تعتبر مسالك الملاحة الدولية من العناصر البارزة للخريطة الاستراتيجية في العالم وخاصة في الشق المتعلق بالمعابر والقنوات مثل قناة السويس. وتكتسب بعض الدول قوتها ومكانة دولية بل وتاريخية من خلال إشرافها على قنوات بحرية معينة تكون حاسمة في النقل العالمي. وبدأ العالم يشهد خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تغيرات في الملاحة الدولية من خلال ظهور خط بحري جديد يمر بمحاذاة القطب الشمالي الذي كان مغلقا في وجه الملاحة بسبب الثلوج ثم بدء تخطيط نيكاراغوا لشق قناة جديدة قد تكون بديلة عن قناة بنما. وتسارع مصر الى توسيع قناة السويس حتى لا تفقد قيمتها الاستراتيجية خلال العقد المقبل في ظل هذه التحولات. روسيا نحو خط بحري بديل لقناة السويس وخلال عام 2013، كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مناسبات متعددة عن رغبة بلاده في إنشاء وتعزيز طريق بحري جديد للملاحة العالمية مستغلا ذوبان الجليد في القطب الشمالي نتيجة التغيرات المناخية الحالية. والخط سيسمح بالإبحار من جنوب شرق آسيا مرورا عبر اليابان والصين وروسيا ثم فنلندا والنرويج والاتجاه نحو الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة وحتى أمريكا اللاتينية. وتفيد تقارير العلماء من المختصين في الجو أن ذوبان الجليد سجل خلال فصلي الصيف الماضيين مستوى لم يسبق تسجيله لعقود من الزمن. وتفيد دراسة بريطانية أن القطب الشمالي فقد 39 في المئة من جليده خلال الأربعين سنة الأخيرة وأنه مرشح للمزيد، وهو ما سيسهل الملاحة مستقبلا بشكل مريح نسبيا شمال القطب. وعمليا، فقد بدأت بعض السفن تمر من شمال أوروبا وروسيا عبر الخط القطبي بعدما بدأت موسكو تستثمر في كاسحات الجليد وتقيم موانئ ومرافئ في سواحل روسيا القطبية. وتخطط روسيا أن لا تقتصر الملاحة على فصلي الربيع والصيف بل طوال السنة في هذا الطريق البحري الجديد. وقد قامت عشرات السفن بتجريب الطريق الجديد خلال الصيف والربيع الماضيين والصيف الجاري لأن كاسحات عملاقة ساهمت في شق الطريق البحري والعمل على ذوبان الجليد. وترحب فلندا بالطريق الجديد لأنه سيجعلها محورية في «عالم الملاحة الجديد». ويعتبر المهتمون في مستقبل الملاحة والدراسات الاستراتيجية أن طريق شمال أوروبا عبر القطب سيلعب الدور نفسه الذي لعبته قناة السويس خلال المئة سنة الأخيرة في عالم الملاحة والنقل التجاري البحري وكذلك العسكري. وتؤكد موسكو أنه خلال سنوات قليلة سيبدأ الإستغلال الفعلي للخط البحري الجديد بين جنوب شرق آسيا وشرق هذه القارة مع الولاياتالمتحدة وأوروبا، الأمر الذي قد يقلص من المسافة البحرية الكلاسيكية عبر قناة السويس بحوالي الثلث وهو ما يشكل إدخارا هاما للطاقة والوقت. وشددت المجلة الأمريكية «تايم» مؤخرا على هذا المعطى الجديد واعتبرته منعطفا هاما في التجارة الدولية. وكمثال، فالرحلة الحالية من ميناء شنغهاي الصيني نحو ميناء مومانسك الروسي بالقرب من الحدود النرويجية والفنلندية تصل الى 17 ألف و700 كلم عبر قناة السويس ومضيق جبل طارق، في حين أنها عبر طريق الشمال القطبي ستكون عشرة آلاف و600 كلم، أي سبعة آلاف كلم أقل، علاوة على إنخفاض المصاريف المرتفعة بما فيها رسوم المرور عبر قناة السويس وربح الكثير من الوقت. مصر تدق ناقوس الخطر وتوسع قناة السويس ومع هذا المعطى الجديد، ستتضرر قناة السويس بشكل كبير لاسيما وأن مصر تعتمد على مداخيل القناة كمصدر هام للعملة الصعبة. ووعيا منها بهذا التطور، أقدمت خلال الشهر الجاري على المصادقة على عمليات توسيع قناة السويس لتسهيل عملية عبور السفن والتقليل من الإنتظار. وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد أعلن رسميا شق مجرى ملاحي جديد مواز للقناة الكلاسيكية بميزانية ضخمة ستتجاوز ثمانية مليارات دولار دون اللجوء الى الشركات الأجنبية بل بمساهمة المصريين حفاظا على السيادة على القناة. وتؤكد مصر أن الهدف من القناة الجديدة الموازية هو تحويل مصر الى محور اقتصادي عالمي يقوم على القناة أساسا، حيث ستصاحب القناة الجديدة الموازية إستثمارات وطنية وأجنبية ضخمة. وستحافظ قناة السويس على موقعها الريادي في الملاحة الدولية إلا أنها ستفقد الكثير من نشاط النقل التجاري البحري بسبب الطريق الآخذة في التبلور شمال روسيا عبر القطب. نيكاراغوا منافسة لبنما واحتفلت قناة بنما هذه السنة بالذكرى المئة لتشييدها ومساهمتها في تقدم العالم عبر تسريع وتسهيل الملاحة الدولية، إلا أن هذه الذكرى تحولت الى مناسبة مقلقة بسبب قرار نيكاراغوا بدء مشروع حفر قناة تربط الأطلسي بالهادي. وستكون ذات مجرى أكبر بكثير من بنما، إذ ستمتد على مسافة 278 كلم طولا، وإن كان نصفها سيمر عبر أكبر بحرية في أمريكا الوسطى بينما العرض هو 520 مترا. ويعتبر هذا القرار ذو أهمية استراتيجية قصوى لأن التمويل والتنفيذ سيكونان صينيا وبدعم روسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، الأمر الذي سيجعل بكين تتحكم في معبر مائي دولي على مشارف الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبدأت نيكاراغوا هذه السنة في تنفيذ هذا الحلم الذي راودها كثيرا، حيث بدأت عملية مصادرة الأراضي التي ستمر منها القناة. وستكون القناة الجديدة مربحة للغاية من الناحية الاقتصادية، فقناة بنما لم تعد تلبي الاحتياجات البحرية العالمية، إذ تمر منها يوميا 18 سفينة وأقصى حمولة هي 120 ألف طن لأن عمق القناة لا يتجاوز 14 مترا، بينما قناة «نيكاراغوا» سيكون عمقها 22 مترا وستقبل إبحار سفن ذات حمولة 250 ألف طن. والمثير أن قناة نيكاراغوا ستكون على بعد أقل من 200 كلم شمال بنما. وبهذا يدخل العالم في القرن الواحد والعشرين سباق المعابر الاستراتيجية في النقل البحري تجاريا وعسكريا، حيث ستصبح قناة نيكاراغوا منافسا لبنما وبتمويل صيني، القوة المستقبلية البديلة للولايات المتحدة، وسيصبح طريق القطب الشمالي منافسا حقيقيا لقناة بنما. المصدر: القدس العربي 31/8/2014م