وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    الأحمر يعود للتدريبات    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    الخارجية السودانية تستوضح السفير السعودي بشأن فيديو تهديد أفراد من المليشيا المتمردة    كباشي والحلو يتفقان على إيصال المساعدات لمستحقيها بشكل فوري وتوقيع وثيقة    شاهد بالفيديو.. في مشهد مؤثر البرهان يقف على مراسم "دفن" نجله ويتلقى التعازي من أمام قبره بتركيا    المسؤولون الإسرائيليون يدرسون تقاسم السلطة مع دول عربية في غزة بعد الحرب    الحرس الثوري الإيراني "يخترق" خط الاستواء    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    اتصال حميدتي (الافتراضى) بالوزير السعودي أثبت لي مجددا وفاته أو (عجزه التام الغامض)    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أساس الفوضى (12) .. بقلم: د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
نشر في سودانيل يوم 12 - 06 - 2016


بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
تحدّثنا عن الأيديلوجيّة على أنّها مفهوم سالب في سياقه الحالي حتى وإن كانت بدايته موجبة كتبشير بعلمٍ جديد للأفكار يقوم على معايير علميّة موضوعيّة.
وقبل أن نرجع لمفهوم الأيديلوجيّة ونتحدّث عن تاريخها ومدارسها السابقة نريد أن نتأمّل في العوامل التي تؤدّي إليها والمعايير التي تحكمها حتى نفهم كيف تنشأ الأيديلوجية، والتي، في نظرنا، ما هي إلا معاملة النّاس للأفكار وتعاملهم معها، فحتى من يريد أن يبني علماً للأفكار فلا بدّ له أن يستخدمها ويتعامل معها ويعبّر عنها بالكلام أيّاً كانت وأيّاً كان مصدرها.
وأوّل البحث هو عن ماهية الأفكار وأقسامها، ثمّ البحث في نتيجة تفاعل الإنسان المتلقّي للأفكار، والتي هي خيوط المعرفة، ودرجاته المعرفيّة، ثمّ العوامل التي تكوّن شخصيّة الأيديولوجي، لنري كيف أنّ هذه العوامل تؤثّر في تكوين الأيديلوجيّة.
فكلمة الأفكار جمع فكرة، وهي ما يطرأ على الإنسان في ذهنه ساعة التّفكير، والذي هو نشاط آلة العقل بواسطة اللغة. فهي كالخيوط تنسج منها المعاني المفهومة والمفيدة أو الضّارة إذا كان مغزل آلة العقل سليم، ومهارة غزل اللغة متوفّرة، وأدوات أدائها صحيحة، أو بغير ذلك فتصير هذياناً بلا معني ولذلك نتعب وننسج خيوط الكلام من أجل التّواصل.
أو كما قال سنيكا الأكبر: "الكلام مرآة العقل"، أو كما قال جون ستيوارت ميل: "اللغة ضوء العقل"، أو في حكمة الإمام محمد التّقي الجواد: "الجمال في اللسان والكمال في العقل"، وكلّها أقوال تدلُّ على الرابط الوثيق بين التفكير واللغة والتواصل. ولا نريد أن ندخل في الجدل أيّهما يأتي أوّلاً: التفكير أم اللغة فهما في نظرنا لا ينفصلان فهما كوجهيّ العملة الواحدة لا يتمّ واحد بغير الآخر.
هذه الخيوط من الأفكار قد تتجمّع كمجموعة خيوط كبيرة في ذهن الإنسان لا ترابط وثيق بينها، أو قد تكون منسوجة من قبل بواسطة آخرين ولكنّما تُبُنّيت تقليداً، أو قد تكون نتاج مجهودٍ خاص ابتداعاً فتنسج من المعاني والمفاهيم ما لم يوجد من قبل، وهذا هو الفرق بين التفكير كوسيلة والفكر كنتاج.
