كنت أكثر الناس دهشة للانقلاب المفاجئ الذي حدث في الخطة الأمريكية الصهيونية التي عبر عنها صراحةً وفي محاضرة علنية مستر ريختر وزير الأمن الإسرائيلي السابق الذي أعلن أن هدف إسرائيل هو تدمير السودان. فكفانا بهذا الاعتراف مؤونة توجيه الاتهام من جانبنا بما لا يرضي أذكياء السياسة الذين تجاوزوا بذكائهم وعلمهم الغزير نظرية المؤامرة وحشر الصهيونية في كل ما يخصنا. وقد تعجب إنْ صارحتك بأن الانقلاب الذي أعنيه هو اتجاه أمريكا المفاجئ نحو تحقيق استقلال الجنوب. والذي انعكس في تصريحات قيادة الحركة الشعبية علناً أثناء زيارة القيادة لواشنطن ونيويورك. ولم يكن ما سبق ذلك الانقلاب قناعة أمريكية أو إسرائيلية بوحدة السودان. كان رفضاً لطريق قد لا يؤدي إلى تحقيق الهدف الحقيقي من مساندة الجنوب. ذلك لأن انفصال الجنوب وذهابه لشأنه يتعارض مع خطة تدمير السودان. فالخطة تعتمد اعتماداً كلياً على قيادة الحركة الشعبية وانصياعها للتوجيهات الأمريكية. ونحن هنا لا نلوم عضوية الحركة الشعبية ولا شعب الجنوب لكونه أصبح بغير إرادته جزءاً من مخطط لا يد لهم فيه. والقوى الأجنبية ترى في انفصال الجنوب وانصراف الحركة لقضايا دولة الجنوب الجديدة عقبة في سبيل تحقيق الخطة المدبرة بتقسيم السودان وتفتيته وإضعافه. وغنى عن القول أن أصحاب الخطة لا يعنيهم كثيراً مصلحة أبناء الجنوب أو تمتعهم بدولة خالية من المشاكل والصراعات قادرة على تخطي عقبات التسنين. ما يهمها هو قيام الحركة الشعبية بدورها في الخطة المرسومة بتقسيم السودان. ويبدو أن هنالك عوامل قاهرة جعلت من الصعب إبقاء الحركة في المحور الذي استنه الراحل جون قرنق والذي يبقي الحركة قوة فاعلة في الشمال. أهم هذه العوامل أن القائد سلفاكير لا يحمل أياً من طموحات قرنق في أن يكون قائداً إفريقياً لدولة يعاد تشكيلها لتكون دولة إفريقية. وهنالك قيادات نافذة ك بونا ملوال لا يرى أن للجنوب أية مصلحة في الدخول في صراعات سرمدية لا نهاية لها في الشمال، ويرى التركيز فقط على تحقيق استقلال الجنوب. ولقد كان ذلك هو السبب الرئيسي في خلافاته مع الدكتور قرنق ومن عرفوا بعده بأبناء قرنق. ولا يخفى أن للسيد بونا ملوال علاقة حميمة بسلفاكير. ومن عوامل هذا الانقلاب أن اقتراب الاستفتاء وبالتالي فرصة تحقيق الاستقلال وإنشاء دولة مستقلة ذات سيادة تنعم بمواردها وتنفد بجلدها من سيطرة الشمال بكل ما يمثله لدى الكثيرين من صور يختلط فيها الوهم بالحقيقة عبر تاريخ قلق، قد أشعل الحمية والحماس والتطلع لدى جماهير أبناء الجنوب كما ظهر فيما بعد في نتيجة الاستفتاء التي أوشكت أن تكون إجماعاً غير مسبوق، وفي انفجار موجة الفرح الغامر التي شاهدناها جميعاً. هذا الانعطاف الجماهيري الطاغي نحو الاستقلال جعل من الصعب تجاهله بعد أن أصبحت كفته هي الغالبة. من هنا كان لابد من تغيير السياسة دون تغيير الهدف المغلف بشعار السودان الجديد والذي استثمرت فيه القوى الغربية مدعومة باللوبي الصهيوني كثيراً. فكان القرار الجرئ والقاضي بتأييد ومباركة الانفصال وفي نفس الوقت دعم الدولة الجديدة مادياً وعسكرياً بالقدر الذي يجعلها تقف على قدميها على الأقل في نظر العالم، أما ما يحدث لها مستقبلاً فذلك ليس مهماً الآن. المهم العمل على استمرار الحركة الشعبية في أن تلعب دورها وفق الخطة المرسومة وبتأييد بعض الأحزاب الشمالية المعارضة التي ترى في الحركة كرتها الوحيد للوصول إلي الحكم حتى لو احترق السودان كله أو سلمته مقطع الأوصال لقوى التآمر والغدر. ويتم ذلك أولاً بترسيخ الحركة في الشمال، عن طريق ما يسمونه عبثاً واستعباطاً الانفصال السياسي، الحدود المرنة، الجنسية المزدوجة، الحريات الأربع. وثانياً عن طريق تمدد الحركة الشعبية داخل الحركة السياسية الشمالية عن طريق قطاع الشمال بقيادة الثالوث الخطير عقار والحلو وعرمان. وفتح خمس جبهات للصراع والنزال، لا أرى أثراً قوياً لمواجهتها من قبل الشمال برغم أن الجيوش قد اصطفت والمدافع قد نصبت. نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 1/3/2011م