كنا ذات مرة جلوساً تحت شجرة فوقها بعض السمبر، فمر علينا رجل من أهل البادية وخاطبنا بقوله: (يا أولاد قوموا من تحت الشدرة ما يسلح عليكم الطير)، فلم نفهم قوله في تلك اللحظة، ولكنا أطعنا أمره على عادة الأطفال في ذلك الزمن الجميل، فقد كان الكبير هو المربي والأب، يمارس النصح والإرشاد حيثما كان، بغض النظر عن علاقته بمن يخاطب من أطفال أو صبية. وبما أننا نتحدث هنا عن فصيح العامية يكون الشاهد كلمة «يسلح» التي بمعنى «يذرق» أي يخرج ما في بطنه من قاذورات ونحوها. وهذه كلمة عربية قحة؛ ولذلك عندما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر بقوله: دع المكارم لا ترحل لبغيتها وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي رفع الأمر لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال عمر :«لا أسمع هجاءً ولكنها معاتبة»، فقال الزبرقان: «أما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس؟» فقال عمر: «عليّ بحسان بن ثابت»، فجيء به، فسأله: «أترى أنه قد هجاه»؟ فقال حسان: «لم يهجه، بل سلح عليه». وبما أن دار الريح تعني بادية شمال كردفان، كان من الطبيعي أن يحتفظ أهل هذه المنطقة بكلمات وعبارات فصيحة من تلك التي تتعلق بالإبل والرعي عموماً. ومن المفردات الشائعة كلمات مثل «الصرار» وهو ما يوضع على ضرع الناقة أو العنز حتى لا يرضعها صغيرها، ومنها أيضاً كلمة «بهل»، أي «بدون صرار»، و«يعشي» أي يرعى البهائم، خاصة الإبل والضأن ليلاً. قال الشنفري في لامية العرب: ولست بمهياف يعشِي سوامه مجدعة سقبانها وهي بهّل وهذا البيت، في واقع الأمر يحتوي على أكثر من شاهد؛ أولاً نجد كلمة «مهياف» التي هي صيغة مبالغة على وزن «مفعال، وتعني الشخص سيء التدبير، والناس في دار الريح يقولون لمن يسئ التصرف: «فلان دا زول هايف ساكت»، وبالطبع هنالك كلمة «بهّل» وهي جمع لكلمة باهل وهي الناقة أو البهيمة التي تترك بدون صرار على ضرعها. وبهذه المناسبة يحضرني قول شاعرنا الشاب الطيب خليفة الذي يستخدم ذات المفردات التي سبقه إليها الشنفري وبنفس المعنى وفي ذات السياق: كونيبك حفل وحز سنامك وسرّا وسمّح شوفك بيهو النفوس تنسرّا ناويابي النجيع شايفك ركن منصرّا عيلي ومدي يا أم شطراً بهل ما صرّا وكلام الطيب نفسه لا يخلو من ألفاظ فصيحة منها «النجيع» وهي اشتقاق فصيح من كلمة «النُجْعة»، ونحن في شمال كردفان نقول «النَجعة» وهي تعني الذهاب لطلب الكلأ في موضعه: وفي ذلك تقول البدوية: يا أم زور بعد الهجعة شلع براق النجعة ومن فصيح العامية في دار الريح «الفصيل» وهو ابن الناقة إذا فصل عن أمه. فقد جاء عن الحطيئة أيضاً وقد حل ضيفاً على من لم يعرفه قوله: «والله إذا وضعت أحد رجلي على الأخرى، ثم عويت في إثر القوافي كما يعوي الفصيل الصادي لعرفتومني»، ولعمري هذا وقع الحافر على الحافر مع قول الشاعر الكبير يوسف البنا: العشاقو زي رزمي الفداير حنو بعيد غادي على سهم أب رماده رمنو و«الرزمي» هو الصوت الذي يحدثه الفصيل عندما يفتقد أمه، وهو العواء الذي يقصده الحطيئة، أما «الفداير» فهي صغار الإبل عندما تفصل عن أمهاتها أي «تفدر». وقد حافظ العرب في دار الريح على أسماء الأدوات التي يستخدمونها في البادية مثل «الكور» وهو رحل البعير. قال الشاعر: بعدما أخّر حليلة الدمر يا الكير حس جضيض كورك بودر حنة التفجير دي الما أتابقت بي حوش لا اسنطت لصفير هاك طيتها سُولب يا مقرعبْ طِير وقال الفرزدق: وركبٍ كأنّ الريحَ تطلب عندهم لها تِرَةً من جذبها بالعصائب سروا يخبطون الليل وهي تلفهم إلى شعب الأكوار من كل جانب كذلك من فصيح العامية في دار الريح كلمة «الرقل» وهي تستخدم لوصف سير البعير دون الجري، وفي ذلك يقول طرفة بن العبد واصفاً ناقته: وإني لأمضي الهمّ عند احتضاره بعوجاء مرقالٍ تروح وتغتدي فكلمة مرقال مبالغة من مرقل وهي مأخوذة من الإرقال وهو بين السير والعدو. يقول الشاعر أبو الطيب: بعد ما أخّر المزروب عقب أم سره رَقلُو يهوّل الشاعر البوصف كله هرعاً شاغله البراق تكاجر ضله داك محبسها يا شعتيب عريس أم قله من ناحية أخرى يسمي الناس في دار الريح بناتهم بأسماء تدل على التفاؤل مثل «أم ضعينة» ويعنون بذلك أن تكون البنت من اللائي يحملن في الهودج كناية عن أنها من الثريات؛ والظعينة هي المرأة التي تحمل في الهودج؛ قال الشاعر: قاموا الليلة من دار الّدمر وأنقلّو حازمة ضعينتهن منجمعه ما بنفلّو سقّد مايقي روقة الغمده مابيه تطلّو وقلبي مع الجراسه الِبنُقرن قام كلّو ولعنا نلاحظ استخدام حرف «الضاد» بدلاً من «الظاء» وهذا شائع في اللهجات العربية حتى الفصيح منها، إذ كثيراً ما يستخدمون حرفاً مكان الآخر؛ وتظل الكلمة تحتفظ بذات المعنى. طبعاً أستاذنا البروفسور عون الشريف قاسم هو أول من توسع في الحديث عن اللهجة العامية في السودان مستشهداً بأشعار أهل البادية في كردفان والبطانة وغيرها من أنحاء السودان، وما هذه إلا خاطرة محدودة لتسليط بعضاً من الضوء على مفردات هي من صميم لهجة دار الريح البدوية القحة، قصدنا بها لفت الأنظار إلى هذا الجانب المهم من تراثنا الثقافي واللغوي. عموماً، إنّ لهجة دار الريح متأثرة بدرجة كبيرة بلهجة شمال نجد والحجاز؛ ولذلك تكثر فيها الإمالة والإبدال وغيرها من خصائص تلك اللهجات، سيما وأن دار الريح قد حافظت على طابعها البدوي في كثير من الجوانب. ومن يتأمل لهجات أهل البادية في شمال كردفان، يدرك تماماً أن هؤلاء القوم إنما يتكلمون لغة ورثوها كابراً عن كابر، خاصة فيما يتعلق بأمور البادية والرعي.