فالمُقلّد يفكّر ولا يتفكّر وينتج عن ذلك "مجموعة أفكار"، والمُجدّد، أي الذي يأتي بعلومٍ أو مفاهيمٍ أو نظريّات جديدة، يتفكّر في الأشياء وينتج عن ذلك "منظومة أفكار" أيْ "فكر".
وبالطّبع لا يفوتنا أنّ الإنسان يُولد بغرائز مُعيّنة وليس لديه علمٌ يعيه والمولي عزّ وجل يقول في مُحكم تنزيله: "والله أخرجكم من بطون أمّهاتكم لا تعلمون شيئاً"، فالمقصود العلم المُكتسب لا العلم الغريزي، ولكنّه لا يمكن أن يردَّ المعارف التي تُعرض عليه بواسطة والديه ومجتمعه، إذ لا حول له في ذلك، والتي ستختلط بتجربته الخاصّة فتتكوّن منها معارف جديدة قد تكون موافقة لما تعلّمه أو مُغايرة له.
ولهذا فعندما نتحدّث عن "منظومة أفكار" فإنّنا لا نعني أنّ الذي يبتدعه إنسان ما، لا يأتي من فراغ وإنّما يأتي إضافة أو نقداً أو نقضاً لما هو موجود في بيئة الإنسان ولما تعلّمه في حياته. وكلّما كبُرت تجربة الإنسان وامتدّت بيئته لتشمل بيئات أخري ومعارف جديدة، كلّما توسّعت نظرته وكان الفكر الذي سينتجه ذو بعدٍ إنسانيٍّ أوسع وأشمل.
ولذلك فإنّ النّظرة والحُجّة الدّينية أنّه ليس بوُسعِ إنسانٍ، مهما توسّعت معارفه وتجاربه، أن يحيط بعلم كلِّ شيء، وعليه فالعلم ناقص مهما بدا تمامه، ويوضّح هذا المعني قول المولي عزّ وجلّ: "وكان الله بكلّ شيء محيطا"، وأيضاً: "عالم الغيب والشهادة"، ولذلك فالإنسان، في نظر الأديان، في حاجة لمن يمدّه بهذا النّوع من العلم الذي يعينه على حياته وبعد مماته وهو الله خالق كلّ شيء.
ولهذا نجد استثناءً لعلم الرّسل ومراتبهم لأنّهم لم ينسبوا العلم لتفكيرهم الخاص، وإنّما هم مُبلِّغون لعلم مُرسل، ودليل ذلك أنّهم عندما فكّروا تفكيراً خاصّاً كان ورود الخطأ جائزاً مثل حُكم سيدنا داود عليه السلام، أو رأي سيدنا نوح عليه السّلام في ابنه، أو رأي المصطفي عليه أفضل الصلاة والسلام في تلقيح أشجار النّخيل.
ولذلك فالأفكار تنقسم، حسب رأينا، في ذهن المؤمن بها إلى مجموعة أو منظومة أفكار، والفرق بينهما ثلاثة معايير:
أوّلها مصدر الأفكار بمعني هل مصدرها ذاتيّ أم موضوعي؟،
وثانيها مدي درجة اختيار الإنسان للأفكار أيْ درجة الوعي والحريّة.
وثالثها مدي النّشاط الذهني في تكوينها بمعني درجة المعرفة والتفكير العلميّ المدعوم بالبراهين الذي استخدم في نشأتها إن كان ناشئاً من مجهود الإنسان الخاص ابتداعاً أو هو منقول تقليداً.
فإذا كان تكوين الأفكار نتيجة وراثة مفاهيم من بيئة الإنسان لأنّ لا يد له في قبولها أو رفضها؛ لأنّه لم يعرف غيرها ولم يدرسها دراسة وافية ليعرف أصولها الفكريّة، أو يرفضها أوّلاً حتى يمحّصها ثم يقبلها ثانياً كما هي أو في صورة معدلّة، بناءً على تفكير علميٍّ يسنده برهان، فهذه "مجموعة أفكار" لا غير، وعكس ذلك ما يمكن أن نُطلق عليه "منظومة أفكار" حيث الإنسان يملك الوعي اللازم والحريّة للاختيار ولرفض أو قبول الأفكار بناءً على مجهود ذهني علميٍّ.
