ظلت الأوضاع تتدحرج وتزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، بدءاً منذ بروتوكول أبيي وملحقة اللذين أعطيا ملكية الأرض وحق الاستفتاء لعمديات دينكا نقوك دون إشارة لقبيلة المسيرية بثقلها السكاني وحقوقها المشروعة، مروراً باللجنة التي كلفت بتحديد منطقة أبيي التي زادت الأمر تعقيداً بضمها أراضي ديمغرافية لا علاقة لها بإدارية أبيي منذ نشأتها، ثم توالت التعقيدات الأمنية والسياسية والإدارية وخلاصتها ضحايا بالعشرات إن لم يكن بالمئات في كل حادثة، إلي أن كشفت منظمة "إينوف إز إينوف" الأميركية أمس الأول عن وجود "660" عنصراً من جيش دولة جنوب السودان في أبيي بحسب إحصاء رسمي أعدته قوة حفظ السلام "يونيسفا" المنتشرة هناك، وحذرت المنطقة الأميركية من انفجار الأوضاع هناك، وأعربت عن مخاوفها من أن يؤدي وجود هذه العناصر في مسارات الرحلة الموسمية لقبيلة المسيرية لمواجهات عسكرية محتملة، ولفتت إلي أن هذه القوات قد حفرت خنادق في مناطق وجودها، مما يرسل إشارة بتوقع "عمليات عسكرية" وأشارت المنظمة إلي أن المواجهات المحتملة بين المجموعتين ربما توقد إلي توسعة نطاق الحرب بين الدولتين "السودان وجنوب السودان"، إذا لم يتدخل المجتمع الدولي بشكل فوري، مناشدة الطرفين سحب قواتهما خارج حدود منطقة أبيي تجنباًَ للصراع. في المقابل رفض جيش دولة جنوب السودان التقارير التي تتحدث عن وجود عناصر من قواته حول منطقة أبيي المتنازع عليها بين الخرطوموجوبا، ووصف تلك التقارير بأنها مجافية للحقائق علي الأرض، وقال المتحدث الرسمي باسم جيش جنوب السودان فيليب اقوير لصحيفة "الشرق الأوسط" إن "التقارير التي تحدثت عنها منظمة (كفاية) الأميركية بوجود عناصر من قواته في أبيي غير حقيقية، ومجافية للحقائق علي الأرض"، مشدداً علي التزام جيش بلاده بالاتفاقيات حول أبيي، قائلاً :"إذا وصلتنا هذه التقارير بصورة رسمية سنتعامل معها، ونؤكد أن قواتنا غير موجودة إطلاقاً في أبيي أو حولها"، ومن جانبه جدد مجلس الأمن الدولي، إعرابه عن قلقه الشديد إزاء تقلب الأوضاع الإنسانية في منطقة أبيي الغنية بالنفط، والمتنازع عليها بين دولتي السودان، وأدان المجلس، في بيان صحفي أمس، الاشتباكات الأخيرة بين عناصر مسلحة والتي أسفرت عن تشريد وسقوط ضحايا من المدنيين، فيما أثني أعضاء المجلس علي شجاعة ومهنية أفراد قوة حفظ السلام المؤقتة في أبيي، لافتين إلي دعمهم استخدام "يونيسفا" جميع الوسائل اللازمة للحفاظ علي الأمن في المنطقة، وطالب أعضاء مجلس الأمن، جنوب السودان ب "السحب الفوري لقوات الجيش الشعبي من منطقة أبيي، وأفراد الشرطة من منطقة دفرا"، وأشار البيان في هذا الصدد إلي قرار المجلس السابق رقم 2046 (2012)، والذي يدعو السودان وجنوب السودان إلي تنفيذ الجوانب المعلقة من اتفاق 20 يونيو 2011، والخاصة بالترتيبات المؤقتة للأمن والإدارة في منطقة أبيي، وجعلها منطقة خالية من الأسلحة، كما حثث المنطقة الاتحاد الأفريقي علي المساعدة في إجراء عملية مصالحة شاملة بين قبيلتي "الدينكا نقوك" و"المسيرية". لكنها طالبت في ذات الوقت بإنهاء ونشر التحقيق الذي تقوم به لجنة تابعة للاتحاد الأفريقي كلفت بالتحقيق في مقتل زعيم قبيلة "الدينكا نقوك" كوال دينق،وشكلت منطقة "أبيي توتراً في العلاقة بين الخرطوموجوبا منذ انفصال الأخيرة، ولكن تحسنت العلاقات في أعقاب تغيير رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت حكومته في يوليو الماضي، وهو ما رحبت به حكومة الرئيس السوداني عمر البشير، لكون حكومة كير الجديدة جاءت خالية من العناصر التي تصفها الخرطوم بالمتشددة أو التي تقف وراء توتير العلاقات بين البلدين، ولكن بالرغم من أن زيارة الرئيس البشير إلي جوبا، شكلت بارقة أمل جديدة في مسار العلاقات بين دولتي السودان، إلا أن الخلاف بشأن أربع مناطق حدودية متنازع عليها بين البلدين، لا يزال بانتظار مزيد من الحوار بين (الخرطوم، وجوبا)، حيث إن المراهنة علي عامل الزمن في حسم ملفي أبيي والحدود. بدأت واضحة في عبارات الرئيسين البشير وسلفاكير حينها، التي أعقبتها توجيهات من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، تدعو الجانبين إلي التسوية النهائية لملف النزاع بشأن منطقة (أبيي)، كما طالبت الدولتين بالمحافظة علي الزخم الإيجابي من زيارة البشير إلي جوبا، والتي مثلت بحسب المعطيات خطوة مهمة في مشوار الآلف ميل باتجاه علاقات طبيعية بين البلدين، لكن تأثيرات المدى الزمني الطويل علي سير أعمال لجان التفاوض، حول أبرز القضايا في أبيي والحدود يراه الكثيرون سلبياً. وربما مستنزفاً لأعصاب المهتمين، بينما ينظر إليه آخرون بأنه فرصة للوصول إلي تطبيع كامل في علاقة الطرفين وتحذيراً للثقة للنظر في المتبقي من القضايا بلا تشنج، وما يعضد من هذا الرأي، أن القضايا العالقة كلها ترتبط بإجراءات فنية، ولجان ذات طابع مختص، وبحسب المراهنين علي عامل الوقت فإن العامل الزمني يخدم القضايا العالقة وليس العكس، كما أن القضايا العالقة ليست أمراً مطلقاً خصوصاً ملف الحدود، حيث إن المتبقي فيه هي المناطق المتنازع حولها، وتري التحليلات أنه لا يمكن حسمها إلا عبر مسارين، إما التفاوض والحوار الجاد المثمر الهادف. أو اللجوء للمحاكم الدولية، خصوصاً أنه لم يحدث أي اختراق لملف أبيي منذ القمة الأخيرة بين البشير وسلفاكير، التي كشفت عن تبني الخرطوموجوبا لفلسفة جديدة في حل القضايا تعمل علي ترك الملفات العالقة مرهونة بالزمن، في حين تقومان بتحريك ملفات أخري، مما دعا البعض إلي دمغ الحكومتين باللعب علي أعصاب الجماهير في المناطق المتنازع عليها، بهدف خلق حالة من عدم التوازن النفسي، التي تتيح لهما إحكام السيطرة علي مقاليد الحكم. نقلا عن صحيفة الخرطوم 19/3/2014م