عرفت الدبلوماسية بأنها فن وممارسة اجراء المفاوضات والعلاقات المنظمة بين البلدان، في إدارة شؤون الدولة وتنفيذ سياستها الخارجية، ولذلك اعتمدت الأعراف الدبلوماسية على مواصفات خاصة للسفراء: «المصداقية والدقة والإحتراز والحنكة وحسن التصرف والسلوك والتعاطي في الحياة الاجتماعية» للقيام بهذه المهمات الناعمة، فالسفراء ليسوا أجانب عاديين، فهم ممثلون لبلدانهم ولهذا فإن أي هجوم على السفير يعتبر هجوما على بلاده قد يؤدي الى توتر العلاقات بين البلدين. وأول من أمس استدعت وزارة الخارجية، السفير البريطاني بالخرطوم نيكولاس كاي، على خلفية ما تضمنته مدونته الشخصية من حديث حول الأوضاع في السودان، نشرت الصحف المحلية جزءا منه، وقال السفير في المدونة: إنه لم يكن مندهشا من اندلاع مظاهرات في الاسابيع القليلة الماضية بالعاصمة الخرطوم احتجاجا على ارتفاع اسعار السلع الغذائية «في بلد يتفشى فيه الجوع»، وفتح استدعاء السفير البريطاني الباب امام العديد من التساؤلات اهمها هل يتسبب هذا الموقف في خلق ازمة دبلوماسية بين الخرطوم ولندن، ام ان اعتذار السفير البريطاني يكفي لتجاوز ?ذه المحطة.؟ لم يُرض حديث نيكولاس كاي الحكومة السودانية ممثلة في وزارة الخارجية، التي لم تتوان في استدعائه، ومساءلته عما بدر منه، حيث أبلغ وكيل وزارة الخارجية، رحمة الله محمد عثمان، السفير البريطاني أن كثيراً من المعلومات التي تضمنتها مدونته إما أنها غير دقيقة أو أنها لم توضع في سياقها الموضوعي، وشددت الوزارة في بيان لها أن أبواب وزارة الخارجية ظلت مفتوحة لبحث الموضوعات التي تشكل محلاً للاهتمام المشترك، وأن غالب الموضوعات التي يبحثها السفراء ليس محلها المصادر المفتوحة. وكان السفير البريطانى نيكولاس كاي قال في مدونته: إن الخرطوم تكافح من أجل احتواء أزمة اقتصادية مع ارتفاع معدلات التضخم بعد استحواذ جنوب السودان على معظم انتاج البلاد من النفط المصدر الرئيس للعائدات، انها تتفادى ثورة على غرار ما حدث في مصر ودول أخرى في شمال افريقيا الا ان الغضب الشعبي يتزايد بسبب ارتفاع اسعار المواد الغذائية ما أثار احتجاجات محدودة في العاصمة خلال الاسابيع القليلة الماضية، وقال كاي «لا عجب أن تشهد الخرطوم مثل هذه الاحتجاجات» وكتب كاي في المدونة التي نشرت على موقع السفارة على الانترنت قائمة ضمت العديد من المواد الغذائية الضرورية التي ارتفعت اسعارها بشدة وقال «لست في حاجة للسفر الى أطراف السودان لترى الجوع فالحياة اليومية في الخرطوم تزداد صعوبة» وقال: إن الخرطوم تجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للمدنيين من خلال منع دخول وكالات الاغاثة لولايتي جنوب كردفان والنيل الازرق الحدوديتين حيث يحارب الجيش جماعات المعارضة المسلحة، وتابع السفير البريطاني «الحروب هناك تتواصل دون أي بادرة في الافق على نهايتها، والمدنيون يعانون بينما يضحي القادة بالارواح بدلا من الجلوس على الطاولة في ولايات ينبغي أن تزرع ?ينمو فيها الغذاء من أجل معظم السودان وجنوب السودان فإن الحقول مهجورة، والبذور المرة للجوع في المستقبل تنثر هناك» كما انتقد كاي أيضا اغلاق بعض الصحف في السودان في الاونة الاخيرة في اطار فرض قيود جديدة على وسائل الاعلام بينما لا يلوح في الافق أي تقدم بشأن قضية منطقة ابيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب.» الخارجية السودانية بعد استدعائها للسفير البريطانى يبدو انها احتوت الأزمة وقالت إن نيكولاس كاي عبر عن أسفه لما يمكن أن يكون قد أحدثته كتاباته الخاصة من سوء فهم لمقصده، واوضح أنه ليس من قناعته أو سياسة بلاده إحداث سوء تفاهم مع حكومة السودان، وقال إن مقصده هو توضيح رؤيته لمجريات الأحداث وليس بث مادة من شأنها أن تكون موضوعاً للصحف المحلية، ووعد بأنه سيكون أكثر حذراً وحرصاً على الحصول على المعلومات من مصادرها. وفى السياق