عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. السودان .. الأرض اليباب! الأخ العزيز طارق الجزولي .. تحياتي أرجو التكرم بنشر هذا المقال في صحيفتنا الغراء (سودانايل) ، أدام الله عزَّها ومجدها لتظل نبراساً في عهد الظلام وناقوساً في زمن الصمت وهامة في زمن الذل والانكسار.
مع وافر الشكر
صدق من يقول : اللي مضيع ذهب .. في سوق الذهب يلقاه واللي مفارق حبيب يمكن سنة وينساه لكن اللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه
وهل من وطن بديل؟ هل يمكن أن تجد وطناً بديل؟ .. ربما تصنع وطناً بديلاً .. لكن يظل الأصل مفقوداً مهما كانت البدائل .. يمكن أن تهاجر ولكن لن تهاجر عنك الأرض والتراب والمقابر والذكريات والطفولة والشباب .. يمكن أن تنسى وترتدي الأناقة والجمال ولكنك واقعاً تتذكر وترتدي أسمال الفقراء والمساكين الذين يقيمون في ذاكرة الإنسان والوطن .. يمكن أن تغني ولكنك واقعاً تبكي فقر الناس والألم والحاجة والمأساة .. يمكن أن تفرح ولكنك تبكي حزناً .. الفرح ليس اختياراً .. .. .. (.. وجوه متوترة يصفدها الزمن .. محولة عن التحول بالتحول .. مملوءة بالأوهام .. والمعاني الخواء .. يتضخم فيها ورم اللا مبالاة .. والتركيز المفقود .. والرياح الباردة تعصف بالبشر والأوراق الجافة ....) يقال في الأدب الصوفي إن (الموجودات كلمات) .. فالحجر قصة .. والشجر عبارة لأهل المعرفة الذين يجيدون أصول القراءة .. ولكن ... عندما تتحول الأرض الطيبة بنيلها ونخيلها .. بشمسها .. في شروقها وأصيلها إلى بقعة بور عاطلة عن الحياة .. وإلى كتاب أمِّي أصم ، عندها تتساوى قراءة الأحياء والجمادات وتصبح اللوحة غبراء شائهة كما وصفها ت.س. اليوت أعلاه . تلك هي (المؤامرة الوطنية) التي يؤديها الأبناء بجدارة فيتحول الفرد البسيط إلى (لا منتمي) يتحلل من كل الروابط المقدسة .. فيفقد انتماءه الأسري بالغياب القسري .. ورباطه الاجتماعي بالغربة الذاتية .. وأذليته الوطنية بالهجرة النفسية فما دهانا وإلى أين نمضي؟ الشكوى ليك يا ربنا .. في لحظات العتمة وتداخل الإجابة بالسؤال واختلاط الشك باليقين يمكن أن نطرح هذا التساؤل ببراءة ساذجة .. ولكن عندما نعلم أننا في عصر علم الإدارة وسيكلوجيا الفرد وسوسيولجا المجتمع يصبح الأمر أكثر إيلاماً وأقسى احتمالا .. لقد قطعت الأمم مشواراً طويلاً في مسار التاريخ .. قامت بتأهيل الفرد نفساً وخلقاً ليكون صالحاً لنفسه ولمجتمعه بالتربية والتعليم والحرية .. وأقرت النظام بالدساتير والديمقراطية .. وبنت جسور العلاقة بين الأفراد بالثقة والاحترام والاعتراف المتبادل .. ليتحول الإنسان إلى استثمار وطني إنساني .. ويتحول الوطن إلى أم رءوم تتعهد أبناءها بالحماية والرعاية . يقول الدكتور هاشم صالح في رحلته التنويرية العظيمة إن الأمم تموت إذا تعبت من العطاء الحضاري .. أو استسلمت للأمجاد .. أو وثقت بالزمان أكثر مما ينبغي وأسرفت في الترف والطمأنينة والأمان .. ولكننا في السودان نموت من الفقر الحضاري .. ونصور للمجد صوراً هزيلة .. ولا نضع للتاريخ قيمة ولا للزمن اعتبارا .. كأننا في جزيرة معزولة .. نعبد الأصنام ونستقسم بالأزلام .. ونقوم بوأد البنات .. ولنا أيامنا كيوم بعاث ويوم أرماث وداحس والغبراء .. تحركنا الجاهلية والقبلية والجهوية والعنصرية .. وفي كل يوم ترذلون .. إن الإنسان ليصاب بفصام عقلي وعاهة فكرية ويصبح أخرساً وأبكماً عندما يعود في هذه اللحظة من التاريخ المتقدم ليرى وطنه بلداً يعيش في عصور ما قبل الميلاد .. يعاني من الملاريا والدسنتاريا .. يعلو الغبار أركانه .. يبحث إنسانه عن الرغيف والكينين .. ينزوي طلباً للأمان .. وتتضاءل كرامته فيفقد الستر واليقين .. وأكثر من ذلك تجد