤون شتى محورها الوطن والعقيدة وسيرالبطولات. جده لأمه الأمير محجوب استشهد فدى للحرية والمجد في كرري وأمه "النخيل" كانوا ينادونها بت الشهيد. كانت من أروع من عرفت رقة ومحنة وحبا للناس وصبرا.
حكى لي أبوسالف قال: أطلق سراحي مرة وأخذني ضابط الأمن إلي أمدرمان وعند بيت الأزهري همّ أن يودعني وسألني ما وجهتك من هنا. وكان ردى تلقائيا إلي جامع الإمام عبدالرحمن‘ وكان اليوم جمعة فقال لهضابط الأمن أظنكم أنتم أقوام لا تتورعون ورجع به للسجن لمزيد من التأهيل. ولم يدر هذا الغر أن أبوسالف مؤهل منذ النشأة الأولى لحبالحرية والتضحيات. يعتريني منذ يوم وداعه شعور عرفته يوم وداع أختي قبل ستة أشهر. وكنت قد عانيت رفض قبرها وجدانيا وأعجب كيفأمضي رويدا بعيدا أتركها والآن بكل ترصد الخطى وقسوة المعقول أتركه:
''منو القايل نوسدا
بي لا اله إلا الله
ونحرّسا للصباح مَلَكينْ
ونمشي نفوت..ونتلفت
' نديها الخَلا ‘
والسراب والصَيْ
ونخليها للوَحَدة والضَلْمَة.."
يكاد يكون نفس المشهد. أحمد شرفي يضم الأحباب ‘واحدا إثر واحد‘..كل في ثوب مجده يورثك الطمأنينة من مرقده مطمئن ل ‘كفن من طرف السوق وشبر في المقابر‘ . إلا أن أبوسالف يترك لك حنقاوحرقة وغبنا ورغبة في الثأر كثيفة وثورة طاغية حتى على حزنك المقدس وعلى كل لحظة قضاها معصب العينين وهم يقتادونه لبئر أو لهاوية مزعومة ثم يضحكون ويركلون ويشتمون. مدينتنا خربت تماما يا إمام العدل ولم يبق إلا ان نسعي بثقة 'لفش غبينتنا‘ ونقول أين من ذاك غوانتنامو أو لعلها ذات الممارسة وابتداع التعذيب ممزوجا بسافاك الفرس..كان يحتفظ إلي وقت قريب بجلبابه الملطخ بالدماء وقد حشدوا لهم البعوض والنمل والجندب عُهدة حذروهم إنيصيبوها بأذى. وعسى رانية، صغرى البنيات، تحفظه الآن ضمن مقتنياته الزهيدة. حُشروا في حمام شديد الضيق ثمانيتهم (معهم البروفيسور فاروق محمد إبراهيم وقد كتب رسالة للبشير تظلما عن الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه وينشد عدالة قانون عاطل) يتناوبون الجلوس والوقوف لضيق المنزلة وطول الإقامة. وتكريما للعلم والخلق البهيالفضيل أفسح 'البانيو‘ للبروف..هكذا يروي أبوسالف..إبتذال وصفاقةماسمعوها قط في حياتهم وما عرفها إنسان السودان. وتذكر خطفا عبقرالطيب صالح رحيمه الله.
أبوسالف الرجل المهذب رحيم القلب الساخر من كل هذا، المناضل الضاحك في وجه الخطوب وفي كل دروب الحياة يلقى هذا التعذيب والطغيان فردا أحدا. ولو قدر له أن يقتص لما قال بغير قول النبي الكريم للطلقاء. وقد كان يتمثله في كل مزاجه وخلقه، كريم السجايا جم السماحة والوفاء عف اليد عند المغنم.
في هستيرية مفعمة بالحماسة والإنفعال يستغيث راديو أمدرمان أن الدبابات متوجهة إلي دار الإذاعة في محاولة انقلاب علي ثورة الشعب في أكتوبر. كان ذلك في التاسع من نوفمبر 1964. كان أبوسالف معي وبعض الرفاق. هو الموت دون ثورتنا وخرجنا بعد أن وثقنا وصاياناوحددنا وجهتنا وطفنا بقبة الإمام المهدي نستهدي ونستبين..والدار خالية.ثم إلى الإذاعة بأيدينا نصد الدبابات القادمة والتي كنا لا نشك في مقدمها. كنا نعتقد أننا لم نتواني أو نتئد لكننا وجدنا جموعا كثيرةيملأون الطرقات حول شوارع الإذاعة نساءا ورجالا.. وجدنا لاستغرابنا العم الحاج أبوسالف بسمته المهيب وزمرة من أهلنا.. عمي الحاج يعبئ زجاج الملتوف!..وتفرقنا نجمع السيخ والحجارة وبعضنا يعد الزجاجات الحارقة لصد أرتال الدبابات القادمة من 'الشجرة والمهندسين‘..والتي لعلها لم تتحرك شبرا. هذا أبو عيسى أهدانا ليلة المتاريس الخالدة في تارخ هذا الشعب الأبي من خيال ثوري واهم مضل.