وهذا هو الفرق المُهمُّ بين الدّين كموروثٍ مثلاً في مُطلق حقيقته وعلياه وبين فهم البشر له وتفسيرهم واستخدامهم للفهم والتّفسير الذي هو عُرضة للنّقص، وليس استخدامهم لأصل الدّين في أمور دنياهم، كأنّها الحقيقة المُطلقة، بينما الفهم السليم لا يتسنى إلا لم رسُخ في العلم.
والسؤال المُهمّ هو لماذا اعتمدنا هذا التّقسيم ونحن نعرف مثلاً أنّ الإنسان قد ينشأ في بيئة فيها "منظومة أفكار" مُعيّنة ومعروفة ذات رصيد فكريٍّ كبير، دينيّة كانت أو وضعيّة؟، ولماذا نسمّيها "مجموعة أفكار" إذاً؟
والإجابة هي أنّ ما يهم هو كيفية تجمّع هذه الأفكار في ذهن الإنسان المُعيّن وليس وجودها الخارجيّ، فهذا يُوضّح طبيعة هذا الإنسان ودرجة وعيه وحريّته ومعرفته، وبالتّالي يُعيّن الأساس أو القاعدة التي ينطلق منها هذا الإنسان للفعل إن كان ظنّاً أو علماً.
فالفوضى أكثر احتمالاً حين يكون غالبيّة أفراد المجتمع ممّن لديهم "مجموعة أفكار" موروثة أو مُختارة بلا وعيٍ، إذا ما ووجهوا بمشاكل صعبة.
والسؤال الثاني هو على ماذا بنينا هذا التّقسيم؟
هذا التّقسيم مبنيّ على تقسيم النّاس إلى أربعة أنواع؛ بناءً على أربعة معايير وهي: درجة معرفتهم ومهارتهم وخبرتهم وسلوكهم.
فالإنسان الأمِّيُّ الذي ينشأ في بيئة بسيطة لا تتطلّب معارف كثيرة، ولا مهارات عديدة، ولا خبرات عميقة، ولكن سلوكه سويٌّ ولذلك فهو يعتمد في قراراته الحياتيّة على فطرته السليمة يُعرف "بالساذج" لأنّ بصيرته تظلّ صافية لأنّه لم تغبّشها معرفة مكتسبة. وهذا هو النّوع الأوّل.
أمّا النّوع الثاني فهو الذي تعلّم القراءة والكتابة، وحصيلته المعرفيّة غير مكتملة عرف بعض الأشياء وغابت عنه أشياء أكثر، ومهارته ناقصة، وخبرته قليلة، فلا ترابط منهجي بين مجموعة أفكاره. ويُعرف "بالمبتدئ" أو "بالفطير"، أيْ الذي لم ينضج بعد. فإذا كان خلقه حسنٌ، وسلوكه طيّب، ومتواضع وذا بصيرة يسعي بها لزيادة العلم، لأنّه يعرف أنّ وُسع وعائه العقلي كبير وحصيلته ضئيلة، فذلك ما يُعرف "بطالب العلم".
ويعادل ذلك مثلاً في مجال الطّب الطبيب حديث التّخرّج في أوّل مرحلة التّدريب في أدناه، وعند تحصّله على وظيفة الأخصّائي في أعلاه، ويقابله في المجال الأكاديمي الذي تحصّل على شهادة الدكتوراه وتعيّن أستاذاً مساعداً.
