تُشكلُ إشكالية الهجرة والاغتراب هاجساَ أرّق البشر منذ القدم ، وعرِف التاريخ البشري الهجرة كأكبر مؤثر في البناء الاجتماعي شكلت الإثنيات القارية المختلفة ، وشاركت في البناء الاقتصادي العالمي على مر العصور ، وكانت المؤشر الحقيقي للأزمات السياسية ، الاجتماعية والاقتصادية في مختلف البلدان والأزمان . كان الشاعر الجاهلي الشَنْفرَى ( 1) من أوائل المهاجرين والمغتربين الذين تغربوا عن الأهل و الوطن وخّلد في شعره أسباب هجرته ، ومعاناته وشظف عيشه ثم وحدته الموحشة وتراكم الهموم عليه ، ثم بيّن في حكمٍ بليغة نتاج تجربته في الهجرة والاغتراب. في محاولة تجديدية مبتكرة نحاول إلقاء الضوء على تجربته بتدبرٍ و قراءةٍ عصريةٍ حيث أن قضية الهجرة والإغتراب تمسَّ الكثيرين حول العالم ولم يقلل العامل الزمني من أثرها و جوهرها على مرِ ااتاريخ. في قصيدته "لامِية العربِ" (2) الثرية بالنفيس من الآدابِ وعلوم ِ اللغةِ ، بيّن الشنفرى في مطْلعِها نِيته الهجرة وركوبِ موج سفين الاغتراب فأنشد : أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ فَإنِّي إلى قَوْمٍ سِوَاكُمْ لَأَمْيَلُ فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّيْلُ مُقْمِرٌ وَشُدَّتْ لِطِيّاتٍ مَطَايَا وَأرْحُلُ المعنى : هيئوا ياأهلي مراكبكم فإنني قد نويت الرحيل و الهجرة إلي ديار غير دياركم و أ صبحت أميل إلي قومٍ سواكم ، فلقد تدبرت وأبرمت أمري بليل ، ونويت قضاء حاجتي وعزمت علي طلب الأماني بالسير في درب الرحيل. الكلمات : أقيموا : تهيئوا ، صدور المطايا : مايمتطيه الإنسان للتنقل وهي الإبل في عصره ، أمْيل : أرغب ، حُمّت : قدّرت ودبّرت ، حاجات : رغبات ، طيات : مفردها طيّة وهي النٍيّة ، مطايا وأرحل : المطية ما يمتطَى و الأرحل ما يوضع عليها. التعليق : لا بد أن كل مغترب ومهاجر عن وطنه تنطبع في ذاكرته الأيام التي سبقت رحيله وسفره عن أرض الأهل الوطن ، ويتذكر حيرته في تدبر الأمر حتي أفضى عزمه إلي طريق الرحيل ، ولا بد أنه يتذكر الأشخاص الذين ساندوه وظاهروه و الذين تنكروا له ، ولا بد أنه يتذكر تدبيره سبيل السفر والرحيل سرا أو علانية ، براً ، بحراً أو جواً ، ولا بد أنه يتذكر تضارب الخواطر والعواطف في دواخله وهو يغادر الديار التي نشأ فيها ، والأهل الذين قضى سني عمره بينهم ، ولا بد أن بعضهم كان مصمماً علي الرحيل مهما كانت العواقب بسبب ظلمٍ أو ضيق بالمكان وأهله كما فعل الشنفرى. خلّد الشنفرى أسباب الهجرة والإغتراب عن الديار والأهل في أبيات موجزة لا تزال تنطبق علي الواقع المعاصر رغم مرور قرون علي رؤيته النافذة: وفي الأَرْضِ مَنْأَى لِلْكَرِيمِ عَنِ الأَذَى وَفِيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَى مُتَعَزَّلُ لعَمْرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيقٌ على امْرِىءٍ سَرَى رَاغِبَاً أَوْ رَاهِبَاً وَهْوَ يَعْقِلُ المعنى : الهجرة والإغتراب في أرض الله الواسعة ، تُبعد النفسَ الكريمةَ عن تحمل الأذى والهوان ، وفيها لمن خاف أسباب البُغض والكراهية وتحمل تبعات الظلم والجور ، أن يربأ بنفسه و يعتزل هذا الواقع السيئ إلي آمال واسعة وعراض وفرص جديدة . وأنا أقسم لك بحياتك أن الأرض الواسعة لن تضيق بالمرء الذي يسافر بعد تدبر وتعقل وهو يرغب ويتطلع لحياة جديدة او يفرّ من دياره وهو خائفٌ من تبعات ذُلّه وهوانِه. الكلمات : منأى و تعزل : ابتعاد ، القِلى : البغض والكراهية ، لعمرك : أقسم لك بعمرك ، سرَى : سافر ليلاً ، راهب : خائف ، يعقِل : يدرك ماذا يفعل التعليق: بيّن الشنفرى في بلاغة دهرية الأسباب الأساسية للهجرة والإغتراب عن الديار فكان أولها البُعْدُ عن الأذي : ويتمثل في العنف الجسدي ، اللفظي والنفسي بما فيها التعذيب ، السجن والملاحقة أو الاضهاد الاجتماعي ، العرقي أو الديني ، وثانيها الرغبة في فرصٍ واعدةٍ لحياةٍ جديدةٍ لتحسين الأوضاع العملية ، العلمية ، الاقتصادية أو الاجتماعية ، وثالثهما الرهبة والخوف على النفس والأهل من عدم القدرة لتوفير سُبل الحياةِ الكريمةِ أو عدم الاستقرار لظروف النزُوح والحرب. وضع الشنفرى قيداً مهماً لكل هذه الأسباب : أن يسبقها التعقل ، التدبر والتوكل ، فلو هاجر أو اغترب المرء دون تخطيط وتنظيم : ضاع جهده سدىً وربما ألقى بنفسه وأهله موارد العذاب المعيشي و ربما التهلُكة النفسية ، المعنوية أو المادية كما بينت حالات نزوح اللاجيئين في السنوات الأخيرة. عند وصول المهاجر والمغترب إلي مقصده ، أوصاه الشنفرى بفضائل الأخلاق فهي التي تشكل صفاته فيتميز عن غيره ، وتوليه الثقة وتقربه للقلوب فتفتح له أبواب الفرص والنجاح . فأوصاه بالشجاعة في الصدع بالحق وقوة الإرادة و صلابة العزيمة ، وأن يقتنص ما هو أهلٌ له وإن كان عصِّي المنال وألا ييأس من طرق ابواب النجاح إن كان يستطيع أن يدركها بعزمه ومضائه ، وأن لا يدع الفرص سائغة للاخرين إن كانت له المؤهلات التي تمكنه من بلوغ النجاح . كما أوصاه بالعفة وعزة النفس وعدم الجشع وأن يترفع عن الصغائر لا سيما إن تكالبت عليها الأيادي الجشعة ، فإن فعل ذلك فقد أتم معاني الفضل والرفعة . وَكُلٌّ أَبِيٌّ بَاسِلٌ غَيْرَ أنَّنِي إذا عَرَضَتْ أُولَى الطَرَائِدِ أبْسَلُ وَإنْ مُدَّتِ الأيْدِي إلى الزَّادِ لَمْ أكُنْ بَأَعْجَلِهِمْ إذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ وَمَا ذَاكَ إلّا بَسْطَةٌ عَنْ تَفَضُّلٍ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الأَفْضَلَ المُتَفَضِّلُ أبيّ : عزيز النفس الذي يأبى الذل والظلم ، باسل : شجاع ، طرائد : فرائس وتعني الفرص في عصرنا ، زاد : طعام ، أعجل : أسرع ، بسطة : سعة. كما أوصى المغترب والمهاجر أن يكون سديد الرأى ، قوي الإرادة ، ذو بصر وبصيرة ، يعرف طريق التوفيق و النجاح ولا يتوه عن هدى الطريق والهدف لا سيما إن غاب الدليل والأثر ، وأن يتجنب مزالق السير وعثرات المسير ، وأن لا تغرِيه ظُلماتُ المغرياتِ المختلفة فتختلط عليه دروب السلامة و النجاة : وَلَسْتُ بِمِحْيَارِ الظَّلاَمِ إذا انْتَحَتْ هُدَى