كانت لدي صورة فوتغرافية لأبي لعلها كانت الوحيدة بحوزة الأسرة آنئذ وفكرت أهديها للمدرسة التى أنشأها في منتصف الأربعينات بمدينة الكاملين كأول المدارس الوسطى في المنطقة بجهد أهلي في ذلك الزمان. أبوسالف يعلم ونحن طلاب ثانوي حالة ضيق ذات اليد التي نحن فيها. جاءني في صباح الغد الباكر عن فكرة ستظل معلما في عقلي للإيثار والتضحية والقدرة على التدبير. يقول أن لو صمنا عن وجبة الإفطار لمدة شهر نستطيع توفير تكلفة انتاج الصورة عند استديو نوبار، الخرطوم.وتركنا الوجبة لشهر وجمعنا المبلغ المطلوب. الآن هذه الصورة لأبي تجلل مكتب الناظر في المدرسة لا يدري أحد أن أبوسالف هو الذي أهداهاشراكة من مصروف الفطور لشهر كامل.
قد لا تكون هنالك عنقاء في الزمان ولكني علي يقين تام من الخل الوفي. يعيش بيننا يحمل الوفاء هاديا في تعامل كل لحظات عمره. يكون عبدالله في غايات الألم الممض وأحيانا الغياب لجلطة دماغية خفيفة عابرة وعندما أجئ أجالسه، يستغرب أهل بيته في كل مرة أنه يهش لمقدمي ويبتسم إيحاء بشعوره أني في حضرته. هذه الغيبوبة شبيهة بما يعاني منه الآن الأمير الحاج نقدالله ولسنوات ولا نشك إنه هو التعذيب وضرب الأنذال على هامات هؤلاء الأبطال.
إتصل بي الأمير أبوسالف هاتفيا يقول إنهم 'نزلوا الشارع‘ يعني مرضي الفشل الكلوي والذين يغسلون في مركز كمال حمزة، رجل الخير الذي فتح مركز وفاء برا بالوالدين بذات الإسم بالعرضة- أمدرمان.. يقول العاملون أنهم يعتذرون عن متابعة واجبهم للنقص الحاد في مواد الغسيل بل وانتهاء 'كهربة الجمرة‘ من أجهرة المركز وتأخر أجورهم لأكثر من شهرين أو ثلاثة . أبو سالف قيادي بفطرتة وتأهيلة وانسانيتة، رئيس نقابة مهندسي دار الهاتف. حرك المرضى والمرافقين وأخذهم إلي شارع العرضة العريق. حينما وصلته هالني أنهم في حرور الصيف يرقدون على شارع الأسفلت يسدون الطريق العام. وجاءت قوات النظام العام مدججة بالسلاح والهروات لتعالج هذا التفلت المعيب. يقول أبوسالف للضابط القائد: نحن أصلو ميتين ميتين، نموت بكرامه. كان هذا مبدأه في كل مسيرة نضاله. اتصلنا بمسؤول المحلية ومشكورا جاء ومعه بعض الملايين من الجنيهات كانت في خزينة البيت! عاد المرضي ومن شايعهم إلي عنبر الغسيل. وتكرر مرات هذا المشهد وقاد أبوسالف 'قوات شارع الأسفلت‘ مرات أخرى. ويذكر ولو على سبيل ترطيب هذا المشهد أن أحد إداري المركز المشرفين على معالجتهم كان قد أعلن من قبل عن موعدزواجه متيقنا أن متأخرات شهورهم الثلاثة سوف تصرف لهم. ولم تصرف. أبوسالف لاشك أنه لممثل هذا الموقف،وفي كل موقف يستدعي الاقدام والقرار. ومن 'سرير غسيله‘ أعلن الزواج قائم وجمع المال اللازم وتم الزواج في موعده.
