عادة لا انشط لدخول المظاهرات، ولا أقلل من شأنها، ولكني لا أحسن الهتاف، خاصة في هذه السن التي لا يجمل فيها الجري امام هراوات الشرطة والغاز المسيل للدموع وكاميرات الجزيرة والعربية وال«بي بي سي». والكل يريد ان يصورك لتكون عند البعض عبرة وعند البعض الآخر برهانا حيا للشر والطغيان. لكنني لم ارد هذه المرة - وقد بدأت هذه التظاهرات تتخذ طابعا دراميا-، ان تفوتني هذه اللحظة التاريخية التي تكمل فيها الحركة الشعبية انجازها العظيم للسيطرة الكاملة غير المنقوصة على دولة الجنوب، والمشاركة في اسقاط الشريك في الشمال، والتربع علي العرشين معا، برغم المثل الذي يقول راكب سرجين مثل المتربع على العرشين عرضة للوقوع . حرصت الا تفوتني ثورة ميدان «ابو جنزير». لم ارد ان يسألني احفادي ان طال بي العمر اين كنت في التاسع من مارس 2011 م حين بدأت الثورة؟ ولهذا جئت وطفت، لم ارد ان يحدث لي من الحسرة ما حدث لصديقي الفنان المبدع عثمان وقيع الله في قصيدته الرائعة عن ثورة اكتوبر وكان وقت اندلاعها في السعودية:- ما شهد اليوم وا وجعي لم آنس لثورة ميدان «ابو جنزير» وقوى الاجماع الوطني ان يكون اسم ميدانها غير موفق. ففي حين اندلعت ثورة مصر في ميدان التحرير، وثورة البحرين في ميدان اللؤلوة شاء حظ المناضلين العاثر ان تكون ثورتهم في ميدان «أبو جنزير». ولا يليق بثورة شعب السودان بقيادة الاجماع الوطني -الاسم الحركي لاتباع الحركة الشعبية- ان تنطلق من ميدان «أبو جنزير» وان يكون الثمن المدفوع لها -اذا صدقت الاشاعات - خمسة ملايين دولار لا غير . هدف التظاهرة المليونية ( من الملايين الخمسة لا عدد المشاركين فيها) كانت خادعة : لا لأن الحركة الشعبية تتعمد الخداع فهي حسناء مدللة وراءها من وراءها ان ارادت شيئاً تحقق لها بلا حاجة الى خداع . نحن الذين نمثل دور المخدوعين دائماً. وفي الحديث الشريف: «من خدعك فإنخدعت له فقد خدعك». اما الحركة فلا تجد وجهاً للحرج او التناقض ان تعلن في براءة ان تظاهرتها ترمي لمجرد التضامن السلمي مع ثورتي مصر وتونس والاحتجاج على جنون القذافي. (ولولا هذا الجنون ما قامت الحركة أصلاً) . وفي الوقت ذاته وبقوة عين يعلن الاجماع الوطني «ان استجداء المؤتمر الوطني لقبول التغيير عن طريق الحوار لا يجدي، ولهذا قرر ان يستخدم الوسائل المتاحة لإسقاط النظام، ولتهيئة الجماهير وتعبئتها للإطاحة بالحكم الشمولي لتحقيق الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات». واذا كان هذا هو الهدف الحقيقي فما معنى اقحام سفيري مصر وتونس؟ ثم ماذا سيحدث للثلاثة الآف كادر من الحركة الشعبية الذين هددت بإنزالهم في الميدان، بعد الانتصار؟ هل سيبقون في الشمال لحمايتها؟ وعلى ذكر هذه الدولة اما كان اجدى وانسب لو اتجهت الحركة الشعبية في جهودها الجبارة الموزعة الآن بين دارفور وابيي ومنطقتي المشورة ومليوناتها الخمسة لتحقيق الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات في دولتها المتعثرة الجديدة، التي تحتاج ليس للديمقراطية والقانون فقط، ولكن لأي ملامح دولة تقيها ما تتعرض له اليوم وغداً من عواصف وأخطار؟ نقلاً عن الرأي العام السودانية 10/3/2011