الهَوْجَلِ العِسّيفِ يَهْمَاءُ هوْجَلُ المعنى: ولست بالذي يحتار عندما يدلهم الظلام فأعرف طريقي جيّداً ، ولست كالأحمق الذي يسير من غيرما هدىً في دروب الصحراء الواسعة التي تفتقد المعالم والاتجاهات فيضلّ الطريق والهدف . في البيت تأخير للفاعل لوزن البيت واستخدام كلمة هوجل بمعنيين مما يربك الفهم . أصل الجملة الشعرية : ولست بمحيار الظلام إذا انتحت يهماء هوجل هدى الهوجل العسيف . الكلمات : انتحت : قصدت ، هوجل : الأحمق ، عسيف : الذي يسير علي غيرهدى ، يهماء هوجل : صحراء واسعة دون معالم واتجاهات. كما أوصى الشباب ( ولا سيّما الجيل الثاني من المهاجرين) الأ يركنوا في البيت (الدار) يقضون كل الوقت في المغازلة الاسفيرية و ثمّ مطالعة صورتهم يقضون جلّ الوقت في العناية بالشكل دون المضمون حتى تفوتهم فرص الحياة من جدِّ و عمل واسثثمار في العقل والفكر : ولا خَالِفٍ دارِيَّةٍ مُتَغَزِّلٍ يَرُوحُ وَيغْدُو داهناً يَتَكَحَّلُ خالف : الذي لا خير فيه ، دارية : المقيم في الدار لا يبرحها ، الغدو والرواح : الصباح والمساء ، داهنا ً : التمسح بالدهن ، الكحل : الأصباغ علي العين . كما أوصي الشنفرى المهاجر والمغترب ألا يكون جباناً أو سيئ الخلق وأوصى الذين يتزوجون حديثأ ، ألا يكون زوجه كل همه في الحياة فيتلازمان وينصرفان لأمورهم الخاصة دون أن ينتبهوا إلي من حولهم و ينسون صروف الأيام وتدابير الدهر : ولا جُبَّأٍ أكْهَى مُرِبٍّ بعِرْسِهِ يُطَالِعُها في شَأْنِهِ كَيْفَ يَفْعَلُ الكلمات : جبأ : جبان ، أكهى : سيئ الخلق ، مُربّ : ملازم ، عِرْس : زوج ، يطالع : يستشير كما أشار علي أرباب الأسر الأ يتابعوا الأحداث المتتابعة في محيطهم الاجتماعي فيقضون معظم وقتهم خارج البيت والأسرة ليرجعوا أوآخر الليل بينما يتركون أبنائهم "مجدّعين" دون رعاية وعناية فيؤثر ذلك في تحصيلهم الدنيوي ، تربيتهم و تكوينهم الجسمي والنفسي : وَلَسْتُ بِمِهْيَافٍ يُعَشِّي سَوَامَه مُجَدَّعَةً سُقْبَانُها وَهْيَ بُهَّلُ مهياف : سيئ التدبير ، يعشي سوامه : يرعى بالماشية فيطعمها حتى المساء ، مجدعة : سيئة التغذية ، سقبان : أبناء (الناقة) ، بهّل : ضروعها مليئة مبذولة . كما حذّر الشاعر المغترب والمهاجر من تقلّب الأحوال من فقر وغنى في أرض الاغتراب ، وأوصاه أن أن يحافظ علي الأخلاق ، المبادئ والفضائل فهي التي تبقي فتنفع صاحبها بينما يذهب زبد المال هشيماً تذروه الرياح ، كما أنذره أن التركيز علي جمع الأموال غالباً ما يرافقه سوء الأخلاق إما في النفس أو الأبناء ، وأوصاه بألا يجزع فينكشف حاله عند سوء الأحوال ولا يختال مرِحاً فيخرق الأرض خوف تداول الأيام : وأُعْدِمُ أَحْيَاناً وأَغْنَى وإنَّما يَنَالُ الغِنَى ذو البُعْدَةِ المُتَبَذِّلُ فلا جَزِعٌ مِنْ خَلَّةٍ مُتَكَشِّفٌ ولا مَرِحٌ تَحْتَ الغِنَى أتَخَيَّل الكلمات : العدم والخلة : الفقر والحاجة ، ذو البعدة: الذي يتباعد في جني الأموال ، متبذل : يقترف العيب ، الجزع : الخوف وعدم التحمل ، الخيلاء : الإعجاب