لسان حال الشارع السوداني اليوم بعد الهجوم الإسرائيلي على مصنع اليرموك يقول إن من (يتكل) على الجامعة العربية فإنه حتماً (يتكل) على (طوفة هبيطة).. السبب أن اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية في القاهرة في (12) نوفمبر الجاري الذي سيرأسه وزير خارجية لبنان سيناقش (4) قضايا وصفت بأنها رئيسية ليس من بينها قصف (إسرائيل) لمصنع اليرموك السوداني في (25) أكتوبر الماضي.. لم يحرك قصف اليرموك في الجامعة العربية ساكناً ولم تتداع له وتعقد اجتماعاً طارئاً لمناقشة العدوان ليس بالطبع لمعاقبة (إسرائيل) فذاك حلم بعيد المنال ولكن فقط للشجب والإدانة.. الطامة الكبرى أن الجامعة (المضطربة) لم تعقد اجتماعاً طارئاً فحسب، بل إن أجندت اجتماعها العادي الذي يصادف انعقاده مرور (18) يوماً بالتمام والكمال على الاعتداء الإسرائيلي لم تتضمن مناقشة ذلك الاعتداء.. القضايا الأربع (الأكثر أهمية) من العدوان الإسرائيلي على السودان هي: الملف السوري الذي اختطفه مجلس الأمن دون أن يقدم فيه شيء، وقد أصبح فيه مبعوثه "الأخضر الإبراهيمي" (رايح جاي) من دون فائدة مثله مثل سلفه المبعوث السابق "كوفي عنان" الذي أعيته الحيلة فاستقال، القضية الثانية محل الاهتمام هي تطورات القضية الفلسطينية والتحرك العربي لدعم المسعى الفلسطيني للحصول على صفة الدولة غير العضو بالأممالمتحدة، ونتائج الحراك الفلسطيني في هذا الشأن، أكثر من نصف قرن من الزمان والجامعة العربية (تلت وتعجن) في القضية الفلسطينية دون جدوى.. أما القضية الثالثة تتعلق بالتحضير العربي النهائي لمؤتمر الأممالمتحدة لإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، والمقرر عقده في هلسنكي ديسمبر المقبل، ويبدو أن العرب سيجبرون (إسرائيل) في هذا المؤتمر على تدمير ترسانتها النووية، أما القضية الرابعة ستختص بالتنسيق العربي وبلورة الرؤية العربية للصيغة النهائية لمشروع إعلان القاهرة الذي سيصدر عن الاجتماع المشترك الثاني لوزراء خارجية الدول العربية ودول الاتحاد الأوروبي، والمقرر يوم 13 نوفمبر، فكم من الإعلانات العربية التي أصبحت هشيما تذروه الرياح؟! كذلك فإن ثمة تساؤلات تعتمل في الشارع السوداني؛ معلوم أن الطائرات الإسرائيلية المعتدية اتخذت من أجواء المياه الدولية في البحر الأحمر سبيلاً للوصول إلى السودان، هذا إن كانت قد انطلقت بالفعل مباشرة من فلسطينالمحتلة.. لكن ما قبل البحر الأحمر شمالاً أي خليج العقبة وما حوله، فمن أين مرت الطائرات المعتدية؟، يقال إن هناك مسارا واحدا وهو من فوق خليج العقبة، ومن ثم عبر أجواء مضائق تيران، ثم البحر الأحمر.. طبعا خليج العقبة كان مغلقا أمام الملاحة الإسرائيلية قبل عام 1956 لأنه مياه عربية.. لكن حتى إذا ما سلمنا جدلاً بدعاوى حق (إسرائيل) في المياه الدولية على خليج العقبة، فكيف تمر الطائرات الحربية الإسرائيلية من فوق مضائق تيران وهي أجواء سعودية ومصرية بحتة ولا شأن للقانون الدولي بها؟. رغم أن الحكومة السودانية سارعت بقولها إنها لا تتهم أي طرف آخر بتقديم المساعدة والدعم للطيران الحربي وقد نتفق معها في عدم إمكانية ورود اتهام من هذا النوع لدولة عربية، لكن ألا توجد لدى مصر والسعودية رادارات وأجهزة مراقبة لمعرفة وجهة الطائرات الإسرائيلية؟. هل يمكن أن تعبر الطائرات الإسرائيلية هكذا دون أن يتم التعرف عليها وتعقبها؟ من جهة ثانية يحاول كثير من العرب تفسير مواقف السودان السياسية تجاه الدول الأخرى، وهي مواقف في نظرهم تُثير الدهشة؛ لأنها تتعارض مع (قوانين) السياسة والمصالح الدولية.. (الوفاء السوداني) ونصرة الضعيف عندما يكون مُكلّفاً ينظر إليه أولئك باعتباره نوعاً من (العَبَط).. الضعف قد لا يكون قلة حيلة أو نقص في القوة، ولكن قد يتمثّل في الإصرار على موقف بعينه تترتب عليه عزلة يفرضها الآخرون.. في السياسة الدولية والإقليمية كثير من النماذج والأمثلة جعلت السودان يتحمل كُلفا سياسية باهظة.. لن نذهب بعيداً في التاريخ، ففي عهد الرئيس السوداني الأسبق "جعفر نميري"؛ وحينما ذهب الرئيس المصري الأسبق "أنور السادات" بعيداً وفاجأ العالم وزار (إسرائيل) وخاطب الكنيست (البرلمان) في جلسته الخاصة رقم 43 بتاريخ نوفمبر من العام 1977م.. حينها هبّت عاصفة سياسية عاتية على مصر من محيطها العربي، ونُقلت منها الجامعة العربية إلى تونس، ووضعت في عزلة تامة.. بالمقاييس والمعايير السياسية في ذلك الوقت، فإن موقف الدول العربية كان صحيحاً.. لكن (الكاريزما) السودانية أبت إلا أن تقف بجانب مصر (الضعيفة) والمعزولة، ولم يجار "نميري" الدول العربية رغم موقفه المتماثل مع مواقفها من اتجاه مصر المنفرد نحو (إسرائيل).. كلّف ذلك الموقف السودان الكثير لكنه كان موقفاً نابعاً من (وفاء) خاص على الطريقة السودانية ونصرة الضعيف.. تكرر الأمر في العام 1990م عندما احتل العراق الكويت، وكان بالطبع تصرفاً غير مبرر وخرقاً لكل الأعراف والمواثيق الدولية، وقوبل ذلك بهجمة دولية وعربية فيها استنكار كبير لتصرف العراق.. رغم أن الكويت كانت ضعيفة ومعتدى عليها، إلا أن الوقفة العالمية بجانبها جعلت من العراق في نظر السودان هو الأضعف في مواجهة العالم كله.. مرة أخرى وقف السودان بجانب العراق، وتحمل كلفة سياسية كبيرة مازالت آثارها باقية.. (كاريزما) الشخصية السودانية هي التي تغلبت على الحسابات السياسية وربما المنطق في كلتا الحادثتين رغم اختلاف النظام الحاكم؛ ففي المرة الأولى كان نظام (مايو) برئاسة "نميري" وفي المرة الثانية كان نظام (الإنقاذ) برئاسة "عمر البشير".. تذكرت كل ذلك، وأنا أتمعن في حادثة الاعتداء الإسرائيلي الأخير على مصنع اليرموك في محاولة لتحليل ما يحدث.. بالطبع الاعتداء على اليرموك كان الثامن من نوعه منذ العام 2009م.. في كل المرات كان المعتدي الكيان الإسرائيلي، والتهمة دعم السودان لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي لم تجد لها نصيراً في زمن التصاغر.. هذه المرة الكلفة عالية الثمن؛ لأن الموقف من (حماس) أدى لمواجهة مباشرة مع (إسرائيل).. صحيح أنه لا مجال للمقارنة بين خطورة المفاعل النووي الإيراني على (إسرائيل) وبين دعم السودان لحركة (حماس)، لكن السودان هو الهدف الأسهل، وكما يقول المثل السوداني: (دق القراف خلى الجمل يخاف). المصدر: الشرق القطرية 3/11/2012م