يُحار الإنسان العادي مثلي كثيراُ فيما يفكر فيه ساستنا من أهل الحكم و المعارضة على حد سواء. و هذا الإنسان البسيط العادي الذي لم تلوّث عقله و يديه و قلبه "ساس يسوس"، يرى فيما يذهب إليه الساسة الحُكّام و المعارضون ضرباً من إضاعة الوقت و الجهد و المال، وكله محسوب سلباً على الوطن. كيف تقول هذا يا هداك الله و أنت ترى القوم يقومون و يقعدون ليل نهار و لسانهم يلهج بذكر مصلحة الوطن و يرددون بين هنيهة و أخرى أن همهم الأول و الأخير مصلحة هذا الوطن و شعبه و أنه يؤرقهم أن يعيش الناس في حالة من عدم الاستقرار و يفتقرون إلى العيش الهنيء مثلهم مثل باقي الكثير من شعوب العالم؟ وهذا بالضبط مما يزيد من الحيرة و الذهاب بعيداً في اتهام قصر عقولنا عن إدراك كنه ما يخطط له و ما يردده أهل السياسية، وتارة باتهام هؤلاء القوم بسلوك دروب خداع "ساس يسوس". هذه الحيرة تتفاقم كلما أمعنا النظر و تأملنا حال الوطن و ناسه، ثم أعدنا الكرّة والتأمل فيما يقوم به ساستنا داخل سدة الحكم و خارجها، و بين الحالين ينقلب إلينا البصر و هو حسير، و تزداد حالة غموض فهم ما يريده هؤلاء الساسة. الغريب في الأمر أنك تجدهم جميعهم – بدون استثناء- يهتفون باسم الشعب الأبي، و المواطنون "الثوار الأحرار"، و "وطنا البإسمك كتبنا ورطنا". قد تختلف عبارات، و مقاطع الخطب، لتواكب المرحلة و تتماهى مع الحدث و الظروف، و لكنها تبقى هي .. هي.. منذ أكثر من نصف قرن، تمجيد للوطن و إعلاناً لحبه و الإخلاص له، و الذود عنه، و مدحاً للشعب القابض على الجمر، و المكافح الثوري، المخلص، الملهم .. إلى آخر المفردات المعروفة التي يمكن الرجوع إليها في قاموس خطاب أهل السياسة و الشعر السياسي الذين يتغنى بالوطن و شعبه. أمام هذا الوضع دعونا ننظر للواقع، ماذا جنينا من كل هذا؟ أقصد ماذا جنى الوطن؟ انتهت، أو قل، توقفت الحرب في الجنوب باتفاق هش و دخول الحركة الشعبية الحكومة كطرف "برجلٍ" داخل الحكومة و "رجلٍ" خارجها. و ظل الشريكان في "حكومة الوحدة الوطنية" في حالة من عدم التوافق في القضايا حتى تلك التي يمكن أن تعتبر مصيرية للحكومة نفسها، مثل الموقف من المحكمة الجنائية و الوحدة. و إلا كيف نفسر تصريحات بعض رموز الحركة من هذه القضايا، و مطالبة باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان – على سبيل المثال- للمؤتمر الوطني التعامل مع المحكمة، و تبشيره بين الحين و الآخر بأن غالبية الجنوبيين سيؤيدون الانفصال؟ و إذا انتقلنا إلى قضية دارفور نرى العجب العُجاب في مراوحة ساستنا لهموم الوطن و المواطن، و انشغالهم بأمور تصب خصماً على مصلحة الناس و تؤدي في نهاية المطاف إلى هلاك الحرث و النسل. كم عدد الحركات المسلحة في دارفور؟ دعونا نكون صريحين مع أنفسنا و بعيداً عن التنظير، إذا كانت هذه الحركات تسعى لاستقرار و وحدة و ازدهار و تنمية دارفور و من ثم استقرار و تنمية السودان كله، فكيف تفرقت هكذا أيدي سبأ، تتبادل الاتهامات و الكل يعمل على "تكبير كومه". تأملوا تصريحات الدكتور خليل إبراهيم، رئيس حركة العدل و المساواة، و ما قاله لصحيفة الشرق الأوسط و نشرته في عددها الصادر في السادس عشر من فبراير الجاري، و ملخصه أن توقيف البشير قد يساعد في التوصل لاتفاق سلام و تحقيق التحول الديمقراطي. و بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع الموقف من المحكمة الجنائية، لكن علينا أن نلاحظ أن الدكتور خليل أدلى بهذه التصريحات في الوقت الذي تتفاوض حركته في العاصمة القطرية الدوحة مع الحكومة التي يرأسها عمر البشير. فتأمّلوا!!! نقرأ هذا مع اتهامات عبدالواحد محمد نور، وهو زعيم حركة أخرى من حركات درافور المسلحة ، و هي حركة تحرير السودان، و الذي وصف محادثات الدوحة بين الحكومة و حركة العدل و المساواة بأنها "بين إسلاميي السودان ولا علاقة لها بقضية دارفور." و على ذكر عبدالواحد يقفز سؤال – أحسبه مهم- وهو: "ما مصلحة دارفور و أبناء دارفور و السودان الذي يتحدثون باسمه، بعلاقة عبدالواحد مع إسرائيل، التي زارها في وقت سابق من هذا الشهر لحضور مؤتمر هيرزليا Herzliaالسنوي لرؤساء المنظمات اليهودية؟" وقالت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن عبدالواحد جاء إلى إسرائيل لحضور المؤتمر المذكور بمبادرة منه (at his own initiative )، هكذا أوردتها صحيفة "هاآرتس Haaretz" الإسرائيلية. و أترك للقارئ الكريم حرية تفسير حضور عبد الواحد للمؤتمر المذكور بناءً على العبارة التي أوردتها الصحيفة. و أضافت الصحيفة أن عبدالواحد طلب عند اجتماعه بالجنرال عاموس جيلاد Amos Gilad، الذي يرأس دائرة الأمن السياسي بالخارجية الإسرائيلية، طلب منه أن تقدّم إسرائيل دعماً لحركته في حربها ضد الحكومة السودانية. في ظل هذا الواقع الذي يفتقر لأدنى درجات الاهتمام بالمواطن و ظروفه و تفاصيل حياته اليومية والمستقبلية، و يضرب بعرض الحائط كل النتائج التي يمكن أن تحيق بالوطن إذا استمر هذا التناحر و الاختلاف و التنابذ بالألقاب و المواجهات المسلحة، فمن غير المدهش أن نرى ساستنا في الحكم أو في المعارضة المسلحة و غير المسلحة، تنصب أولوياتهم و همومهم على تقاسم السلطة و الثروة. و لعل اقتسام السلطة و الثروة بدعة راقت لأهل السياسة و وجدوا فيها ضالتهم التي ظلوا يبحثون عنها منذ ما يزيد قليلاً عن النصف قرن. و بقي الشعب الذي يلجأون إليه لتمرير مشاريعهم و تحقيق مآربهم و تصفية خصوماتهم السياسية، التي تحتاج إلى سند شعبي، بقي بعيداً عن لعبة اقتسام الثروة و السلطة، و كأنّ الأمر لا يعنيه في شيء. هذا الانفصام بين أقوال و أفعال أهل السياسة و بين عامة الشعب، أمرٌ مثير للحيرة فعلاً. و ما يفاقم من هذه الحيرة و يولّد الإحباط أن هذا النهج ظل يتكرر أمام أعيننا جميعاً، و لم نجرؤ على أن نقول "البغلة في الإبريق." استسلمنا لقدرنا و استكنا لوهننا و ضعفنا، و انتظرنا طويلاً أن يأتينا المنقذ.. من أين؟ لا أدري .. و هل يُغيّر الله ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم؟ * مترجم و كاتب صحفي بعمل في المملكة العربية السعودية