لعل من أطرف نوادر الجاحظ التي تدل على أنه كان في إيراد نوادره محباً للاستقصاء والتتبع لكل صغيرة وكبيرة في موضوع النادرة حتى تخرج متكاملة الجوانب متسقة الأداء، ما رواه عن أحد معلمي الكتاتيب، وكيف أنهم لطول معاشرتهم للصبية الصغار، تطيش عقولهم، ويفقدون صوابهم وينتهون إلى الجنون، ويقابل الجاحظ واحداً منهم، ولكنه يغير فكرته عنهم لِما رآه منه من سَمت ووقار وعلم ورجاحة عقل، فيصاحبه ويتقرب إليه، ولكن الحال ينقلب بعد ذلك على نحو هزلي... يقول الجاحظ: "كنت ألفتُ كتاباً في نوادر المعلمين وما هم عليه من الغفلة، ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع الكتاب، فدخلت يوماً قرية فوجدت فيها معلماً في هيئة حسنة، فسلمت عليه فرد عليّ أحسن رد، ورحّب بي فجلست عنده، وباحثته في القرآن فإذا هو ماهر، ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المعقول وأشعار العرب، فإذا هو كامل الأدوات، فقلت: هذا واللّه مما يُقوي عزمي على تقطيع الكتاب. وكنت أختلف إليه وأزوره، فجئت يوماً لزيارته، وطرقت الباب، فخرجتْ إليّ جارية وقالت: ما تريد؟ قلت: سيدك، فدخلت وخرجت وقالت: باسم اللّه، فدخلت إليه، وإذا به جالساً كئيباً، فقلت عظم اللّه أجرك، "لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة".. "كل نفس ذائقة الموت" فعليك بالصبر! ثم قلت له: هذا الذي توفي ولدك؟ قال: لا، قلت: فوالدك؟، قال: لا، قلت: فأخوك؟ قال: لا، قلت: فزوجتك؟ قال: لا، فقلت: وما هو منك؟ قال: حبيبتي! فقلت: في نفسي هذه أول المناحس، فقلت: سبحان اللّه، النساء كثر، وستجد غيرها، فقال: أتظن أني رأيتها؟ قلت: هذه منحسة ثانية، ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟ فقال: اعلم أني كنت جالساً في هذا المكان، وأنا أنظر من الطاقة (نافذة صغيرة) إذ رأيت رجلاً عليه بُرد وهو يقول: يا أم عمرو جزاك اللّه مكرمة ***ردِّي عليّ فؤادي أينما كانا لا تأخذين فؤادي تلعبين به *** وكيف يلعب بالإنسان إنسانا فقلت في نفسي: لولا أنّ أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر، فعشقتها، فلما كان منذ يومين مَرَ ذلك الرجل بعينه وهو يقول: لقد ذهب الحمار بأمِّ عمرو *** فلا رجعت ولا رجع الحمار فعلمت أنها ماتت ! فحزنت عليها، وأغلقت المكتب، وجلست في الدار. فقلت: يا هذا، إني ألفت كتاباً في نوادركم معشر المعلمين، وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه، والآن قد قويت عزمي على إبقائه، وأول ما أبدأ فيه بك إن شاء اللّه"... انتهى حديث الجاحظ. ولعل تراثنا السوداني يحفظ شيئاً من غفلة بعض معلمي الكتاتيب وشغفهم بمد أعينهم لما متع به أناس غيرهم زهرة الحياة الدنيا فما المثل القائل "ود السمحة كان قرأ كان ما قرأ بجيب الكتاب" إلا نتاج لشغف أحد معلمي الكتاتيب بأم أحد تلاميذه ما دفعه للتجاوز عن الطالب في تقصيره عن القيام بفروضه في الحفظ والمدارسة. جزى الله الجاحظ خير الجزاء فلولاه ما عرفنا الصلة والتشابه في الغفلة بين الكتاب الصحفيين ومعلمي الكتاب. ولعل إصرار الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي على تكرار محاولاته الفاشلة في ركوب أسنة الأقلام وامتطاء صهوة اللسان طمعاً في الوصول إلى مراقي الأمارة بالتقرب من سيف الدولة