وأمّا من ساء خلقه، وساء سلوكه، فكان مُكتفياً ومغروراً ومُعجباً بما عنده من علم؛ لأنّه يراه كثيراً لصِغَر وعائه العقلي أو ضعف آلة عقله أو كلاهما، فيظلُّ يتّهم غيره لا نفسه إن أعيته الحيلة، أو استشكل عليه الأمر، فيُعرف "بنصف المتعلّم" حتى وإن تحصّل على الدرجات الأكاديميّة العليا. فهذا النّوع من المتعلّمين لا يعوزهم الذكاء العقلي ولكن يعوزهم الذكاء العاطفي. ولا أمل في تغييرهم، مهما تطاولت خبراتهم وحازوا من الدرجات العلميّة العليا، أو السلطة الزمانيّة، أو المكانة الاجتماعيّة، إذ قلوبهم مقفولة، وآذانهم صمّاء، وأبصارهم عليها غشاوة، إذ أنّهم مُكتفون بما نالوا من علم ويتبعون "مجموعة أفكار" من صُنع خيالهم القاصر وهي انعكاس لمنهج معروف دينيّاً كان أو وضعيّاً، وهم يظنّونها "منظومة أفكار" فيُدينون لها بالولاء وينافحون عنها كأنّها الحقّ المطلق أو أنّهم يعرفون الحقّ ولكنّهم يتجنّبونه لمصلحة خاصّة. مثل هؤلاء هم العقائديّون من كلّ المذاهب والعِلَّة الأساس هي في تكوين شخصيّتهم وهي شخصيّة الأيديولوجي والتي سوف نتطرّق لها لاحقاً إن أذن الله تعالي.
والذكاء العاطفي مفهوم مهمٌّ سوف نتعرّض إليه لاحقاً إن شاء الله تعالي.
وقد أشار إليه الحكيم الليبي أيسوب، عندما قال: "كلما صَغُرَ العقل زاد الغرور"، وفي حكمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه يصيب الهدف كعادته بقوله: "واعلم أنَّ الإعجاب ضدَّ الصواب، وآفة الألباب". فهو يعطي قيمة أخلاقيّة ومعرفيّة في نفس الوقت.
ويجب الانتباه إلى أنّ هذا النوع هو أُسُّ البلاء في العالم وفي عالمنا العربي والسوداني على وجه الخصوص ومنه تنشأ الفوضى الفكريّة والتي تؤدّي للفوضى السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
أمّا النّوع الثالث الذي له علم واسع ولكنّه يعتمد على علم غيره أكثر من علمه، ويحتاج أن يُفكّر في حلّ مسألة ما ويبحث فيها أو يسترجع مصادر حلّها معتمداً على الاستنباط، ومع ذلك له مهارة كبيرة، وخبرة عميقة، وسلوك طيّب، بمعني التّواضع ومعرفة النّقص والسعي للاستزادة من المعرفة، فيُعرف "بالعالم" أو "الخبير". ومصداق ذلك قوله تعالي: "لعلمه الذين يستنبطونه منهم". ويعادل ذلك في مجال الطبّ مرحلة الاستشاري أو الأستاذ المشارك. ويوافق وصف المحقّق أو المجدّد الجزئي في الفقه الإسلامي.
أمّا الذي عنده علمٌ راسخ بحيث يري الأشياء بوضوح؛ بحيث لا حجاب بينه وبين فطرته السليمة فهو قد أوتي الحكمة، ولذلك يستخدم الاستقراء أو التّأويل كمنهج في التفكير ويكون تفكيره تكامليّاً بحيث يربط بين مختلف العلوم، ويقول فيه المولي عزّ وجلّ: "لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا، وما يذكّر إلا أولو الألباب"، ولذلك فهو يُعرف "بالراسخ في العلم"، أو "الأستاذ"، أو "السيّد".
وفي القرآن الكريم جاء وصفهم أيضاً "بأُولِي الألباب"، وفي تاريخ الإسلام يُعطي صفة الإمام أو شيخ الإسلام أو صفة المحقّق أو المجدّد الشامل.
ويقابله في مجال الطبّ مرتبة الأستاذيّة أو البروفسير كما يقال. وللراسخ في العلم مع ذلك مهارة عظيمة، وخبرة عميقة وسلوك طيّب، أيْ جمع العلم مع سنامه وهو حسن الخلق، وفي تصديق هذا قول الرسول المصطفي صلي الله عليه وسلّم: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، فلا غاية للعلم ولا فائدة إذا لم يفعل ذلك وهذا يعني تهذيب النّفس الموشوّشة الفوضويّة وتنقيتها من الشوائب حتى تتفتّح بصيرتها فيكون قلبها وقولها وفعلها متناسقاً وهو غاية النظام.