ذاته تكثفت الجهود لإذابة الجليد وإعادة الصفاء بين البلدين، وواصل السفير نيكولاس كاي مساعيه لإحتواء الموقف والتقى بالمتحدث باسم المؤتمر الوطني، إبراهيم غندور، بالمركز العام للمؤتمر الوطنى، واكد السفير دعم بلاده لعمل لجنة الاتحاد الافريقي عالية المستوى برئاسة ثامبو امبيكي، ومن جانبه اوضح غندور في تصريحات صحفية أن اللقاء بحث الأوضاع الحالية في السودان ورؤية المؤتمر الوطني حولها، وأشار لعدم وجود رؤية محددة لبريطانيا بشأن هذه القضايا. تجدر الأشارة الى ان السفير البريطاني تحدث قبل ذلك عن موضوعات سودانية داخلية وقال في حوار سابق مع «الصحافة» عما كتبه في مدونته الخاصة من انه في حال استمرار السودان في الانفاق العسكري والامني بالكيفية الحالية التي قال عنها إنها عالية جدا، ولن تساعد في مسألة ديون السودان، هل هذا هو رأيه الشخصي ام رأي الحكومة البريطانية وهل مازال عند رأيه؟، فقال كاي : «إن ما كتبته يمثل رأي الحكومة البريطانية ايضا، واعتقد انه ليس رأي بريطانيا لوحدها واي شخص يرى الارقام، يرى ان هنالك عدم توازن في الانفاق، فالانفاق على الامن والع?كر والمخابرات كثير جدا وربما في السابق هنالك اسباب سياسية تبرر ذلك، ولكن الآن هناك التعليم والصحة والوظائف والكهرباء التي يحتاجها الناس، واعتقد ان اي اقتصادي سيكون ذلك من رأيه، وكثير من المسؤولين الحكوميين يقولون ذلك، ولا اعتقد انه موضوع جدلي». وفي تصريح ل «الصحافة» قال الناطق الرسمي باسم الخارجية العبيد مروح انه لم يتم استدعاء السفير البريطاني نيكولاس كاي الا بعد تكرار الحادثة، وبعد ان اضحى الحديث منشورا ومملوكا للرأي العام في الصحف المحلية، واوضح المروح انه في حال كتابة السفير البريطاني تقارير عن احوال السودان ورفعها لبلاده وكانت محجوبة عن الرأي المحلي فإن ذلك لا يعنينا في شيء ولكن اضافة الى ذلك كانت المعلومات غير صحيحة واصبحت بمنطق العرف الدبلوماسي تدخلا في الشأن الداخلي للدول، وقال المروح: مسموح في العرف الدبلوماسي ان تكتب اى شيء وترفعه في ?كل تقارير الى بلدك، ولكن السفير البريطاني لم يكتب ذلك بيد انه تحدث عن قضايا محلية ولم يتحدث عن قضايا ثنائية تهم البلدين يكون الحديث فيها مقبولا، الا ان السفير تحدث عن قضايا محلية تخص السودان وهي التي تم استدعاؤه بموجبها لان ذلك حسب الاعراف الدولية يعد تدخلا في الشأن الداخلي لدولة ذات سيادة، واكد العبيد ان الخارجية لم تستدع السفير البريطاني الا بعد إطلاعها على موقع المدونة، وانهم لم يكتفوا بالحديث الذي نقلته الصحف، وقال المروح ابلغناه ان مهمة السفير تحسين العلاقات بين البلدين وليس الإساءة وانما العمل سوياً،?واوضح المروح ان نيكولاس كاي ابان لهم انه لم يرم للاساءة وقصد من ذلك الكتابة لمجتمع آخر على حسب قوله، ودلل على ذلك فى آخر فقرة من المدونة قال إن الصحف لم تبرزها واعتبر ذلك نتيجة لسوء في النقل والترجمة. وفي حديثه ل»الصحافة» قال السفير السابق الدكتور الرشيد ابوشامة: انه ليس من حق السفير في الخدمة ان ينشر مدونته ومذكراته على الملأ مادام في الخدمة لانه حالياً يمثل بلاده في كل خطوة يقوم بها، وان مثل هذا التصرف قد يلقي بظلال سالبة في العلاقة بين البلدين، ووصف ابو شامة تصرف السفير البريطاني بالخاطئ، وقال: إن من حق السفير ان يكتب تقارير سرية لدولته عما يدور في البلد الموجود فيه، ولكن ليس من حقه ان ينشرها لكل العالم، وقال ابو شامة ان إجراء استدعاء السفير البريطاني صحيح من قبل الخارجية وانه اعتذر عن ذلك، وتابع :?كان يمكن للحكومة ان تطالب بابعاده لكنها احتوت الأمر وقبلت بالإعتذار حفاظاً على العلاقات بين البلدين حتى لا يحدث اي توتر، وقال ابو شامة: ان موقفه هذا سيصل الى دولته وانه ايضاً لابد ان يكتب تقريرا عما حدث، واكد ابو شامة ان إجراء استدعاء السفير حاسم ودبلوماسي معروف فى الاعراف الدبلوماسية.