"يا أخي أنا تربال ساكت... والله أنتو الدكاترة الكلام الكبير اللي بتقولوه عني ده ما أظن أنا مستحقه" هكذا بحيائه الأصيل وتواضعه النبيل حدثني الطيب صالح عقب صدور دراستي عن الموت في روايات الطيب الصالح. كان دائماً في حالة من نكران الذات والتواضع تجعله حيياً حين يذكر بفضل أو يخص بشكر أو مدح. آتاه الله القبول ومحبة الناس؛ فما ألتقاه أحد إلا وأحس أنه يعرفه منذ زمن طويل. كنا نفترق شهوراً عددا وعندما نلتقي نبدأ الحديث من آخر مشهد كنا فيه؛ وكأنه لم يغب عنا سوى ليلة واحدة. وكان حديثه دائماً أبعد ما يكون عن نفسه بل متفقداً من حوله ويسأل عن أخبارهم. حديثه ممتع وشائق ومتعدد الجوانب لا تفوق متعة حديثه إلا متعة قراءة رواياته. فكان في كل محفل رسمي أو خاص هو تفاحة المجلس. يستهل حديثه دائماً بحرف النداء وحميمة الخطاب "ياأخي" يستهل بها الجملة ويختمها فيستشعر محدثه صلة الأخوة والمحبة تسري بين أوصاله. عندما نحدثه أن يكتب سيرته كان يضحك ويقول: لكن خلاص وقتها جاء؟ّ" ويروي لنا قصة ذلك الشيخ الذي كان يحتضر فيغيب عن الوعي، وعندما يفتح عينيه يقول له أبناؤه "يابوي اتشهد" فيجيبهم: "لكن خلاص بقيت عليها". رحم الله الطيب صالح الذي كثيراً ما كان يسخر من رمزية الأسماء "والله لا أنا طيب ولا صالح". كانت الدعابة على طرف لسانه يخرج من موضوع إلى آخر في سماحة ويسر وسهولة يذكرك بشيخ الأدباء الجاحظ وهو يطوف بك من مقام إلى مقام ومن حدث إلى حدث وفي كل ذلك يفيدك علماً ومتعة ونبلاً وصفاءً. لم يأكل الخبز برواياته بل كان إعلامياً شاملاً: صحفياً إذاعياً خبيراً تربوياً إدارياً متمرساً عرفته إذاعة البي بي سي بلندن وأروقة اليونسكو في باريس والأردن ووزارة الإعلام في قطر، وكثير من المحافل الإقليمية والدولية. كان الطيب صالح هو الدبلوماسي المثقف المبدع الإعلامي الشامل. كان له أن يأكل الشهد برواياته وليس الخبز ولكن من عجب كان يرى نفسه كاتباً هاوياً وليس محترفاً. وعندما تحدثه أما آن الأوان ليصدر عملاً جديداً كان يضحك ويقول إنه قد يجبر نفسه على كتابة بحث أو دراسة أو مقالة أو محاضرة أما الإبداع -شعراً أو نثرا- فهو الذي يكتبك وأنت لا تكتبه؛ وعنده أن الإبداع يختار موضوعه وزمانه ومكانه ورؤيته الفنية. كان يجبر نفسه على ألوان من القراءات الواسعة المتنوعة ولساعات طويلة، وينهي التزامات متعددة في مؤتمرات ومحافل ومحاضرات، لكنه أبداً لا يجبر نفسه ولا يشغله هم أن يكتب رواية أو قصة؛ لأنها على حد قناعته: هي التي تكتبه. كان له علم بكل تخصص يحدثك في الاقتصاد والاجتماع وعلم السياسة وتاريخ الأديان والتراث -عربيه وسودانيه- وشتى المعارف حديث مختص وعالم. ومع ذلك عندما تمدحه أو تثني عليه يبتسم ويقول (يأخي: أنا تربال ساكت). وكان رأيه في الناس، كل الناس: "ياأخي دا راجل فاضل"، تخرج في صوت عميق ومنغم ومميز، هو صوت الطيب صالح الذي لا تخطئه أذن؛ كل الناس عنده فاضلون، لا يغتاب ولا يعتب ولا يسخر من أحد. براعته في اللغة الإنجليزية حديثاً وكتابة ونطقاً قل من يجاريه فيها حتى من أبنائها، ومع ذلك عندما يتحدث تلتمس فيه تواضع معلمي خلاوي القرآن وطيبة أهلنا الفقرا والترابلة في قرى السودان. كان زاهداً في الشهرة عن صدق وهي تسعى إليه وتحيط به من كل جانب، كان يقول في صدق: "أقول لك ليس لدي أي إحساس بأهمية ما كتبت ولا أحس أني مهم هذا ليس تواضعاً ولكنها الحقيقة، إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكن قطرة في بحر قصيرة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر". ولعل من أكثر علامات الاستفهام في حياة الطيب صالح أنه لم يكثر من الكتابة، ولو أراد لأصدر كل عام عملاً جديداً مستنداً إلى اسمه وتاريخه وكان ذلك العمل سيجد القبول والاهتمام من الأوساط الأدبية ولكنه لم يفعل ذلك لأنه في تقديري لم يرد أن يكرر نفسه أو يجبرها على شيء لم تجد هي به، ولهذا كان صادقاً في قناعته أن العمل الفني هو الذي يكتبك لا أنت الذي تكتبه. ولعل الطيب صالح هنا يشبه عدداً من أولئك المبدعين الذين عرفوا بنص واحد كان هو مدار إبداعهم فاشتهروا به، شهرة الطيب صالح بموسم الهجرة إلى الشمال؛ هو عمل واحد بلغ بصاحبه القمة وأبقاه عليها ما يزيد عن أربعة قرون من الزمان. لم أرد "ياترابلة السودان" أن أتحدث عن الطيب صالح وأدبه وفنه، وكان لي شرف هذه المحاولة في عملين صدر أولهما عام 1983 "قراءة جديدة في روايات الطيب صالح" وعمل آخر في أواخر التسعينيات عن الموت في روايات الطيب صالح ثم دراسة موجزة عن كتابه "المنسي"؛ ولكن أردت فقط أن أقول للتاريخ: إن جيلاً شهد أو سمع أو حادث أو جالس -على سبيل المثال لا الحصر- عبدالله الطيب وعون الشريف وصلاح أحمد إبراهيم وعلي المك ومحمد المهدي مجذوب وعلي عبدالقيوم وعبدالرحيم أبو الذكرى ومحمد عبدالحي ومصطفى سند وأحمد عبدالعال وعثمان حسين وإبراهيم عوض وإسماعيل العتباني والنور عثمان ابكر، والطيب صالح وغيرهم من المبدعين لجيل خصه الله بنعم جليلة. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.