عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) لقد عرفتْ ساحات الصحافة العربية شمساً سطعت في سماواتها منذ أوائل السبعينات، هي صحيفة "السفير" اللبنانية، لصاحبها وصاحب القلم العروبي الناصع : طلال سلمان. ظلت "السفير" رمزاً مقيما منذ أكثر من خمسين عاماً، وشاهداً ملازماً للحراك العربيّ في علوّهِ وانخفاضه، وفي معاركه القومية وانتصاراتها، وفي انهيار أطرافها وتدهور أفكارها، وفي انهزاماتها، آخر الآخر. في الفترة الفاصلة بين عامي 1973 ، عام احتدام مواجهات المقاومة ضد الوجود الإسرائيلي ، وعام 1975 حين بدأت مسيرة الانتحار السياسي في لبنان وحريق الذات ، والنزف الذي تواصل خمسة عشر عاما، ولدت صحيفة "السفير" . إختارت الأقدار طلال سلمان أن تكون صحيفته وليدة هذه المعاناة ، وأختارته أن يكون شاهداً كذلك على الشروخ والجروح والنزيف العربي المأساوي . خرجت "السفير " إذن من هدير الهزائم والخسائر التاريخية الثقيلة ، وأفدحها ، خسارة العروبة والقومية، برحيل جمال عبد الناصر نفسه .. غير أن رحيل "السفير"، كان رحيلا مُسبباً بأوضح التجليات التي لامستْ قضايا الوطن العربي برمّته. (2) لعلّ أولى إشارات رحيل "السفير"، هي في اتصالها بتطوّر الأحوال السياسية السالبة في المنطقة ، والتي شهدتْ زلازل كاسحة ، أودت بنظمٍ عديدة بينها نظام حكم مصر- قلب العروبة- لعقود طويلة. إذ أن ذلك الزلزال الذي أسميناه "الربيع العربي" ، شكّل الفصل الأخير في رواية القومية العربية، وتداعي أطراف قضية العرب الأولى ، وهي الإستيلاء على فلسطين، التي صنعوا منها نبتاً شيطانياً، صدّق أكثر العرب أنها دولة إسمها إسرائيل، فانقسم شملهم بين من أغفى ومن تودّد ومن تصالح، بل ومن آخى. ذهبت لاءات الخرطوم إلى ركن قصيٍّ في الذاكرة العربية. لم تكن "سفير" طلال سلمان ، تلك الصحيفة التي تقبل التعايش مع واقع مجافٍ للوجدان العروبي، ولكن لقلم طلال طبيعته المقاتلة، دون ترخّص لإسالة الدماء الفكرية ، ولسلاسته ولكتاباته الرصينة، دبلوماسية لها مناعة ضدّ التطرّف ، وترياقٌ يُليّن الانفعال . غير أنّ الصوت الدبلوماسيّ في ساحات القضايا العربية ، لن يجد مُعيناً ولا مسانداً، فيما أكثر صحف تلكم الأيام- إلا من ذهب مذهب طلال - يجوع ولا يفعل فعل غير الحرّة ، تأكل من ثدييها. عاركتْ الأيام صحيفة "السفير" ، وهدّت قواها ، غير أن لطلال سلمان- وقد خبرته على أيامي في بيروت- قلباً كقلبِ الأسد، وقلماً يغالب الرّيح أينما اتجهت هبوبها. . ( 3) بعضهم رأى في خروج صحيفة "السفير"، هزيمة للصحافة الورقية ، وانتصاراً للصحافة الإلكترونية. لقد خرجت "الاندبندت" الصحيفة البريطانية العريقة ، من ساحة الصحافة الورقية في مارس 2016 ، وقد تتبعها النسخة الالكترونية خلال أيّام . ذلك نظرٌ يُجافي الحقيقة ، إذ لصحيفة "السفير" وجود قويّ في الساحات الإلكترونية، منذ سنوات . في مايو من عام 2009 ، بادر منتدى الإعلام العربيّ في دبي ، بتكريم سلمان ، بحسبانه شخصية العام الإعلامية الجديرة بالإحتفاء، فهو قلم واحد وقف لعقود متتالية، يدير دفّة صحيفته في اقتدار وحنكة. رؤيتي أن ليس من عراكٍ بين الورقيّ والالكترونيّ في الصحافة، إنما المعركة هي بين الفكرة والفكرة ، بين العقيدة الصلبة والواقع البراجماتي. (4) خلاصة الأمر، أن صحيفة "السفير" مثلتْ مرحلة من مراحل إثبات القومية العربية . مراحل الصمود دفاعا القضية الرئيسة. ولمّا أفلت نجوم تلك السموات ، وتشتت الوجدان العربي أيدي سبأ أو كاد، لم يبقَ منطق يُساند وجود "السفير" . بعد انفراط عقد الأوطان وحدود البلدان إلى فتاتٍ من طوائف وإثنيات وقبائل، ما كتب الله لها أن تتقاتل بل أن تتعارف. إن أفول القضايا الكبرى وتراجعها، يعدّ مقدمة لإنسحاب إعلام ما قبل "الربيع العربي". خروج "السفير"، هو الخروج النبيل لصحافي إسمه طلال سلمان، ملك بقلمه الرصين قلب الأمّة وحدّث بوجدانها.. وداعاً طلال سلمان ، لقد تركت صفحة "الجمعة" بيضاء هذه المرّة. .