= هناك ازمتان عالميتان مترابطتان: مستويات عالية من البطالة بين الشباب , و نقص في عدد الاشخاص الذين يتمتعون بمهارات حيوية تؤمن لهم فرص العمل . تقدر منظمة العمل الدولية ان 75 مليون شاب يعانون من البطالة . و على جانب اخر ثمة قصور في مهارات التفكير الناقد في الوقت نفسه . ففي حين انه يجب التصدي لكل تيارات التحول الى الافكار الضارة , نجد اننا لا نفعل ما يكفي لتشجيع التفكير الناقد بين الشباب . فالكثير من طلاب الجامعات مثلا يتمتعون بمهارات عالية في استرجاع المعلومات .. نعم . غير انهم يفتقرون لمهارة تفنيد موضوع ما او لقدرة الحصول على ما يلزم من معلومات لما يلزم لتفنيده . و لا علاج لمثل هذه المشاكل (البطالة و نقص مهارات العمل و نقص مهارات التفكير) سوى بغرس مهارة التفكير الناقد في الطلاب بالمدارس و الجامعات . التفكير الناقد تفكير موجه ذاتيا و يولد افكارا جديدة و مبتكرة و يحل المشكلات . التفكير الناقد هو التأمل العميق في تجارب التعلم و عملياته , و اتخاذ قرارات فعالة بتجنب الوقوع في عثرات شائعة , على سبيل المثال : النظر الى القضية من جانب واحد , و استبعاد الادلة الجديدة التي تعارض الافكار المسبقة , و الاستدلال القائم على العاطفة لا على المنطق , و الاخفاق في جمع العدد الكافي من الأدلة او المعلومات. ان اهم العمليات التي يقوم بها الانسان ضمن نشاطه اليومي هي حل المشكلات . بل ان القدرة على التفكير لا تختبر بجدية الا عند مواجهة مشكلة ما . اينما كان لديك هدف يصعب عليك تحقيقه لأي سبب من الاسباب ( غياب الموارد او المعلومات او ما شابه ذلك ) فان امامك مشكلة . و أي شيء تفعله لتحقيق هدفك هو حل المشكلة . و ابرز التحديات التي تواجه انسان هذا العصر هي المشكلات التي تحتاج لحلول غيرتقليدية . و لذلك يوصف التفكير الناقد أحيانا بأنه التفكير خارج الصندوق .. باعتبار ان الصندوق يحوي المعروف و المالوف من حلول المشاكل . = يتضح مما ذكرنا أعلاه ان التفكير الناقد يقوم على اربع ركائز أو دعامات : (1) النظر من عدة زوايا(2) تقييم الادلة (3) حل المشكلات غير الروتينية (4) البحث عن البنية العميقة للمشكلة . و المطلوب وفقا للدعامات الاربعة سابقة الذكر ان ننظر لاي موضوع من عدة زوايا , و أن نجود تقييم الادلة و المعلومات الضرورية لحل المشكلة أو لاتخاذ القرار , و أن نركز على تعلم المشكلات غير الروتينية و غير المالوفة , و ان نبحث في تلك المشكلات عن البنية العميقة التي تبني المناعة ضد ذلك النوع من المشاكل . نفعل كل ذلك باتباع طرق مبتكرة و فعالة للتدريس نملك فيهاالطلاب اسس التفكير الناقد بطريقة مباشرة أوغير مباشرة . = فلنأخذ الدعامة الاولى و هي (النظر من عدة زوايا). يجب ان نملك الطلاب المعلومات الممثلة لكافة جوانب الموضوع . فمثلا , عند الاشارة الى أن الولاياتالمتحدةالامريكية هي أغنى دول العالم يجب الاشارة الى ان الجوع موجود أيضا في تلك الدولة الغنية حيث أن 15% (48 مليون) من سكانها جوعى . و مثلا نحكي عن تجربة أهلنا في كينيا حين ظنوا ان ازالة الغابات ستدر عليهم فائدة تقدر ب 1.3 مليارشيلينق و هو بالفعل ما حدث , لكنهم لم يقدروا الاثر البيئي و الاقتصادي لهذا العمل حيث تسبب قطع الغابات في تراجع تدفقات الأنهار في موسم الجفاف الامر الذي أدى إلى خفض الناتج الزراعي بقيمة 2.6 مليار شيلينق.. و هذا ايضا قد حدث . الواقع ان استراتيجية طرح الاسئلة المفتوحة و اتاحة الفرصة للحوار و النقاش هي من الممارسات التي تعزز التفكير الناقد لدى الطلاب في الفصل لانها تعودهم على الاستماع لوجهات النظر المختلفة . = أما عند الحديث عن الدعامة الثانية للتفكير الناقد و هي (تقييم الادلة أو المعلومات) فسنكتشف على الفور أن الناس عادة يبنون آراءهم و قراراتهم على غير ادلة او على ادلة خاطئة , كما و نكتشف ان الناس يستبعدون الادلة التي تتعارض مع آرائهم المستقرة . فالناس مثلا يرون أن الاحتكاك و التعامل الحياتي العادي مع مريض الايدز يسبب العدوى بذلك المرض . و لقد مضى زمن طويل كانت العبودية (مثلا) مبررة و مقبولة بين الناس حتى أن المستعبدين انفسهم كانوا يظنون أنهم قد خلقوا لهذا القدر . و لن يتسنى للناس تغيير معتقداتهم الا اذا اعادوا النظر في الادلة و المعلومات التي تنبني عليها تلك المعتقدات خصوصا اذا استجدت معلومات او ظهرت ادلة جديدة . و هذا بالضبط ما يجب ان يقوم به المعلم تجاه الطالب : ان يمكنه من مراجعة الافكار و من البحث في الادلة القائمة عليها . و هذا يرفع بشكل كبير من أهمية التغذية الراجعة (تصحيح الواجب او الاختبار) في الفصل لانها تشكل النموذج الذي يتعلم منه الطالب مراجعة كل الافكار المستقرة لديه او لدي مجتمعه و التي تتمثل (مثلا) في العادات و التقاليد و الاعراف . = فماذا اذا عن الدعامة الثالثة الخاصة بحل المشكلات غير الروتينية ؟ أولا نقول انه يمكن حل المشكلات الروتينية باستخدام اساليب يعرفها الطالب. و ذلك بتكرار الاساليب التي سبق له ان تعلمها بطريقة الخطوة بالخطوة . و لكن المشكلات غير الروتينية هي مشكلات ليس لها منهج او مسار يمكن التنبؤ به . مسار المشكلة غير الروتينية لم يجر تطبيقه مرارا و تكرارا و لا تشير اليه بوضوح المهمة المطلوب القيام بها في تعليماتها و امثلتها . أبسط مثال للمشكلة غير الروتينة ما يلي : في الحجرة 10 اشخاص و يصافح كل منهما الاخر .. كم عدد المصافحات ؟ و لكن , ما سبب اهمية حل المشكلات غير الروتينية؟ الواقع ان السبب هو في تغلغل التقنية في مفاصل حياتنا . لقد خفضت التقنية من الطلب على الوظائف التي لا تتطلب المهارات لانها تتعلق بالمشكلات الروتينية . و لكنها رفعت من مستوى الطلب على الوظائف التي تتطلب مهارات عالية و تتطلب حل للمشكلات غير الروتينية . تعلم حل المشكلات غير الروتينية مهم لان الكثير من الوظائف الروتينية يتم الاستعاضة عنها بالتكنولوجيا (مثلا الصراف الآلي) . و لكن (للأسف) الواقع يقول ان أكثر خريجي النظم التعليمية حول العالم هم الات (بشرية) تمت برمجتها للتعامل مع المشاكل المالوفة و المعروفة و الروتينية و لذلك لفظهم سوق العمل في الحاضر , و بالتاكيد سوف يلفظهم سوق المستقبل حتى قبل أن يصلوا اليه . = و أخيرا اذا جئنا للدعامة الرابعة و الاخيرة (البحث عن البنية العميقة للمشكلة) فلابد من التنبيه الى أن المشكلة (أي مشكلة) لها بعدان : البعد الاول خاص بالبنية السطحية المتعلقة بما يمكن رؤيته بواسطة الجميع من نتائج و آثار و علامات دون عناء يذكر .. و البعد الثاني خاص بالبنية العميقة (التحتية) المتعلقة بالفكرة او المبدأ أو (الحبكة الفكرية) الداخلية للمشكلة و التي لا يمكن رؤيتها الا بالبحث العميق بعد التحليل و التركيب و أجراء العلاقات . و هذا البعد الثاني هو بالضبط ما نريد تمليكه لطلابنا في الفصول . لاننا لا نريد انتاج عقول مبرمجة على خطوط سير معلومة و محددة . نحن نريد انتاج عقول قادرة على التعامل مع غير المالوف و غير المعلوم و غير الواضح و الضبابي و الجديد و الذي لم تتضح معالمه بعد . ان الجزء العميق من المشكلة غالبا ما يعبر عنه الحكماء من الناس بالامثال . فالمثل يصور مبدأ او فكرة المشكلة . و لكن هناك اكثر من قصة تعبر عن ذلك المثل . المثل اذا هو الجزء العميق للمشكلة بينما القصص الشارحة للمثل هي الجزء السطحي لتلك المشكلة . و يمكن القول ايضا ان الجزء العميق هو النظرية او القاعدة (الرياضية مثلا) بينما الجزء السطحي هو المسائل المختلفة التي تطبق النظرية . = اذا وضح لديك بعد الشرح أعلاه ان التفكير الناقد هو المنقذ من الضلال و التشويه عند الخريج الذي تنتجه أغلب النظم التعليمية فان تغيير استراتيجيات التدريس و التعلم يصبح هو المهمة المقدسة التي يجب ان يقوم بها المعلم الذي يريد ان يضمن لابنائه مكانا في المستقبل يكونون فيه من الناجحين في عالم صارت فيه الآلة قادرة على التفكير التقليدي و العمل التقليدي بكفاءة و اقتدار بحيث لم يتبق للانسان الا ان يسبر غور الاعمال غير التقليدية و أن يسبح الى ما لا نهاية في بحر الامواج المتلاطمة للتفكير الناقد . ان طرق التدريس التقليدية قد صارت جزءا من الماضي الذي ولي و فات لانها تدور حول المعلم و المعرفة بدلا من ان تدور حول الطالب و المهارات العميقة . لقد بات العالم على يقين تام من انه لا سبيل الى تجويد التعليم من أجل دخول المستقبل الا بتمليك ابنائنا مهارات التعلم للقرن الحادي و العشرين التي تتصدرها بلا منازع مهارة التفكير الناقد . = التفكير الناقد و جودة التعليم بقلم / نوري حمدون عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.