أناساً يرقصون طرباً ولا يعلمون أنهم يؤدون رقصة الموت الأخيرة على موال حزين .. إن من يحب ربه ودينه ينبغي أن يحب وطنه .. ومن يحب وطنه يجب أن يحب مواطنيه .. ولتكن إنساناً عليك أن تعرف معنى الإنسانية .. فلا خير في نعيم يتمدد حولك ويقف دون آخريك .. إذ لا معنى ولا طعم لثيابك الفاخرة وحولك العراة .. ولا فائدة لسيارتك الفارهة وجوارك الحفاة .. ولا حتى للعافية إذا كان من معك يفتقد ثمن الدواء . تلك قيم صارت أساطير تحكى كالخل الوفي والغول والعنقاء .. هكذا سادت عندنا (فلسفة القوة) وصار (الإنسان الأعلى) هو القوي .. الجبار .. الظالم .. السيد .. وصار جل الشعب أرقاء وأسرى للحاجة يتكففون اللئام وعاديات القدر والمصير .. كلنا في هذا العقوق سواء وعلى هذه الخيانة ملامون .. وما هذا الكتاب إلا إقرار بالخيبة والعجز والفشل .. ولكننا نكتب فقط لننسى .. وننسى لنتذكر .. نصلى وندعو بحزن للذين لا يستطيعون الصلاة ..
عندما تساءل الراحل الطيب صالح من أين أتى هؤلاء؟ لم يكن يجهل .. بل كان سؤاله استنكارياً ولم يكن سؤالاً استفهامياً .. مثله مثل صديقه أبوالطيب المتنبي في صحاري نجد وهو يقول (نحن أدرى إذ سألنا بنجدٍ أطويل سفرنا أم يطول .. فبعض السؤال اشتياق وكثير من رده تعليل) .. لم يكن السؤال عن السفر وهو يعلم بعد المسافة .. ولكنه الشوق والإلحاح واللهفة . من أين أتى هؤلاء؟ بالتأكيد لم يهبطوا من المريخ بل جاءوا من رحم هذا المجتمع .. من عمقه الفكري ومخاضه الاجتماعي وعبر تاريخ طويل وتموجات لقيم صعدت وأخرى هبطت .. وكانت النتيجة استجابة حقيقة لكيفما تكونوا يولى عليكم .. ولكن ما الذي يصنع الدكتاتورية؟ و ما الذي يجعل الأيديولوجي أو الدكتاتور يعتقد أنه على صواب؟ في كتاب "ما وراء الخير والشر" يقول نيتشه ( لا تفكر في هل ما يقوله الفيلسوف صحيحاً أم خطأ ، ولكن أسأل كيف ظنَّ أنه صحيح) لأن ذلك يجعلنا أقرب لمعرفة تاريخ الفكرة والمناخ الذي أفرزها والظلال التي كانت السبب في تكوينها .. وبامتلاك ماضي الفكرة يمكن قراءة انعكاسها على الواقع وتأثيرها على بناء المستقبل .. كما يساعد ذلك كله حتى في معرفة ما لم يفكر فيه صاحب الفكرة .. في علم السياسة ونظريات الاستبداد تعرَّف الأيديولجيا بأنها فكرة ذات اتجاه واحد ، مغرورة بذاتها ، تفترض الصواب المطلق وهي في استغناء تام عن ما سواها وتتجاهل حتى هامش الخطأ الموجود في النظريات العلمية .. من هنا تولد الدكتاتورية .. قطار يمضى بكبرياء أجوف في اتجاه خاطئ .. ومن هنا تأتي أهمية المعارضة في النظم الديمقراطية كرقيب لضبط الآداء الحكومي وشريك أساسي للتصحيح وتوسيع دائرة المشاركة .. بعد حرب النكسة في 1967م انطلقت الحركة الإسلامية بقوة نتيجة للإحباط الكبير الذي ساد بعد الهزيمة ولتقاعس الحركات اليسارية وتفتت القومية العربية .. انطلقت الحركة الإسلامية تحت شعار "الإسلام هو الحل" ووجدت قبولاً هائلاً لتجذر العاطفة الدينية في المجتمعات العربية ، ولكن البناء النظري للحركة الإسلامية كان يتجاهل التطور الهائل الذي حدث في حركة المجتمعات وتعقيداتها وتقارب أطراف العالم وسيادة قيم الدستورية والديمقراطية وحقوق الإنسان .. هذا ما كان على الحركة الإسلامية إدراكه.. كان عليها أن تحتمي بالوسطية والمشاركة الجماعية وتعمل على مراجعة المنهج و محاسبة للذات .. سئل الدكتور غازي صلاح الدين في تلفزيون السودان عن تقييمه لمسار الحركة الإسلامية فأجاب بأنه إذا كان هناك من بعث للحركة يجب أن يكون ذلك في إطار وطني .. نعم إن السيد غازي ينعي المشروع الحضاري للحركة الإسلامية ولئن تأتي أخيراً خيراً من أن لا تأتي .. نقول هذا الكلام ليقيننا بأنه إذا فاتنا إدراك ما مضى .. فعلينا تدارك ما يأتي ..
