كان الجليد يرسم أشكاله البديعة في ڤينا ،ساعة الوصول الجليد يجعلك كائناً متجمداً وتسري في الاجسام رعشة البرد ولكنها تتبدد سريعاً مع دفء المشاعر وحفاوة الاستقبال. في فيينا العاصمة النمساوية البديعة التي امتزجت بكل ما هو سوداني أصيل وجميل لم أعد أشعر بالبرد وبدأ بيني وبين المدينة حب ما قبل النظرة الأولى انها مدينة قادرة على أن تجعلك أسيراً لسحرها وجمالها وتردد مع عبد القادر الكتيابي: بقى المسير هدف المسير اسرح واحس ريدك مطوقني وحسنك باقي لي اسير واني عصفورك حرير ريشي من نورك كل شئ هناك يجعلك اسير جمال الثلوج واشكالها التشكيلية والجمال الانساني في السلام والكلام.. الاستقبال كان حميماً هناك وعندما وصلنا إلى المطار لفت نظري النظام الدقيق في الترتيب وصفوف المسافرين الذين يحافظون على النظام ويقفون في تناسق فريد في انتظار التأشيرات. قال لي موظف السفارة السودانية الذي كان في استقبالنا ان الحفاظ على الترتيب في الصفوف من أهم الاشياء لأهل النمسا... واعتقد ان هذا من براهين الرقي والحضارة عندهم. عندما تسافر اللوحة لم تكن صدفة ان تصبح النمسا عاصمة الثقافة ومقصد المثقفين في كل حدب وصوب فالمدينة المسكونة بالثقافة تحتفي بكل ما هو ثقافي وجميل. وفي فندق بوث في الحي الأول بالمدينة محل اقامتنا كانت الجدران تكتسي بالرسومات التشكيلية، هذا عنوان آخر على الحضارة. ان الثقافة في عالم اليوم لم تعد ترفاً بل هي تدخل في تفاصيل الحياة اليومية، والفنون التشكيلية بشكل خاص تثري الذاكرة البصرية وڤينا هي أجمل لوحة تشكيلية، واذا كنت أجد متعتي في رسومات التشكيليين ولوحاتهم فقد مارست البحلقة البصرية في معالم ڤينا، حتى ظننت نفسي في احدى قاعات الفن التشكيلي. الوقت يمضي سريعاً هناك وقبل ان يرتد طرفي كان جرس الهاتف يرن يذكرني بميعاد مسائي لمعرض تشكيلي للفنان راشد دياب في مقر صندوق الاوفيد بمناسبة مرور 34 عاماً على منظمة صندوق التمويل والتنمية العالمية (أوفيد). كل شئ في دار الاوفيد يتحدث بروعة السودان من طقوس الحنة السودانية إلى ثوب المذيعة راشيل إلى اللوحات التشكيلية التي ترتكز على فكرة مهمة في مشروع راشد دياب التشكيلي وهي الانطلاق الى العالمية عبر المحلية وموسيقى حافظ عبد الرحمن التي ترتكز ايضاً على ارث محلي. القومة ليك يا وطن وجوه في الزحام ضاق بها مقر صندوق الاوفيد الوزير علي كرتي يرسل ابتسامة واثقة والسيد حربش في حركة وقلق اشبه بالقلق الابداعي لساعات المخاض وسفير السودان بالنمسا محمود حسن الامين ينظر الى ساعته في ترقب لمشهد الاحتفال.. وجوه مشرقة تقف كلها في احتفالية سودانية خالصة مقدمة الاحتفال راشيل (لبنانية الجنسية) كانت ترتدي الثوب السوداني وتخضب يديها بالحناء وتنطق بعض الكلمات بالدارجة السودانية وتطوعت سيدة سودانية لتخضيب بعض النساء الاجنبيات بالحناء بعد ان لمسوا جمال الحناء في ايدي راشيل.. والسودانيات المشاركات في الاحتفال المشهد كان سودانياً خالصاً