ولذلك قالت أمّ المؤمنين عائشة بنت الصدّيق رضي الله عنها تصف الرسول الكريم: "كان خُلقه القرآن"، وبهذه الجملة لخّصت ماهية الإسلام فهو علم: "من بعد ما جاءك من العلم"، يقود لحكمة: "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم"، تقود لحسن خلق: "وإنّك لعلى خُلقٍ عظيم"، يؤدّي إلى سلام: "يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام".
ولماذا يُسمّي هذا الإنسان بالراسخ في العلم؟ هذا يحتاج إلى خيال ومثل.
فإذا تخيّلت أنّ نفس الإنسان عبارة عن كوب ملئ بالماء الصافي، فالذي نفسه صافية لم تشوبها شائبة لأنّ فطرته سليمة ويعتمد عليها في إصدار الأحكام فإذا أسقطت عليه ضوء مصباح فإنّ الضّوء يعبر كما هو للناحية الأخرى وهذا هو "الساذج"، أو النّوع الأوّل.
أمّا إذا اكتسب قدراً من العلم فخلط صفاء الماء، لأنّ ما عنده من علم يعلق لخفّته في الماء لأنّ الجاذبيّة لا تؤثّر فيه كثيراً، فيفقد الفطرة السليمة وتختلط عليه الأمور فيغلّب الظنَّ في أحكامه لأنّ أفكاره مُشوّشة، وذلك لأنّه لا يحوز العلم الكافي للإنارة، لأنَّ الماء أكثر نسبة من العلم فتظهر أشياء أقل وتغيب أشياء أكثر، فإذا أسقطتّ عليه ضوء المصباح فسيتشّتت ولا يعبر منه للناحية الأخرى إلا القليل، وهذا هو النّوع الثاني "المبتدئ" أو "الفطير".
أمّا إذا ما اكتسب الإنسان علماً أكثر ثقُل وتماسك، وبانت معالم صفاء الماء بين كُتل العلم السابحة في الماء والمُتّجهة لأسفل الكوب بفعل الجاذبيّة، فتظهر حينذاك أشياء أكثر وتغيب أشياء أقل، فإذا أسقطتّ عليه ضوء المصباح مرّت أجزاء كبيرة منه للناحية الأخرى واحتبست أخرى، وهي ما تُعرف بمرحلة "علم اليقين"، وهذا هو النّوع الثالث.
أمّا إذا كان العلم من الكثرة والشمول فإنّه يشدُّ بعضه بعضاً وينزل إلى قاع الكوب بفعل الجاذبيّة فيصفي الماء في الأعلى ويرسخ العلم في قاع الكوب ولهذا تصفي البصيرة وتكون الأشياء هي الأشياء كما تبدو لصاحب الفطرة السليمة فإذا ما أسقطتّ عليه ضوء مصباح فإنّه يعبر للنّاحية الأخرى كما هي حال "الساذج"، ولكن الفرق بينهما هو معرفة لماذا وكيف المبنيّة على العلم وهي مرحلة "عين اليقين".
ومرحلة "حقّ اليقين" يصلها هؤلاء عندما يكونون في حضرة المولي عزّ وجلّ في مجلسه وهو شيء لم يصله أحد وهو حيٌّ في هذه الحياة الدّنيا إلا المصطفي صلي الله عليه وسلّم حين عُرج به وقال: "عُرضت علىّ الجنّة حتى لو مددت يدي تناولت من قطوفها".
وبإمكانك أن تستخدم مثل الشجرة الرّاسخة الجذور في أرض العلم، وتلك التي شبّت ولم تنضج وتلك التي ما زالت صغيرة ضحلة الجذور.
