في عشرية مركز راشد دياب للفنون ( الجريف غرب 26 فبرائر 2017 م ) بسم الله الرحمن الرحيم في البدء أرجو أن تسمحوا لي بأن أهنئ الأخ الفنان راشد دياب على هذا الانجاز العظيم الفخيم الذي أطفأ في هذا اليوم الشمعة العاشرة من عمره المديد بإذن الله : فقد أفلح من أشاد صرحاً للمعرفة و مركزاً للإشعاع المعرقي و الجمالي.. أتراني أغالي إن قلت بأن مركز راشد للفنون هذا يذكرني بدار الحكمة البغدادية أيام المأمون و مكتبة طليطلة الأندلسية أيام بني الأحمر و المعتمد بن عباد و جامع القيروان وجامع فاس وجامع سنكري بتمبكتو أيام " الملك الشمس " مانسا موسى و العلماء الفطاحل عبد الرحمن السعدي و محمود كعت و الحاج سعيد . أيتها السيدات و السادة : تذكرني هذه الدار ب ( فان جوخ ) في مدينة سيرجي بونتاز على مقربة من باريس و بمتحف سيزان على جبل سانت فكتوار بمدينة إكس على مقربة من الريفيرا الفرنسية و بمتحف موني في القصر الكبير . مرة أخرى لك التهنئة إيتها الريشة العبقرية ذات الحس المرهف فإن لغة الألوان و الخطوط و الظلال و تناغم المساحات هي لغة الشعر إذ أن الشعر هو أبو الفنون جميعها إذ أن يسكن نسيج اللوحة و الجدارية المترامية و الأطراف و المقطوعة الموسيقية كما يسكن تضاعيف الرواية و المنحوتة و المسرحية و القصيدة. و جميع ضروب الإبداع هذى إن خلت من الشعرية فقدت أهم مقوماتها مما يجعل منها مسخاً يثير الغثيان . إن الدبلوماسية فن ركين في هذه الفنون .. فإن خلت هي الأخرى من الشعرية حاءت شائهة عرجاء. فالخيال الخصيب أوجب صفات الدبلوماسي النابه و المفردة الكيسة الفطنة و القاموس اللغوي الثري أهم أدوات و آليات الدبلوماسي المهني في ممارساته و تفاعله مع المجتمعات الخارجية . فالدبلوماسية في أبسط تعريفاتها و أكثرها شيوعاً هي " فن التفاوض " و هي معرفة " الذهاب للشرفة " إذا اقتضى الأمر ذلك و هي " بناء جسر من الذهب " يوصل إلى الطرف الآخر كما قال كونفشيوس في حكمته الخالدة .. و هي فوق هذا و ذاك التوازن العقلي و النفسي للدبلوماسي المفاوض إذا ما تعقدت الأمور و تمترس الكل خلف قناعاتهم .. هنا يأتي دور خصوبة الخيال و الفن و الفطانة و اللباقة لإعادة صياغة المفاهيم بإعادة ترتيب المفردات إنسجاماً مع المقولة الشائعة في العلوم السياسية : If you want to change the game, change the frame )) أي إن أردت تغيير اللعبة عليك بتغيير الإطار .. و هنا تقفز إلى ذاكرتي قصة كنت شاهداً عليها : كان ذلك في أخريات عام 1970 م و أنا يومها دبلوماسي مبتدئ أعمل في الإدارة الإفريقية بوزارة الخارجية يوم كان على رأسها السفير البروفيسور محمد عمر بشير طيّب الله ثراه و رحمه رحمة واسعة .. أقول إنعقد حينذاك اجتماع سري بوزارة الخارجية كان على رأسه وزيرا خارجيتي السودان و إثيوبيا و أعضاء وفديهما. طلب مني البروفيسور حضور الاجتماع لأخذ المحضر و لعله قد قصد من هذا التكليف إعطائي نوعاً من الدربة سيما و قد كان عودي أخضر. كان وزير خارجية السودان يومذاك السيد فاروق أبوعيسى ووزير خارجية الإمبراطورية الإثيوبية السيد كتما إفرو و كان موضوع المباحثات شائكاً أفرز كثيراً من النقاش و التوتر و رغم ذلك فقد ظل عضو وفد السودان السيد فخر الدين محمد الفنان المرهف ، رغم لصيق متابعته لكل شاردة وواردة و مداخلاته العديدة الصائبة ، ظل في الوقت ذاته منشغلاً برسم لوحة لفتاة مجنحة في هيئة ملاك .. و فجأة من دون سابق إنذار توقف الاجتماع و ساد الغرفة صمت عميق ممزوج بالدهشة و الاستغراب انفرجت في أعقابه الأسارير و انهالت كلمات الاعجاب و الاستحسان لهذا الإبداع المعجز الذي نزل على الاجتماع كماء بارد في يوم قائظ الحر.. تبادل الحضور اللوحة وليدة اللحظة التي امتصت كل ذلك التوتر مما جعل الوزيرين يخرجان إلى غرفة جانبية ليعودا بعد بعض الوقت بما يعرف في لغة الدبلوماسية بالحل الوسط( the compromise ) . نعم أيتها السيدات و السادة هذه هي الدبلوماسية و الفن . وتحضرني قصة أخرى حدثت في الثالث من نوفمبر عام 1961 م يوم استقبل الرئيس الأمريكي جون كيندي الرئيس السنغالي الشاعر ذائع الصيت ليوبولد سيدر سنغور في البيت الأبيض بواشنطن فقد قال له ما يلي : لقد سبق أن قال أحد المشاهير الأمريكان قبل سنين عدداً بأنه لا يعبأ بمن سطر القوانين التي تحكم الولاياتالمتحدة بقدر احترامه و حبه لمن ألف أناشيد هذه الأمة ثم أضاف كيندي قائلاً : يا فخامة الرئيس إنك قد كتبت قصائد و أغاني و أناشيد أمتك كما أسهمت بفعالية في إعداد و صياغة القوانين التي تحكمها الآن و كنت صانع استقلال أمتك و شاعرها الذي أيقظ أشواق و تطلعات الشعوب الإفريقية للحرية و الاستقلال . أيتها السيدات و السادة و أنا في حضرتكم أراني كحامل التمر إلى هجر أو الماء إلى سوق السقائين كما يقال في مثل هذه المواقف. لكم العتبى إن أطلت و تجرأت في أحكامي سيما و أنا أجلس أمام شيخي المنصور بن خالد. ألم يقل العارف بإذن الله ذو النون النوبي ( من أراد الطريق فليلق العلماء بإظهار الجهل ) ؟! ( فأنا إبن دوحتكم التي غنى لها ) كما قال التجاني يوسف بشير عليه الرحمة في كلمة له يخاطب فيها المعهد العلمي.. و أنا يا سيدي المنصور ، و الحالة هذه ، أتطلع للدخول إلى نبع اللغة العذراء لكي أغتسل من أدران جهلي .. فهل تأذن لي بذلك ؟! السفير الدكتور / عمر عبد الماجد عبد الرحمن E-mail : عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.