ويقدم السودان بشكل جديد للعالم.. السودان المظلوم الذي يرتبط في بعض العواصمالغربية بالحرب والمعاناة والغلو والتطرف قدم مشهداً جديداً للعالم في هذا المساء.. فالاحتفالية التي شارك فيها قادة الرأي في ڤينا وبعض العرب من لبنان والعراق ومصر وخواجات من بلاد الغرب قدمت (ألوان السلام) وهذا هو عنوان معرض الفنان راشد دياب الذي احسن اختياره كما احسن اختيار الاعمال التي قدمها وهي المرة الاولى التي تعرض فيها الاوفيد اعمالاً لفنان تشكيلي سوداني. رسالة مهمة يقدمها الفنان راشد دياب للعالم فالفنون هي الاكثر قدرة على توصيل الرسائل السياسية وهذا فعل فطن له وزير الدولة بالخارجية الاستاذ علي كرتي الذي تفضل مشكوراً بافتتاح المعرض وكعادة السياسيين الاذكياء فانهم يرسلون رسائلهم السياسية الدبلوماسية من خلال هذه المناسبات وألقى كرتي الذي يتحدث الانجليزية بطلاقة كلمة بليغة في الاحتفال تحدث عن الثقافة السودانية.. وعن التحول الديمقراطي الذي يشهده السودان ووجه رسالة واضحة للحشد الاوربي الذي شارك في هذه التظاهرة السودانية بأن يغيروا نظرتهم للسودان ولم ينس كرتي ان يتحدث عن العلاقات ما بين السودان والنمسا وصدق عندما قال انها علاقات متميزة. ومواقف النمسا مع السودان هي مواقف مشرفة وهي تدعم الوحدة في السودان. ووعد كرتي باستمرار اواصر التواصل مع العالم وابراز الجانب المشرق للسودان. كانت كلمات كرتي برنامجاً يجب ان تتبناه الوزارات المعنية من الخارجية الى الاعلام والثقافة فتغيير صورة السودان في العالم يحتاج الى تواصل مستمر مع العالم ويحتاج الى دبلوماسية ذكية وخطة عمل واضحة واعلام أكثر ذكاء، اعلام لا يسجن نفسه بين الحيطان الاربعة ويخرج الى الدنيا العريضة ويقدم صورة السودان المشرقة. كلمات كرتي وجدت اذناً صاغية من الحاضرين وقد تبين ذلك في التصفيق وابتسامات الحاضرين. العبارة الاثيرة تقول ان الانسان عدوما يجهله وكثير من الاجانب يجهلون الكثير عن السودان ولهذا يعادونه أما اذا قدمنا لهم انفسنا بشكل متوازن فلا شك اننا سنحصد اعجابهم.. استطيع ان اقول وبلا تحيز ان سفارة السودان في النمسا واحدة من السفارات المتميزة في أوربا التي استطاعت تقديم السودان بشكل متميز هناك وحققت تواصلا في اكثر من اتجاه، وتلك قصة سوف اعود لها في حلقة قادمة ولكني هنا احب ان اشير الى كلمة سفير السودان بالنمسا محمود حسن التي اعقبت كلمة الوزير كرتي واقول انها كانت كلمة ضافية جسدت معنى الدبلوماسية وما بين الكلمات وبينما كان الحضور يحتسون المثلجات ويلتهمون قطع الشوكلاتة كان الوزير كرتي يقص شريط المعرض بنفس الابتسامة الواثقة. وبدأ الفنان راشد دياب في مزاج رايق مع ابنته دار النعيم طالبة الفنون بجامعة اكسفورد التي بدت سعيدة لنجاح والدها ولم يكن غريبا ان يحظى معرض راشد دياب بكل هذا النجاح فهو مدرب وخبير ويفهم جيدا كيف يجعل الاوربيين يجلسون القرفصاء امام لوحاته المتميزة، وفضلا عن موهبته العميقة يتمتع دياب