كان له شقيق يصغره نشأ في رعايته الأخوية صديقا ما افترقا في كل خضم الحياة المائجه بعبث العسكر المسيس وتسلط الدكتاتورية ويقتسما حبا عزيزا للناس والإنسانية. لكن محمدا كان متمردا ثائرا. تم قبوله بخور طقت الثانوية لكنه رفض الدراسة..طلب مني عبدالله أن أكتب مناصحا وهو يعلم مكانتى عنده كأخ صديق. وقد اقتنع محمد بمراجعتي وهدايتى له توفيقا وانضوى في أشواط تعليمه الثانوي فأكملها متميزا. وقد كان في أيام صباه الباكر ينادي أخاه بلفظعبدالله أخيىّ..حتى أصبحنا نطلق عليه هو هذا اللفظ الحنون. محمد أخيّى. حفظ ثلثي القرآن الكريم في الخلوة. وكان حاد الذكاء جادا هميما مخلصا. إتصل بي عبدالله في صباح يوم أغبر يقول 'عندي ليك خبر مُر..مُر‘ مات محمد..كان موته فجاة..ونعود نتذكر اللهو في بحر النيل الجبلاب والجروف 'وحرازة أبسالف‘ الدوحة السامقة هناك وسط حقول الحمص.. والتي قطعت أو وقعت فيما قطع أو سقط.
حكي لي عبدالله معركة الدائرة خمسين، أم بدة شمال في انتخاباتالديمقراطية الثالثة (86) والمرشح فيها عن حزب الأمة القومي صلاح الصديق المهدي..مات في حادث حركة كغيره من قادة الحزب يموتون في الطريق كبعض كمريدز النظام الشيوعي في كوريا الشمالية! ثم رُشح مكانة الأمير الحاج نقدالله وفاز بها. وكان بمثابة فوز موازى لمحمد وعبدالله أبوسالف للتفاني وما بذلاه في حملة انتخابات ديمقراطية نزيهة حقا.
العمل المهني جذب عبدالله إلى خضم الوعي بالمجتمع وما يعنيه منمهارات وتنظيم وتضحيات وكان عبدالله قائدا في هذا المضمار في عشيرته الجبلاب وزملاء المهنة والأنصارية وفي دروب الحياة جميعا. ابتعث المهندس أبوسالف إلى هولندا في منتصف السبعينات وقد تطاولت سني العسكر وترهل الظلم وخيبة الأمل الوطني.
وكالحلم الجميل يجئ إلينا عبدالله في درم المدينة الجميلة في شمال إنجلترا. يقول أهلها ومروجو السياحة إنها أجمل مدينة علي الكوكب. جامعة درم، رصيفة أكسفورد وكيمبردج عمرا وعلما . تحتفظ بأكبر مجموعة من وثائق السودان خارجه. جاء وكنت حينها أبحث عن سكن وقد أحتاج صاحب الدار داره عند تقاعده. وحمنا حول أطراف المدينة نبحث ولما طرقنا بيت صاحب الإعلان تصدي لنا كلب حراسة شرس له ‘عواء‘ كفرقعة الرعد فأعلنا تقهقرا تكتيكيا واستنجادا بالعربة وفي سرعة خاطفة غير لائقة كثعبان دي. اتش. لورنس في صقلية. وارتمينا نضحك كما لم نضحك من قبل ولا من بعد. وأنا أعيد علي عبدالله مقولة أمير البرين والبحرين أبوقرجة بطل الثورة المهدية والذى يؤثر عنه قوله ‘مافي جوف مافيه خوف..لكن الراجل هو البركز ساعة الحارة.‘ تبين لنا بعد هدأة المشهد أن الكلب كان مربوطا وثاقا في فناء الدار. وما يزيدنا هذا إلا هستيريا من الضحك.
كان حينما يسأل عني أبي يقال له 'عند ناس أبوسالف‘. فأجئ له وكان رحيما عرف بين أقوامة بالحكمة والقيادة. يقول يا بني الصداقة الحقة هبة.. كن دائما حريصا عليها لكني لا أريدها أن تكون تضيقا علي الصديق وكأنه يعلم رقة حال أهل صديقي عبدالله وقتها. ودار عمي الحاج في ذاك الزمان غرفة خارجية واحدة تمثل نصف منزل الإيجار، كانت لنا ولغيرنا فيها إستذكارنا وانسنا والضيوف. كنا كثيري الجلوس إلي الراديو وننفعل معا بعثمان حسين يتغني أرضنا الطيبة 'بلادي أنا‘تشعرك أنك أنت المعني بهذا وأحيانا تستدر أدمعنا مناداة الآباء والأجداد ونعلم أن لهم أثر باقي في مجد بلادي. حب الأوطان يبدأ ههنا.يقول سير وولتر سكوت:'لا أود أسمع منكم أبدا أن الدماء الشجاعةالتي قد أريقت كانت بلا جدوى. إنها ترسل تحد وعبرة عبر الأجيال‘.كانت كرري شاخصة أبدا تشحذ الفكر وتقوي العزيمة. ولعل هذا سر صمود أبو سالف وحبه الأسطوري للوطن وأبنائه ولقيمه النبيله.
