عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) حالة اختلال عميق في المرجعية والمنهج الذي عالج به الأستاذ البطل مقالاته الصادرة بصحيفة (السوداني) الغراء والموسومة باسم معادلة الأمن والحرية، إذ لم يحفر عميقا في غور الأزمة الوطنية المتراكمة عبر التاريخ ويشخص جذورها، وطفق مصوبا رؤيته نحو الأعراض والتداعيات التي تعاني منها الدولة السودانية المأزومة حاليا، وهي أمراض وتحديات أمنية افرزتها العقلية الأمنية الاستبدادية الجاثمة في الحكم لنصف قرن من الزمان، وهذا اختلال وابتسار في التعاطي، وبالتالي فإن نتائجه مختلة وغير منتجة وتوقعنا في فخ الحوارات الدائرية واجد العذر للأخ البطل لأنه يعي خطورة المأزق الراهن للدولة الوطنية وهي تتقاذفها حالات النهوض والهبوط في أتون الفوضى والانهيار من منطلقات هوياتية ومن قبل ذكر البروف عبد الله علي إبراهيم (ان نظام الإنقاذ بمخاطرته العظيمة بالعروبة والإسلام، وهما شارة هوية عزيزة على الشماليين عموما، يورط كل هؤلاء شاءوا ام ابوا، لذلك يجد الشمالي نفسه مهما كان موقفه من حكم الإنقاذ متورطا في هذه المخاطرة). (2) إن التعاطي العميق للأزمة الوطنية الراهنة ينبغي ان يتناول عملية البناء الوطني التاريخية والمتراكمة، فما هو البناء الوطني؟ يرى الدكتور منصور خالد أنه مفهوم سياسي يعكس رغبة أقوام معينين في التعايش في دولة وطنية واحدة كما يعكس الاعتراف بأن هنالك خصائص محلية متعددة تقف حجر عثرة في طريق هذا البناء لا سيما والرابطة الكلية في الوطن الواحد لا يقررها مسبقا طرفا واحدا من أطراف متعددة أو هي أمر حتمي يفترض وجوده. إذا البناء الوطني عمل سياسي حر وارادي وهندسة اجتماعية عميقة، تزيل النتواءات والعوائق والعقبات التي تعتور مسار تشكُل عملية الوحدة الوطنية، وهذا الفعل الخلاق لا يتم إلا في ظل بسط الحرية الاتم والطلاقة الفكرية والتنوع والتضاد الايديولوجي، لأن الهدف من هذا "البروسيس" هو تكوين الأمة وتأسيس الدولة، ونظام اقتصادي مستقل، ونظام سياسي يكفل فرص المشاركة لكل الأعراق والاثنيات، وتشكُل هوية جامعة لكل الإثنيات والأعراق والعصبيات حتى تجد كل جماعة عرقية ذاتها متفاعلة داخل هذه العمليات لإثراء الشخصية القومية للامة السودانية خاصة وأنها لا زالت في مخاض صراع الرؤى والتكوين، ودون أن يعني ذلك نفي أو إقصاء أية عرقية أو تحجيم لشخصيتها الثقافية المتميزة. (3) وكما تعلم اخي البطل فإن عملية البناء الوطني (الأمة والدولة) في الغرب الأوربي تصدت لها الطبقة الوسطى الحرة في سيرورة متصلة حتى نضجت في أجواء ومناخات الحرية والتنوع، وارتكزت على حقول فكرية ومعرفية وثقافية، كما عملت على تركيب واستيعاب مكونات من ميراث الثقافات والحضارات السابقة اليونانية والرومانية والإسلامية ، وتأسست على وعي حركات الإصلاح الديني والتنوير والنهضة ومذاهب العقلانية والانسانية، وارتكزت على الهوادي الفكرية للثورة الفرنسية، وقوام هذا الزخم والحراك هو المجتمع والحرية المطلقة، فإلى من أسندت مهام البناء الوطني في الدولة السودانية خاصة في مرحلة ما بعد الاستعمار؟ تسنمت هذه العملية دولة ما بعد الاستعمار الوطنية، فما هو شكل هذه الدولة؟ هل كان قوام مشروعيتها المجتمع ودولة القانون والعدالة؟ وهل تصدى المجتمع بحرية وطلاقة للتعاطي مع قضايا الحكم والعقد الاجتماعي والهوية وفق الأولويات الوطنية لتحقيق الوحدة الوطنية ثم تركت المجتمعات السودانية بتمايزاتها تتعاطى مع مسألة الهوية والمرجعية الثقافية للدولة دون قهر أو نزوع لتعميم صيغة أحادية تكرس للمركزية الاثنية والغائية التاريخية وصدام الهويات الوطنية المفضي إلى تكوين دولة هشة ومضطربة نهاياته تفكيك الدولة وانهيارها على اساس اثني وعرقي؟ لقد تصدت لعملية البناء الوطني في السودان ولقرابة نصف قرن الأنظمة الاستبدادية والتي أوقفت ثورة المجتمع الحر في صناعة العقد الاجتماعي والدستوري وبناء دولة وطنية قوام مشروعيتها هو المجتمع، فعطلت أنظمة الاستبداد عملية البناء الوطني وبدلا من تحقيق عملية الوحدة والاندماج بين الدولة والمجتمع ليصب "البروسيس" النهائي في بناء دولة متينة ومتماسكة، جاءت عملية البناء الوطني القهرية في السودان على تضاد وتناقض فكانت مؤسسات الدولة في مقابل المجتمع مما أفرز دولة سودانية غاية في السيولة والرخاوة والتشظي. (4) إذا اخي البطل فإن العقل الأمني وذهن الاستبداد الذي جثم على الدولة السودانية لثلاثة فترات سياسية متطاولة أنتج هذه الأزمات الحدية المركبة والعميقة والتي أفضت إلى انقسام الدولة السودانية إلى كيانين، واججت الصراعات الهوياتية في بلد وصفه المفكر أبو القاسم حاج حمد انه يعيش وحدة سطحية في تنوع عميق وحالة من الهامشية المركبة جعلت المؤرخ أرنولد توينبي يربط الاستقرار والوحدة في أفريقيا كلها بالاستقرار والوحدة في السودان لأن السودان نموذج مصغر لافريقيا، وحدته وتحقيق الاندماج القومي بين مجتمعاته، وتعمق الديمقراطية فيه سينعكس استقرارا ووحدة وديمقراطية في أفريقيا والعكس كذلك. (5) إن الدولة الأمنية كما تعلم هي نتاج أزمة وعقل ازمة منكفئ وصعود هذه العقلية للحكم يعني إنتاج أزمات أمنية وهوياتية واثنية تتم إدارتها بعقلية أمنية محضة مما يعني استفحال الأزمات الأمنية والحروب المتصلة، وتعني كذلك إدارة العلاقة مع الخصوم السياسيين بالنزعة الأمنية وسيادة منطق القوة، والذي يولد الاستقطاب الشامل، وترتد الولاءات القومية إلى منشأها وحواضنها الأولية القبلية والطائفية والاثنية والعرقية وتغدو الحالة المسيطرة هي (حرب الكل ضد الكل) تماما كالحالة السودانية الماثلة وقع الحافر على الحافز، وتبعد النجعة بهيمنة العقلية الأمنية في كل شعاب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية حتى تتكلس الحياة ويتلاشى الإبداع وينزوي المبدعون لأن العقل الذكي والمبدع يأنف العمل في سياق الاستبداد والانكفاء لآماد طويلة (وقياسا على ذلك تأمل حالة نظام الإنقاذ الآن). وهنا، وبدلا من أن يتحرك المثقف العضوي بالعقل النقدي وخاصية التفكير خارج الصندوق لاجتراح رؤى وأفكار متجددة ترمي لتحقيق البناء الوطني والدستوري لانتشال الدولة من تراكم ميراث الاستبداد والعقلية الأمنية التي اوصلتنا إلى هذه التراجيديا الوطنية، يلجأ بعض المتأخرون فكريا إلى معالجة ميراث وتركة الاستبداد لذات الوصفات والأدوات الكلاسيكية وهي تعميق العقلية الامنية والبطشة الحجاجية، والتي كلما تعمقت وترسخت عمقت الأزمة الوطنية وصولا إلى سيناريو التفكيك الكلي للوطن. (6) صفوة القول إن التشريح العميق للازمة الوطنية ينبيء بان العقل الأمني وذهن الاستبداد المتراكم هو الأصل في استمرار أزمات الدولة السودانية، والتفكير البدهي والسوي يقتضي رفع الوطأة الأمنية الثقيلة عن كاهل الدولة السودانية وليس تعميقها وتعزيزها ومن هنا تكون البدايات الواثقة والتعاطي الاستراتيجي لإصلاح الخلل في عملية البناء الوطني، وهذه العملية لن تتم إلا إذا حفر المثقفون أفكارهم حفريات بلا فاس إيديولوجي تصب كلها في نهر الحريات العامة والتي توظف لإنتاج أفكار خلاقة وعظيمة تصب في عملية البناء الوطني والدستوري، وعندها ستتعزز مفاهيم الأمن القومي ومعادلة الأمن الحقيقية والتي سيصنع المجتمع محدداتها وثوابتها واطرها ومؤسساتها بكل تجلياتها السياسية والثقافية والاجتماعية والحضارية وعندها ستكون العقلية الأمنية والمصوبة حاليا ضد المجتمع قهرا واستبدادا وبطشا وهو لا يعي أي (العقل الامني) أن المجتمع هو الصانع والحامي للدولة ومؤسساتها الكلية والتي من ضمنها جهاز امني واستخباراتي محدود وظيفته حراسة القيم المادية والمعنوية للدولة على أن تتم هذه العملية بتجانس وتناغم مع المجتمع لصيانة الامن القومي والذي تعني معادلته الاستراتيجية حماية الدولة من المخاطر الخارجية، لتمتين وتعميق البناء الوطني الداخلي، وتماسك الدولة، وتعزيز المصالح الداخلية للدولة الوطنية لا لتعزيز نظام أقلية مستبدة . إذن الحفر الفكري والسياسي والثقافي ينبغي ان يصوب في اتجاه استرداد الدولة الوطنية المختطفة من عقل الاستبداد ليشارك في صناعتها من جديد كل أبناء السودان بكل تبايناتهم وتناقضاتهم لتحقيق وطن يسع الجميع.