بذكاء كبير فهو يمزج ما بين الفن والسياسة في اعماله ويعرف كيف يقدم نفسه في الخارج ويدير حوارا ايجابيا مع الاجانب ويتحدث عن ثقافته السودانية باعتزاز. موضوع معرض دياب عن السلام وقد اختار لمعرضه اسم «الوان السلام» واستطاع عبر فرشاته الماهرة ان يعرف جمهور المعرض والاوربيين على وجه الخصوص على السلام من خلال اللوحة.. وهذا اقصر طريق يمكن ان يفهم عبره الاوربيون والناس هناك يتميزون بثقافة بصرية واعية وقد ايقنت من ذلك في زيارتي لمتاحف الفن الحديث وهذا فصل سأعود لاحكي عنه بالتفصيل. شاهدت تفاعلا حقيقيا في المعرض مع لوحات راشد دياب وكان دياب يحرص على استقبال كل الحاضرين والاجابة على اسئلتهم وهو يرتدي «جلبابه السوداني» قال لي في كل معارضي في اوربا احرص ان اظهر بهذا الزي. مقطوعة موسيقية: في قمة هذا الاحتفال السوداني الرائع كان الموسيقار حافظ عبد الرحمن يكمل هذه الروعة بموسيقاه وعندما نتحدث عن حافظ عبد الرحمن فنحن نتحدث عن رجل طاف العالم بالفلوت ليعرف بالسودان عبر الموسيقى.. وكان من حسن الحظ ان الفلوت هو الآلة المفضلة للنمساويين وهذا شيء لا يغيب عن فطنة حافظ عبد الرحمن الذي اطل في المسرح في كامل اناقته بصحبة الموسيقي المميز الصادق حسين وقدما مقطوعات ألهبت المشاعر في يوم سوداني اصيل، قدم السودان في صورة مشرقة وتجاوب الاجانب مع موسيقى حافظ وهو يتجول معهم في كل انحاء السودان عبر الموسيقى والايقاعات المختلفة. كانت الشفرة الذكية التي اضفت طابعا مختلفا على المقطوعات الموسيقية التنوع والتنوع الموسيقي السوداني يحتاج ان تفتح امامه النوافذ لان الموسيقى هي لغة عالمية والموسيقيون السودانيون لا يحتاجون الا ان تفتح امامهم المسارح العالمية في اوربا ليحدثوا عن ابداعهم ووطنهم. الرسالة المهمة التي استطاعت الدبلوماسية السودانية ايصالها عبر لوحات راشد دياب وموسيقى حافظ عبد الرحمن ان السودان بلد يحوي ثقافة متميزة ويذخر بتنوع ثقافي وإثني وان التحول الديمقراطي ليس شعارات سياسية بل هو حقيقة ماثلة في السودان وان المشروع الجديد الذي يجب ان ينطلق هو مشروع تقديم السودان للعالم بشكل جديد وهذه مبادئ تعمل من اجلها منظمة جسور التواصل التي شاركت في هذه الرحلة عبر رئيس مجلس ادارتها البروف بكري عثمان، وسأعود لاحكي عن جسور التواصل والجالية السودانية بالنمسا ولقاء الوزير كرتي مع قادة الفكر والثقافة النمساويين واشياء اخرى في حلقات. وأنا اودع هذا المكان البديع مقر صندوق الاوفيد بڤينا صادفني السفير العراقي وبصحبته فتاة ملامحها عربية سلمت عليه وقلت للفتاة انت لبنانية فقال السفير: عزيزي هذا الجمال عراقي. قلت له ولكن كل هذا الجمال سوداني وانا اشير للوحات والموسيقى والثوب السوداني والحنة السودانية. ضحكنا ودار بيننا حوار عميق عن العلاقات السودانية العراقية المشتركة والروابط الاخوية والفردوس المفقود... شكرا سيادة السفير.. الآن اضع القلم واستأذن في الانصراف وسأعود لأكمل الحكاية.