والشيخ الشعراوي رضي الله عنه يقول: " والرّاسخ في العلم هو الثّابت على إيمانه لا يتزحزح عنه ولا تأخذه الأهواء والنّزوات. بل هو صاحب ارتقاء صفائي في اليقين لا تشوبه شائبة أو شبهة".
فانظر إلى الكلمات التي استخدمها ومنها الثّبات والارتقاء والصّفاء واليقين وشائبة فهي جميعاً تدلُّ على عمليّة الوصول لهذه المرحلة من الشكّ لليقين الثّابت المبني على العلم حتى تصير البصيرة صافية لا فوضى معرفيّة أو فكريّة فيها ولذلك تضع صاحبها على قمّة النّاس. وقد ضرب الله مثلاً بالشوائب التي تطفو على السطح والعلم الذي يرسخ فقال: "فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض".
ونرى كيف ربط المولي عزّ وجلّ بين صفاء البصيرة والمقدرة على التّمييز وبالتّالي على رؤية الأشياء كما هي أو ينبغي عند راسخ العلم والساذج ولم يشمل "المبتدئ" أو "العالم" فقال: "لكن الرّاسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أُنزل من قبلك". فالرّاسخون يؤمنون بناءً على علم وفطرة سليمة والمؤمنون يؤمنون بناءً على فطرة سليمة.
هذا التّقسيم علميّ أثبتته دراسات الفيزياء ودراسات التعليم وله جذور معروفة في كلّ الأديان والنُظم العمليّة والإداريّة.
والاستثناء هنا مُعجز، لأنّنا كما قلنا من قبل، مرحلة "الساذج"، أيْ الأمّي الذي يعتمد على فطرته السليمة، لا علم مُكتسب له. وذلك انطبق جُزئيّاً على سيدنا إبراهيم لرشده مع صغر سنّه: "ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنّا به عالمين"، ولربما لمعرفته بالقراءة والكتابة، وينطبق كُليّاً على المصطفي لأُمِّيَّته المُطلقة، صلّوات الله وسلامه عليهما، وذلك في أوّل أيّامهما قبل الرّسالة، إذ رفضت فطرتهما السليمة عبادة الأصنام وابتدأت رحلة التّفكّر والبحث عن بديل يلبِّى حاجاتهما النّفسيّة حتى نزل عليهما الوحي.
ونلاحظ أنّ التّدوين للرسالة قد بدأ في عهد سيّدنا إبراهيم: "صحف إبراهيم وموسى"، وصار من بعد ذلك ديدناً ممّا يعني وضع اللّبنات الأولي للعلم الشامل حتى تمّ بناؤه في عهد المصطفي صلي الله عليه وسلّم وفي ذلك يقول المولي في موضعين: "ما فرّطنا في الكتاب من شيء"، ثمَّ يُعلن ذلك عند انتهاء مُهمّة البناء: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". والرسول صلي الله عليه وسلّم يُضيف مُوضِّحاً: "إنّما مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنياناً أحسنه وأجمله وأكمله فجعل النّاس يطوفون به فيقولون: ما رأينا أحسن من هذا إلّا موضع ذي اللبنة: فكنت أنا تلك اللبنة".
فالإعجاز هو أميّة الرسول صلي الله عليه وسلّم وعلمه الرّاسخ في نفس الوقت، وسبب الإعجاز أنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ لإنسان أبداً، حتى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، مهما كان موسوعيِّ المعرفة، ولذلك فمصدر علم الرّسول لم يكن ذاتيّاً ولا نتيجة تفكّر وبحث، ولكنّه كان علماً لَدُنيِّاً موهوباً مصدره معروف: "وإنّك لتُلقّي القرآن من لدّن حكيم عليم"، "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحي، علّمه شديد القوي".
وقد أكّد المولي عزّ وجلّ على أميّة الرسول فقال:
"الذين يتّبعون الرسول النبيّ الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل"، ثمّ أكّدها مرّة ثانية فنفي عنه علم القراءة والكتابة: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون".
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.