لعل الاتفاق على إنشاء منصب رئيس الوزراء يعد أبرز مخرجات الحوار الوطني السوداني الذي اختتم بداية هذا الشهر بمظاهر احتفالية فريدة.. وهو الأبرز من الناحية الشكلية ورغم أن هناك ما أهم منه لكن ما عداه ليس فيه جديد، فهي أطر نظرية قيمة وسبق التغني بها بل كانت مضمنة في معظم دساتير السودان وكان المحك دائما في التطبيق وتجاوز شيطان التفاصيل. في الأسبوع الماضي أودعت رئاسة الجمهورية في السودان حزمة تعديلات دستورية منضدة البرلمان ومحور هذه التعديلات التمهيد لتعيين رئيس مجلس وزراء لأول مرة منذ 27 عاما هي فترة حكم الرئيس عمر البشير وكان الصادق المهدي رئيس حزب الأمة آخر رئيس وزراء أطاح به البشير في يونيو 1989م. لكن السؤال الملح هل يصلح منصب رئيس الوزراء الجديد ما أفسدته النخب السياسية الحاكمة والمعارضة؟ فيما يتدهور الوضع الاقتصادي للأدنى المستويات وترتفع معدلات الفقر بين المواطنين لمستويات مخيفة تنذر بانفجار لا يبقي ولا يذر. إن لم يمنح المنصب صلاحيات تنفيذية واسعة وحجم بمهام هامشية وشرفية فليس هناك من فائدة. وإن استحوذ عليه حزب المؤتمر الوطني الحاكم وهو الأمر الراجح كذلك تكون محصلة الاستقرار السياسي صفرا. وإن منح الصلاحيات المطلوبة وأسند لشخصية غير منتمية للحزب الحاكم فإن الساحة السياسية موعودة بصراعات وتجاذبات عنيفة فكل السلطات مركزة في يد الرئيس البشير وكل مفاصل الدولة يمسك بها الحزب الحاكم بيد من حديد. مخرجات الحوار أوصت بالإبقاء على دستور 2005م المُعدّل وتشكل على هداه حكومة الوفاق الوطني الموعودة. وكانت الحكومة الحالية قد استبقت نتائج الحوار بتعديلات دستورية العام الماضي كرست السلطات في يد رئيس الدولة ولم تعبأ الحكومة باعتراضات أعضاء مؤتمر الحوار. فضلا عن أن مخرجات الحوار أوصت بالإبقاء على المجلس الوطني الحالي (البرلمان) بعد إجراء بعض التعديلات التي لن تخل بالأغلبية الميكانيكية لحزب المؤتمر، وقد جاء هذا البرلمان نتيجة لانتخابات أبريل 2015 وهي انتخابات رفض المؤتمر الوطني كذلك تأجيلها انتظارا لمخرجات الحوار الذي بدأ منذ يناير 2014. مع الإشارة إلى أن مخرجات الحوار منحت سلطة تعيين رئيس الوزراء لرئيس الدولة والبرلمان. المتفائلون والحالمون يقولون إن الغرض من إنشاء منصب رئيس الوزراء هو إخراج صناعة القرار من يد الرئيس أو من يد المجموعات الخفية. بيد أن الإشكال في أن نظام الحكم في السودان هو نظام رئاسي وليس من الممكن تحويله إلى نظام آخر بحزمة تعديلات تصاغ على عجل.. رئيس الوزراء في النظام الرئاسي دوره تنفيذي، كالنظام الفرنسي، وهذا غير الذي كان معمول به ما قبل نظام الرئيس البشير، وهو ما يعرف بنموذج ديمقراطية ويستمنستر Westminster وهو نظام سياسي حزبي تركز السلطة التنفيذية بيد حكومة حزب الأغلبية، وهيمنة السلطة التنفيذية على المجلس التشريعي (البرلمان)، وقيادة قوية لرئيس الوزراء كما كان الحال في عهد الصادق المهدي. أما النظام الرئاسي هو نظام حكم تكون فيه السلطة التنفيذية مستقلة عن السلطة التشريعية ولا تقع تحت محاسبتها ولا يمكن أن تقوم بحلها. وهو النظام الذي يريد الحزب الحاكم الإبقاء عليه بصورة أو أخرى فيتم تفريغ منصب رئيس الوزراء من مضمونه. ويُركّز النظام الرئاسي السلطة التنفيذية في يدي رئيس الدولة. ومن المعلوم أن أصول النظام الرئاسي تعود إلى النظام الملكي في العصور الوسطى في فرنسا، بريطانيا وأسكتلندا التي كانت فيها السلطات التنفيذية تصدر أوامرها من التاج الملكي وليس من اجتماعات مجلس الأعيان (البرلمان). الحل المثالي للمعضلة في النظام شبه الرئاسي أو المختلط فهو صيغة تجمع بين النظام الرئاسي والبرلماني، إذ يُنتخب الرئيس بالاقتراع العام المباشر ويتمتع بقدر مهم من الصلاحيات، وفي الوقت نفسه تكون الحكومة منبثقة عن البرلمان ومسؤولة أمامه كما أنَّها مسؤولة أمام رئيس الدولة، ويتمتع رئيسها بصلاحيات واسعة. لكن هل يقبل حزب الرئيس البشير بهذه الصيغة بسهولة؟ وهذا ما لا يمكن توقعه أو التكهن به. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.