تحليل سياسي تحاول حكومة جمهورية جنوب السودان قلب القواعد العامة فى مثلث أبيي المتنازع عليه بمطالباتها – بإلحاح – بانسحاب الجيش السوداني من هناك على وجه السرعة. الجانب السوداني قال انه لم يمانع فى الانسحاب ولكنه سيفعل ذلك حين يكتمل وصول القوات الاثيوبية المتفق على انتشارها هناك والقيام بدور الرقابة وفقاً لما اتفق عليه الجانبان الجنوبي والسوداني الى حين حل النزاع. ومن المعروف فى هذا الصدد ان القوات الاثيوبية وإن وصلت طلائعها - قبل أسابيع قلائل – إلا أنها بالفعل لم تصل رسمياً بالعدد المتفق عليه. المعادلة التى تريد جمهورية جنوب السودان قلبها هو أنها تطالب بانسحاب الجيش الحكومي، وكأن الجيش الحكومي لا يملك الحق –أصلاً – فى البقاء هناك؛ أو كأن الجيش السوداني قد احتل أرضاً أجنبية وليست أرضاً تقع ضمن حدود سيطرته! لقد كانت المعادلة فى السابق ان أبيي منطقة متنازع عليها بين الطرفين ومن ثم تظل تحت أمرة رئاسة الجمهورية فى السودان تشرف عليها قوة مشتركة مكونة من الجانبين. الجانب الجنوبي خرق هذه القاعدة حين فتح النار – دون اى مقدمات – على القوات الحكومية المشتركة وقوات الأممالمتحدة (اليوناميس) ووقعت فوضي وحالات نزوح وسقط قتلي وجرحي كما هو معروف فى مارس الماضي، بما جعل من قضية القوات المشتركة هذه غير فاعلة ولا جدوي منها عقب خرق الجانب الجنوبي للإتفاق، ففي السياسة دائماً لا يصلح الترقيع والرتق وحشو الفراغات! وهى قضية أمنية بالدرجة الأولي وشديدة الحساسية لهذا كانت سيطرة الجيش السوداني على المنطقة -كما أوضح قادته بوضوح- بمثابة محافظة علي الأمن والحيلولة دون وقوع أحداث كهذه ربما تجرّ المنطقة لكارثة الجميع في غني عنها. لم يقل الجيش السوداني حينها ولا فى مرحلة لاحقة أنه باقٍ هناك ؛ هو قال ان وجوده فى المنطقة مرتبط فقط بوصول وإكتمال وصول القوات الاثيوبية المكلَفة بالمراقبة وهو ما لم يحدث حتى الآن ، فما الذى يستدعي والحال هذه مطالبة الجيش السوداني بالانسحاب فى ظل ظروف كهذه؟ إن مثل هذه المطالبة بهذا الإلحاح - مقروءة مع ما جري من قبل من خرق - يعني ان الجانب الجنوبي لديه (نوايا سيئة) حيال القضية، إذ ربما يريد انتهاز فرصة خروج الجيش السوداني ودخوله هو الى جانب القوات الاثيوبية، فطالما أنه خرق اتفاقاً أمنياً واضحاً من قبل فما المانع ان يكرر ذلك؟ الامر الثاني ان تبعية أبيي للرئاسة لم تسقط حتى الآن وهو ما يعطي الرئاسة السودانية سلطة تقديرية حيال أمن المنطقة وحسن إدارتها، ذلك ان القوات الاثيوبية مكلفة فقط بمراقبة الأوضاع والحيلولة دون وقوع اصطدام بين الجانبين انتظاراً لحل النزاع فى المستقبل، ولكن كل ذلك لا يعني ان سلطة تبعية المنطقة قد انتقلت الى القوات الاثيوبية. لكل ذلك فان الجانب الجنوبي إنما يمارس نوعاً من التضليل بمطالبته بالانسحاب هذه، ولمفارقات القدر وسخرياته ان الجانب الجنوبي -حتي هذه اللحظة- يحتفظ بفِرَق، وليس مجرد كتائب أو سرايا فى جنوب كردفان تتبع له! يفعل ذلك بكل جرأة ولا يطرف له أى جفن فى مطالبة الجيش السوداني بالانسحاب من أراضي شمالية! إن أزمة أبيي الحقيقية التى تتحاشاها حكومة جمهورية الجنوب هى أزمة حل نهائي. حل ينهي تبعيتها عن طريق الاستفتاء او عن طريق تسوية سياسية ولكنها ليست بحال من الأحوال أزمة بقاء أو انسحاب جيش سوداني !