كنا نستمع لأغنية 'ست الحبايب‘ لفائزة أحمد المطربة المصرية وننتظر بثها بشغف. أنا فقدت أمي طفلا وعبدالله أمه بنت الشهيد، بعيدة هناكفي أرض الشمال الجبلاب..كلمات ذاك الغناء تجسد حبه لها المقدسوصارت أمه لي أما ورمزا للأمومة. تطاولت بي الغربة وكانت هي دائما معي ولكم سألت الله كثيرا أن ألقاها عند عودتي. غير أنى لقيت الزمن غيب فى غيابي كثيرا من ذاكرتها ووعيها. والحياة تمضى وليتها تنتظرعودنا.
عدت من إنجلترا أحمل الدكتوراة ولا شئ غيرها. شهادة لاقيمة لها عند نظام لا يأهبه للعلم فتذوق منه أفانين الملاحقة والسفه المايوي وعنتا ممضا. رُفض أن يكون لي مرتبا أعيش به وتدفع دفعا كى تغادر. كانت لعبدالله عربة رخصها عربة أجرة 'تاكسي‘ لعلها كل ما عاد به من هولندا. قدمها لي أشتغل بها. ألقاه في دار الهاتف الصباح الباكر و'أطرح جوكيا‘ حتي الثانية الظهر. يوصلني ودنوباوي علي أمل اللقاء في الغد.(قصص طريفة ومثيرة في عالم التاكسي ذاك الزمان).
كان أبوسالف نابها حاذقا لعلومه وله ولع بعلم الرياضيات موهوب في مسائلها. يشرح لي ما استعصى وكان كثيرا ما يتعذر إستيعابي.ومضى في طريق الهندسة ومضيت في آخر غيره. توفيت إلى رحمة مولاها قبل بضعة أعوام تلك الفتاة بارعة الجمال 'البرونيت‘ ذهبية اللون وجاء وعي وشعوري بحبها متاخرا.. إنشغالي بالحزن القديم وطموح العلم عطل إحساسى ويظل سعيها حبا لي وصدّى لها حسرة ما بقي العمر: يقول عبدالله مواسيا متحسرا لم تك فقدك وحدك كلنا كنا نحبها..ولأول مرة بعد طول السنين أعرف هذا ولو علمت لتغيرت مصائر.
الآن أفيق على أمرين من رغائب الأمير أبوسالف لابد من ذكرهما ههنا أولهما آخر ما قال به أمام المرضى ومعاونيهم في مركز الوالدين لغسيل الكلى بأمدرمان. في الغسلة قبل الأخيرة يدعو الناس بصوت عليلأن ينزلوا الشارع لازالة الظلم والفساد ويعيدوا الحرية والديمقراطية.
كان الأمير عبدالله حريصا أن تدخل فتاته الصغيرة بيت سعدها ويفرح بسعادتها وعندما أفصح لي عن همه قلت له أنا أتزوجها. يقول لي كيفلها بربك أن تتزوج أباها. ووعدي الآن أن يكون هذا همي كما كان له هما.
عند كل ربوه ومزار أردد سؤالي يوم فقدي محمد المهدي، صديق الطفولة،
وأحس به سؤال تأسى أعزي به نفسي وأحباب الأمير أبوسالف:
وبعدها سيبقي اعتذارنا
وذات قسوة السؤال
من الذي يموت فينا
هذه الليلة الخاتمة
لعلنا جميعنا
في غمرة أو غمرتين
طيّ غيبها سواء
تصدعٌ زوال
ويبقى وجهك النضير
مترفا بالحب
وادعا وهانئا..
ولم يمت
لا أدري لماذا أصبحت أشعر بالزمن في غير موضعه.. أحيانا كثيرة أوشكأسأله عن ذكرى أو أمر عشناه معالأتبينه واستدرك في لمحة وحسرة ..أردد الآن وفي كل حين بعد فراقي عنقاء الزمان، خلي الوفي الأمير عبداللهأبوسالف:
' قربا مربط النعامة مني‘
ذات ناقة الملهل حين دنو الأجل...
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.