من خارج سياق حالة التوتر الدائم السائدة في العلاقات بين الخرطوموواشنطن، ومن غير سابق إنذار أو تمهيد، بدأ مسؤولون رفيعو المقام في إدارة الرئيس باراك أوباما في الإعلان عن مواقف سياسية تجاه تطورات الأوضاع في السودان من الواضح أنها بقدر ما أراحت أعصاب حزب المؤتمر الوطني وانعشت آماله في البقاء، فقد أثارت سخط ويأس خصوم الحزب الحاكم من رؤيته خارج لعبة السلطة في وقت قريب. جاء الموقف الأول غداة زيارة دينس ماكدوناه نائب مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي رفقة المبعوث برنستون ليمان للخرطوم وجوبا في مطلع الأسبوع الثالث من الشهر المنصرم، والذي طالب فيه بيان صادر عن البيت الأبيض حكومة جنوب السودان "بضرورة احترام سيادة السودان، بما في ذلك التوقف عن دعم الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال في جنوب كردفان والنيل الأزرق"، في محاولة لتوفير السبل الكفيلة لإحراز تقدم في حل ما تبقى من مسائل عالقة في اتفاق السلام الشامل. وما من شك أن هذا الموقف الأمريكي سجل نقاطاً مهمة لصالح الخرطوم التي تُحاول جاهدة حسم التمرّد في "الجنوب الجديد" بأقل تكلفة ممكنة قبل ان تتورّط في حرب شاملة تحقق أسوأ مخاوفها من الوقوع في براثن "السيناريو الأسوأ" وخسارة رهان "الانفصال مقابل السلام". الموقف الآخر الذي أثار ارتياح النخبة الحاكمة، وأقض مضجع خصومها، تصريحات المبعوث الرئاسي الأمريكي برنستون ليمان في حواره مع صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، التي استعاذ فيها من أن تغشى ثورات الربيع العربي السودان قائلاً بلا مواربة " ليس هذا جزءًا من أجندتنا في السودان. بصراحة، لا نُريد إسقاط النظام، ولا تغيير النظام. نُريد إصلاح النظام بإجراءات دستورية ديمقراطية". الخبر الجيّد الآخر للخرطوم في مواجهة تحالف الجبهة الثورية السودانية، إعادة ليمان للتأكيد أن "حكومة الولاياتالمتحدة تُعارض العمل العسكري ضد حكومة السودان، وتراه مثيراً لمزيد من الحروب والمشاكل، ومهدّداً كيان ووحدة السودان، ويُمكن أن ينتقل إلى الجنوب، ويُهدّد كيانه ووحدته. لهذا، نحن حريصون على وحدة السودان (الشمالي). وندعو كل الأطراف إلى العمل لتحقيق ذلك سلمياً". وبعيداً عن ارتياح الطبقة الحاكمة، أو ابتئاس معارضتها، كيف يُمكن قراءة ما وراء التصريحات الأمريكية المعلنة أخيراً تجاه الوضع في السودان بشقيه الشمالي والجنوبي، وهل تحمل تحوّلاً جديداً على صعيد المواقف السياسية لواشنطن بحيث نرى لها انعكاساً على الوضع في المستقبل المنظور، أم لا تعدو أن تكون مجرّد لغة جديدة ناعمة تغلف مواقف سابقة معلومة؟. في الأسبوع الماضي اجتمع دان سميث نائب المبعوث الأمريكي والمسؤول عن ملف دارفور في واشنطن بممثلين لأحزاب وجماعات المعارضة السودانية المقيمين في الولاياتالمتحدة، وهو اجتماع حسب وصف أحد السودانيين المعنيين به أنه غير مسبوق، وكان لافتاً بجانب تأكيده للمواقف الأمريكية السابقة بشأن رفضها للعمل العسكري المعارض ورفضها التدخّل على غرار النموذج الليبي والمطالبة بفرض حظر جوي على الرغم من إلحاح بعض أطراف الاجتماع السودانية، استمزاجه لرأي المجتمعين في إمكانية لعب الولاياتالمتحدة دوراً مؤثراً في تشكيل دستور جديد للسودان. ويبدو من سياق ما سبق أن سياسة الولاياتالمتحدة ليست في وارد القبول بتكريس سلطة الأمر الواقع في السودان، كما ذهب إلى ذلك المسؤول السياسي في حزب المؤتمر الوطني الذي صرّح في تعليق له على حوار المبعوث الأمريكي بأن "واشنطن فشلت طوال اثنتين وعشرين عاماً على إسقاط الحكومة الحالية، وربما توصلوا الآن إلى قناعة بالأمر الواقع". وما أعلنه المبعوث الرئاسي الأمريكي صراحة لا يُؤكّد هذه الفرضية، أي القبول بالنظام الحاكم بوضعه الراهن، بل يدعو إلى إلى إصلاحه وهي درجة من درجات التغيير ولكن لا تصل بالطبع إلى حدّ القبول بالأمر الواقع أو الإطاحة الكاملة بالنظام. والخيار الذي تحدّث عنه ليمان هو المفاضلة في أسلوب التغيير وليس عن الحاجة إليه من ناحية مبدئية، فواشنطن لا ترغب في تغيير عنيف يخلط الأوراق، بل تُريد تغييراً سياسياً سلساً يضمن لها السيطرة على مجريات الأمور في بلد لا تنقصه الأزمات ولا التعقيدات. وليس صعباً تحليل دوافع واشنطن في عدم تحبيذها لحدوث تغيير خارج السيطرة، فمن جهة لا تُريد لنموذج الربيع العربي أن يكون وسيلة التغيير في السودان لأنها ببساطة لا تُريد تكرار تجربة تلك البلدان العربية التي فوجئت باندلاع الثورات فيها ووجدت نفسها مضطرة للتعامل مع مخرجاتها ولم تملك إلا خيار التعاطي معها والقبول بها على مضض، وهو ما أفقدها بالطبع القدرة على التأثير على مجريات الأحداث وتوجيه أجندتها والتحكم في مصائرها. وكان ليمان صريحاً وهو يقول: إن تكرار نموذج الربيع العربي "بصراحة ليس من أجندتنا في السودان". والمشكلة هنا بالطبع أنه فات على واشنطن أن الثورات عندما تندلع فإنها لا تأخذ إذناً من أحد، فالثورة لا تُصنع من عدم، فالمعارضة لا تستحدثها كما أن الحكومة لا تفنيها، والخارج لا يمنعها. نقلا عن الراية 12/12/2011