لكن ما الذي يحدث؟ انظر ما حولك .. لن تجد سوى المصالح الضيِّقة تتحكم في هوى النفوس المريضة .. فنبيع أعز ما نملك من قيم لقاء أرخص ما في السوق ، لن تجد سوى النرجسية والأنا المتضخمة والوهم الكبير .. لن تجد سوى المعارك الوهمية والذاتية البغيضة .. "مسكين السودان" .. هذا البلد الموبوء بتاريخه وجغرافيته وإنسانه .. والغني أيضاً بتاريخه وجغرافيته وإنسانه .. نعم هو السودان بلد "الفرص الضائعة" .. ونقص القادرين على التمام .. بلد التناقضات المتوافقة .. والتوافق على الاختلاف .. و"مسكين هذا المثقف السوداني" .. هو الداء والدواء .. هو الجلاد والضحية .. هو التنازع بين الهجرة والبقاء .. بين الضرورة والعطاء .. عندما أري حال السودان البائس دائماً اتذكر أسطورة انطوني مان القبيحه "الرب خلق السودان ثم ضحك" .. أتذكر مقولة سعد زغلول "غطيني يا صفية .. مافيش فايدة" .. أتذكر مقولة الراحل محمد صادق دياب (السودان .. كل ما التأم جرح جدَّ بالتذكار جرح) .. إنه الحس الوطني المفقود .. والمنظار الأناني الضيق .. هو عقوقنا كأبناء لهذا البلد التعيس .. هو التكاسل والتخاذل "والحيل القليل" .. إذ ليس عيباً أن تولد فقيراً ولكن العيب أن تدمن الفقر .. وليس مسؤوليتك أن تولد في بلد متخلف ولكن مسؤوليتك ألأ يظل بلدك متخلفاً .. هكذا فقدنا الروح الإبداعية الخلاقة .. وتلاشى الفكر الباحث عن الحقيقة في ذاتها .. نكتب من أجل "الشوفونية والاستعراض الفكري" .. نمتطي عربة السياسة من أجل المصلحة والمجد الشخصي .. نتجمل على حساب أهلنا الفقراء من أجل المظهر الاجتماعي .. حسبنا شيئاً من التواضع العرفاني لنرى ثيابنا المتسخة .. شيئاً من التقوى الوجودية لاستشعار الحس الإنساني .. شيئاً من الاستثمار الفكري من أجل "البيعة الكبيرة" .. ورغم ذلك يظل مشروع "الحلم السوداني" قائماً .. الاستاذ محمود محمد طه رحمه الله كان يقول "نحن نحلم الأحلام الكبيرة ولكنها تتحقق" .. ولا شك أن الأحلام بحقها .. بشروطها .. بالعاملين عليها .. أجل إن المعركة كبيرة .. تحتاج لمعاول للهدم .. ومقاول للبناء .. هي معركة جبارة تحتاج لجهد معرفي هائل وأسلحة فكرية مدمرة لمحاربة الأنبياء الكذبة والكفار الجدد .. ألم يكن نيتشه صاحب "ألغام فكرية" .. ألم يقل هيدجر عن فلسفته بأنه "بائع أسهم نارية" .. ألم يكن ميشيل فوكو مفجر قنابل "التفكيك الاركيولوجي" ..؟ كل ذلك من أجل الميلاد الحديث .. و"العبور الحضاري الكبير" .. ويظل الأمل باقياً .. ويظل مشروع "الحلم السوداني" قائماً بعمقه وكثافته .. بطوله وعرضه وألوانه الزاهية ..