بالنفس و التكبر . كان الشنفرى صادقاً شفافاً لم يخجل من أن يظهر ضعفه رغم بسالته و شجاعته ، فتحدث في صدق أن حياة الاغتراب والهجرة رغم جاذبيتها الظاهرية إلا أنها تتقاذفها الهموم من حين إلي آخر من كل الجوانب فتنغّص ُ علي المرءِ حياته ، لا سيما عند تذكر الأهل والديار ، والتفكّر في توفير سبل العيش الكريم للفرد والأسرة ، وغياب الاندماج الحقيقي في البيئة الجديدة التي لا يحسُ معها المرء بالانتماء ، والخوف المستمر من تبعات الأفعال والأقوال و التدبر المتكرر في مآلات مقبل الآيام حيث تبرزُ ظلماتُ المرضِ ، الضعفِ والهرم : وإلْفُ هُمُومٍ ما تَزَالُ تَعُودُهُ عِيَاداً كَحُمَّى الرِّبْعِ أو هِيَ أثْقَلُ إذا وَرَدَتْ أصْدَرْتُها ثمّ إنّها تَثُوبُ فَتَأتي مِنْ تُحَيْتُ ومِنْ عَلُ الكلمات: إلف : أتعوّد ، تعُوده : تزُوره ، حمى الربع : حمى تعاود كل أربعة أيام ولعلها الحمى الراجعة ، ورد وأصدر : تجيئ جيئة وذهاباً ، تحيت : تصغير من تحت ، علُ : أعلى. فإن تكاثرت الهموم على قلب المغترب والمهاجر ، أوصاه الشنفرى بالصبر والجَلّد ، الحزْم والعزْم حتى تتبدل أحواله بأحسن منها : فإنّي لَمَولَى الصَّبْرِ أجتابُ بَزَّهُ على مِثْلِ قَلْبِ السِّمْعِ والحَزْمَ أنْعَلُ المعنى : وأنا صاحب الصبر ألبسه كأحسن مايكون ، وأنا قوىٌ شجاع ذو عزيمة كقلب الذئب متعود أن أتخذ الحزم نعالاً الكلمات : مولى الصبر : صاحبه ، أجتاب : ألبس ، بزه : جيّده ، السِمْع ، ولد الذئب كما سبق بيّن الشنفرى مسيرة الهجرة من نية وتصميم للسفر بعيداً عن الديار والأهل ، ثم السعى الدؤوب لتحقيق الهدف والمبتغى ، وثَمّ المعاناة التي يلاقيها المغترب والمهاجرمن ضيق وشظف في العيش وثم محاولة التمسك بالأخلاق والفضائل حتى يدرك مبتغاه يعقبها تقلب الأحوال من فقرٍ و غِنى ، ثم لحظات الضعف والهوان التي تراودها الهموم . رغم أن الشنفرى قد سطّر رؤاه قبل قرون إلا أن أثرها و مضمونها لا زال سارياً في زماننا هذا ولا بد أنها ستستمر في مقبل الأيام حيثُ أن إشكالية الهجرة والاغتراب سرمدية مرتبطة بحياة الإنسان وتطلعه لحياة أفضل بعيداً عن منشأ الأهل والديار . 1-2 : الشنفرى لقب لشاعرٍ جاهلي من الشعراء الملقبين بالصعاليك عاش في الجزيرة العربية بين مكة والمدينة قبل الإسلام وهم ينتمي لقبيلة الأزد العربية ، اختلفت الروايات حول نسبه وسبب تغربه وعداوته لأهله الذي نشأ بينهم . بعد اعتزاله لأهله عاش حياة عزلة واغتراب يرافقه سلاحه وحيوانات الصحراء . تعتبر قصيدته " لامية العرب " من روائع الشعر العربي التي نفض الغبار عنها حديثاً لعدم إهتمام قدامى الموثقين بها ربما لصعوبة ألفاظها أو الاختلاف حول أصلها . للاستزادة من شرحها ، أنظر كتاب الدكتور عبد الحليم حفني ( مكتبة الآداب ،القاهرة 2008م ) ، ودراسة رسالة الدكتوراة للجزائري حرشاوي جمال عن الخصائص الشعرية للشعراء الصعاليك : الشنفرى نموذجاً ، والدراستين متاحتين على الشبكة العنكبوتية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.