أثيرت نقاشات طويلة حول مؤهلات وجنسية المدير العام القادم لصندوق النقد الدولي . ولكن تلك النقاشات تتسم بأنها طموحات منقوصة . إذ لا بد للقادم الجديد الذي سيتولى المنصب أن تتوفر لديه أهلية المهندس الاقتصادي الأصيل القادر على تصميم إطار مالي دولي حديث . والحقيقة المؤكدة في الوقت الراهن تتمثل في أن النظام العالمي، الذي قادته الولاياتالمتحدة، وتمخض عنه إنشاء صندوق النقد العالمي، انتهى . ولاشك في إن المشكلات الكأداء التي تواجهها كل من اليونان وإيرلندا والبرتغال تجسد حالة خطرة، إلا أن أوروبا قادرة على علاج تلك المشكلات بنفسها . وينبغي على المدير العام الجديد لصندوق النقد العالمي أن يجد حلولاً للتحديات العالمية بعيدة الأجل والأكثر تعقيداً . لقد انتظر العالم، بعد انتهاء الحرب الباردة، أن تتمخض عن الأوضاع الجديدة زعامة عالمية أكثر بأساً وقوة . ولكن المؤسف أنه بدلا من ذلك فإن مرحلة ما بعد تلك الحرب الباردة اتسمت ببروز أوضاع مالية غير مستقرة واستشراء التهرب الضريبي والفساد والتعطل المثير للسخرية الذي أصاب مؤسسة صنع القرار في الولاياتالمتحدة، حيث يمضي ساسة 90 في المئة من أوقاتهم وهم يثمرون أموالهم وينظمون حملات ليس لها تأثير في الحكم سوى بنسبة 10% . ولا يمكن أن يلام صندوق النقد الدولي بالمسؤولية عن هذه الفوضى، ولكنه في الوقت ذاته لم يكن مؤثراً في إصلاح تلك الفوضى . وبقي الصندوق ينظر إلى دوره مقرضاً إلى الاقتصادات الصغيرة . وبقيت نصائحه غير موائمة وغائبة إلى حد كبير عن القضايا العالمية الكبرى مثل الإصلاح المالية والتنظيم المالي وابتداع سياسات ضريبية ناجعة في الوقت الذي كان فيه رأس المال في حركة نشطة . ونحن الآن بحاجة إلى إيجاد هندسة من نوع جديد للاقتصادات العالمية المتداخلة، مع اعتبار الولاياتالمتحدة لاعباً رئيساً، ولكن دون أن تناط بها زعامة العالم . ولكن ماذا ينبغي على المدير العام الجديد القيام به؟ لعل الدور الجوهري الذي ينبغي عليه القيام به هو العمل الحيلولة دون تراجع دور الدولار . ففي حال بقي الدولار العملة الرئيسة والوحيدة فإن العالم سيعاني الانتشار المتكرر لمتاعب أمريكا في أرجاء العالم، كما حدث في العام ،2008 عندما حدث انهيار “وول ستريت" . ولعل الحل المفترض للعقدين المقبلين يتجسد في بناء نظام جديد يستند إلى حفنة من العملات التي لها أهمية إقليمية مثل الدولار واليورو واليوان إلى جانب احتمال اعتماد الريال البرازيلي والروبية الهندية . وحتى يمكن نجاح هذا الاتجاه ينبغي على المجموعات الإقليمية أن ترسخ من تعاونها وأن تتحمل مسؤوليات أكبر تعزيز منتجات القطاع العام وهو بدورها ستقوم بترسيخ عملات إقليمية قوية . ويشمل ذلك إقامة سياسة نقدية مؤثرة وتنظيم مالي وتناغم ضريبي وتطبيق سياسة التعاون المالي وإقامة البنى التحتية المادية . ويستطيع الأوروبيون، وينبغي عليهم أن يرعوا كل تلك السياسات . إن مد يد العون لانتشال اليونان من أزمتها الحالية يثير مشكلات سياسية في ألمانيا، لكن صندوق النقد الدولي لن يكون الجهاز المناسب لحل المشكلات السياسية المحلية التي تعانيها أنجيلا ميركل . كما يتحتم على مناطق إقليمية أخرى أن تبذل جهوداً أكبر لحل مشكلاتها الاقتصادية . فالوطن العربي، على سبيل المثال، ينبغي أن يتخذ إجراءات عملية لتقوية لتقوية التعاون فيما بين بلدانه، والاستفادة من المداخيل النفطية العالية التي بلغت 150 مليار دولار في العام الحالي . كما أن الصين وكوريا الجنوبية واليابان مؤهلة كلها بصورة جيدة لتوفير المساعدة للاقتصادات الأضعف في مناطق آسيا الجنوبية الشرقية، خاصة إذا بدأت مناطق شرق آسيا بالتحرك في إطار تجمع سياسي واحد . وينبغي أن يمتلك المدير العام الجديد للصندوق برؤية وتفويض لدعم تلك المقاربات الإقليمية لتصبح حلولاً بديلة عن الحلول الأمريكية . ولا يزال هناك الكثير الذي يتعين على صندوق النقد الدولي عمله عند الأشخاص الذين يتولون دفة النشاط هناك . ولا يزال العالم زاخراً بالخروج على القوانين والرعونة مع توفر ملاذات للتهرب الضريبي والمناطق الخالية من التنظيم التي تناسب الجشع على مستوى رأس المال النشط عالمياً . وينبغي على رئيس صندوق النقد الجديد أن يمنح المهام التي تمكنه من التخلص من تلك المسارات، مع القدرة على تعزيز التعاون الدولي للحيلولة دون السباق إلى هاوية السياسات الضريبية والتنظيمية التي تهدد الاقتصاد العالمي . وليس لدي أدنى وهم إزاء آفاق نظم العملة واللوائح المالية التي طورها الإنسان . كما أنني لا أتصور أن أي مدير إدارة جديدة لصندوق النقد الدولي سوف يدعم من قبل دول سيادية لاتخاذ قرارات حاسمة بشأن الضرائب والعملة والتنظيمات المالية . وفي اعتقادي أن صندوق النقد الدولي بحاجة إلى قيادة ذات مستوى رفيع . ولن نحتاج إلى مهندس للشؤون المالية أو مجرد سياسي، بل نحن بحاجة إلى مدير إدارة يمتلك الخبرة والحرفية المالية والرؤية والقدرة على توجيه عملية حاسمة خاصة بالتغيير على المستوى العالمي . بقيت عملية تخص اختيار الشخص المناسب . إذ لا يجوز التسرع في التعيين، لأن ذلك سيبدو مرجحاً أنه سيطلق رسالة خاطئة، وسيعني تجاهل الكثير من المرشحين الذين يتمتعون بالحماس لتولي هذا المنصب، وسيثير منطلقاً أخلاقياً غير سليم . ولذلك نقول إن البحث المستفيض يستغرق وقتاً . وينبغي الدفع بأسماء جديدة وغير متوقعة إلى الواجهة، مرشحين يخضعون للتدقيق . وينبغي أن تسمع آراءهم، وينبغي فحص مؤهلاتهم بدقة، وينبغي عدم تجاهل همس يتحدث عن مسالب لدى المرشح لهذا المنصب . وينبغي أن يصبح بحث صندوق النقد الدولي فرصة للاستماع إلى كل إقليم على حدة إزاء التحديات التي يواجهها بسبب التغيرات السريعة ورأيهم في الأزمة التي يواجهها الاقتصاد العالمي . المصدر: الخليج 9/6/2011