الحمداني و كافور الأخشيدي، ورغم أنه لم ينلها، فقد أورث الأدباء وحملة الفكر والأقلام ميراثاً ثقيلاً قد يصل أحياناً إلى حد التشكك في نواياهم ومقاصدهم من بذل الإطراء والتقريظ للحكام، أي أنهم متهمين حتى تثبت براءتهم. ولعل أديبنا الراحل الطيب صالح – أنزل الله على قبره شآبيب الرحمة – قد ألمح إلى ذلك في سياق تقديمه لكتاب (" جمال محمد أحمد... رسائل وأوراق خاصة" الذي جمعه وأعده الأستاذ/ عثمان محمد الحسن)، حين حاول سبره أغوار رسالة غاضبة من الأديب الفذ والدبلوماسي المطبوع الأستاذ جمال محمد أحمد – أسكنه الله فسيح الجنان- إلى الرئيس الأسبق المرحوم جعفر نميري – غفر الله له وتجاوز عنه- وكان الأستاذ جمال قد خاطب فيها الرئيس نميري دون ألقاب فعلق الأستاذ الطيب صالح على ذلك بقوله " وسوف يجد القارئ في الرسائل ما يوحي بأن جمالاً كان يحب النميري ويعتقد أنه صديقه حين يشير إليه بأسمه المجرد "جعفر"، ولا بد أنه كرجل فكر وقلم توسم فيه ما توسم المتنبي في سيف الدولة لذلك كان هذا الغضب وهذا الإحساس المرير بخيبة الأمل" انتهى حديث الطيب الصالح. ومنذ أن أطلعت على حديث "الطيب" الرجل الأكثر قرباً من "أبي الطيب" والأكثر بعداً عن حمى الحكام، بدأت أنظر لتقرب حملة الفكر والأقلام من أهل السلطان بعين الشك والريب وأستشرف مقالاتهم المدبجة بالمدح والموشاة بالإطراء فإذا "بين أطرافها مخاوف أدناهن بعد الهدى وقرب الضلال"، وأصبح يلوح لي من بين ثنايا هذه المقالات بل يدهمني دهماً شبح توسم أبو الطيب المتنبي في سيف الدولة الحمداني. وقد علق بذهني في حق حملة الفكر والأقلام وموالاتهم أهل السلطان شيء من ما وقر في نفس الجاحظ تجاه معلمي الكتاتيب من أمر مخالطتهم الصبيان. وقد يكون الوضع أدهى وأمر إذ أن موالاة حملة الأقلام لأهل السلطان قد لا تنتهي بهم إلى حييث سلب الألباب وطيش العقول فحسب، بل قد تذهب بهم مذاهب أبعد من ذلك أدناها العمل على تزيين باطل الحكام وإلباسه لبوس الحق والحكمة. إلا أنني حين أطلعت على كتابات أستاذنا مصطفى البطل وطريقته في مخاطبة أو خطب ود العصبة المنقذة كما يحلو له أو العصبة أولوا البأس كما يحلو لأستاذنا فتحي الضو، كنت قد بدأت أتراجع عن ما علق بذهني من شك وريب وذلك نظراً للمهنية العالية التي يكتب بها أستاذنا مصطفى البطل، ككاتب صحفي كامل الأدوات، مقالاته كاملة الدسم. فجذبني أسلوبه وحسن خطابه ما جعلني أتردد على مقالاته بصورة تكاد تكون أشبة بمعاودة الجاحظ مجلس صديقه معلم الكتاب. ولكن حين أطلعت على خطاب استقالة أستاذنا مصطفى البطل من وظيفة الملحق الإعلامي طفقت أستكشف صلة القرابة بين البطل ووظيفة الملحق الإعلامي "المتروكة"، وحين علمت أنه لا ثمة صلة مادية بينه وبينها بل مجرد تواصل روحي، وقع الأمر علي كوقع إجابة معلم الكتاب على الجاحظ حين أفشى له بأن المرحومة لم تكن سوى "حبيبته"، فتذكرت قول الجاحظ، هذه أول المناحس، ثم أنني علمت من سياق سرده إن هذه الوظيفة لم تعرض عليه حتى من أهل العصبة المنقذة، فقلت هذه منحسة ثانية، وقلت في نفسي ولكن كيف يتقدم شخص باستقالته من وظيفة لم يتقلدها ومنصب لم يعرض عليه؟ فعلمت أنه فقط سمع من يتحدث عن أن البطل يسير على خطى دكتور خالد المبارك والشوش ومحمد محمد خير. وقفت حائراً أسأل السماء جواباً هل يكون موقفي من البطل الكاتب الذي أسرني الأمس بكتاباته وفجعني اليوم باستقالته كموقف الجاحظ من صديقه معلم الكتاب؟ وهل وأعود لأرجح النظر بعين الشك والريب لحملة الأقلام المتقربين بأقلامهم زلفاً من بلاط السلطان مثلما قوى سلوك معلم الكتاب عزم الجاحظ في الإبقاء على كتاب نوادره فيهم؟ أم أتضامن مع البطل في محنة استقالته؟ وحيث أنني لا أملك خيلاً أهديها ولا مال فقط تمنيت أن لا تهب ريح الانتخابات المرتقبة فتضل حمار أم عامر الطريق فيذهب بها فلا يعود ولا تعود، ولم تكن تمنياتي خوفاً على أم عامر "المحمولة جواً" و لا حباً في حاملها ولكن تضامناً مع المحمولة إليه. ولكن يبقى تساؤل أستاذنا مصطفى البطل عن السر في ملاحقة متقلدي وظيفة الملحق الإعلامي ومحاولات النيل منهم دون خلق الله من المستوزرين والملحقين في ظل الأنظمة الشمولية؟ ولعل السبب ببساطة يعود إلى إن شاغل وظيفة الملحق الإعلامي يفترض فيه أن يكون من المنتمين لقبيلة حملة الفكر والقلم الذين على عواتقهم يقع عبء الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان وسيادة الحكم الرشيد التي عادة ما تكون أظهر سوءات الأنظمة الشمولية. كما يفترض أن يكون هو اللسان المتحدث باسم النظام والمجمل لممارساته والمبرر لسياساته بالحق أو بالباطل أو بكليهما إن دعا الأمر إلى إلباس الباطل لبوس الحق. وعلى الرغم من أن أستاذنا البطل رفع سقف مطالبه وطموحاته ودرجة تمثيله الدبلوماسي لتصل إلى مرتبة السفير ظناً منه إنها مرتبة تستحق أن يضحي حامل الفكر والقلم بمبادئه من أجلها، فينبغي أن لا يفوت عليه إن الشاعر والكاتب المرحوم صلاح أحمد أبراهيم – أحد أبرز حملة الفكر والقلم- لم يقوى على المخاتلة ومخادعة النفس فقرر الخروج من نظام مايو الشمولي وهو سفير بالجزائر. ولعل في استقالة الدكتور الأفندي من منصبه في سفارة السودان في لندن أيضاً شاهد ودليل، فالأفندي، كما يقول لسان حاله، كان ينطبق عليه لردح من الزمان مثل "المصدق المخدوع" حين كان يظن أنه يسد ثغرة مهمة في منافحته لمنظمات حقوق الإنسان ووقوفه في فوهة ماكينة الإعلام الغربي مدافعاً عن النظام انطلاقاً من متطلبات منصبه وانتمائه العقدي، ولكن حين تكاثرت ضباع الإنقاذ على الأفندي لم يدر أي تهمة يدفع و أي ادعاء يصد وأي مدعي يصيد. والمفارقة التي رواها الأفندي أنه بعد أن أعيته الحيل وطالت به الطيل في سبيل الحصول على إجابات ومعلومات من الخرطوم تسند حججه في دحض وقائع بعينها، تسنى له خلال زيارة قام بها للسودان الحصول على إجابة لبعضها دون كبير عناء كما أن الزيارة بصرته على ممارسات أمنية في الخرطوم يصعب عليه الدفاع عنها لعدم توافقها مع قناعاته كرجل فكر وقلم و لمخالفتها شعارات الحركة الإسلامية وتوجهاتها ما أضطره للانحياز إلى شخصية المفكر داخله بعد أن غلب مبادئه الفكرية على مصالحة السياسية. والغريب أن النظام الحاكم في الخرطوم تبنى لاحقاً الكثير من رؤى وأطروحات الأفندي في كتابه "الثورة والإصلاح السياسي" ، إلا أنه لم يجد حينها حرجاً في أن يدمغ شهادة نهاية خدمة الأفندي بعبارات من نوع " الأفندي هزمته ماكينة الإعلام الغربي...واستهوته حياة الدعة في لندن فآثر أن يكون بعيداً عن كتاحة الخرطوم". osama khalid [[email protected]]