أقام السفير البريطاني بالخرطوم - الأحد الماضي - حفل إفطار رمضاني بمقر السفارة البريطانية بالعاصمة السودانية الخرطوم. السفير نيكولاس كاي تمنطق لساناً ناعماً فى تلك الأمسية الخرطومية الماطرة وأطلق لنفسه العنان فى توصيف الشأن السياسي السوداني والمتغيرات السياسية عقب انفصال جنوب السودان، ولكي يضفي ملعقة سكر على الأمسية فانه أعلن عن تخصيص بلاده لمبلغ (200 مليون جنيه إسترليني) للسودان فى مجالات التنمية والبرامج الإنسانية للأربع سنوات المقبلة ، وكان أطرف ما فى حديث السفير كاي تعجبه واستغرابه مما اسماه استمرار النزاع فى جنوب كردفان، فى أيام المغفرة - على حد قوله! - وبالطبع قد يقول قائل ان السفير كاي كان يمارس عمله الدبلوماسي المعتاد باعتبار الدبلوماسية شأناً ناعماً سلساً لا صلة له بما (وراء الكلمات والعبارات) بل وما وراء الأفق البعيد. و ما من شك ان الإفطار البريطاني الذى قصد ملامسة أوتار سودانية هادئة، أهاج فى الأذهان – قصد أم لم يقصد – ما كانت تفعله بريطانيا فى ذات اللحظة هناك فى مقر الأممالمتحدة، حيث تنعقد جلسة مجلس الأمن تحاول فيها لندن و واشنطن وباريس الدفع بمشروع قرار أو بيان رئاسي يدين السودان بشأن ما يجري فى كردفان. لقد كان حينها ما يخرج عن لسان السفير مناقضاً لما يخرج عن رصيفه البريطاني فى نيويورك حيث المحاولة المضنية لإدانة السودان تمهيداً لاستجلاب قوات دولية تحت الفصل السابع وتكبيل و تقييد خطي هذا البلد الى الأبد . ولربما تبسّم الحاضرون فى وجه السفير كاي ظاهراً، ولكنهم دون شك كانوا يبادلونه الاستغراب حول ما تفعله بلاده بالسودان وما يفعله هو بالتحديد من تدخل فى شئون السودان الداخلية فى كتاباته الصحفية واتهاماته للحكومة السودانية باتهامات لا سند لها بما يجري فى جنوب كردفان. الحيلة لم تنطلِ على أحد، حتى فى إطاراها الدبلوماسي وشهر المغفرة الذى جاد به لسان السفير – لسوء حظ السفير وسوء حظ بريطانيا – تجلت آياته فى نيويورك حين فشلت بريطانيا والولايات المتحدة وحليفاتها فى جرِّ مجلس الأمن لإدانة السودان ولو بمشروع بيان رئاسي مخفف ، تلك كانت هى المغفرة التى حاول السفير البحث عنها فى ثنايا إفطاره الرمضاني . ان بريطانيا لم تقف سعادتها عند حد تحقيق حلمها القديم بانشطار السودان منذ قانونها الأشهر (قانون المناطق المقفولة سنة1922) ولكنها تسعي الآن لمزيد من تشطير السودان مستعمرتها السابقة التى استعصي عليها السيطرة عليه ، فخرجت من الباب لتعود او تحاول القفز من النافذة. السفير كاي ونائب القائم بالأعمال الأمريكي – لولا شهر المغفرة هذا لما تسني لأي منهما الحراك وسط حملة السلاح والقوى المعارضة سعياً وراء إعادة إنتاج أزمة السودان انطلاقاً من جنوب كردفان و دارفور ، و لهذا فان استغراب كاي حول استمرار النزاع فى جنوب كردفان هو استغراب جاني من مجني عليه؛ وهو أغرب أنواع الاستغراب !