في أول اختيار عدلي لها عقب الاستحقاق الانتخابي الذي أثير حوله الجدل ولا يزال يثور- استطاعت السلطات بمهارة لا يمكن التقليل منها احتواء أزمة كان من الممكن ان تكون عادية ومألوفه لو لم يتعمد البعض تكثيف الضؤ عليها والباسها ثياباً سياسية في اقليم لا تنقصه الحساسية ولا يزال محل جدل محلياً واقليمياً ودولياً. فأزمة سوق المواسير بمدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور اختبرت معدن ميزان العدل في السودان وشكلت تحدياً لمصداقية الحكومة السودانية في انفاذ سلطات العدل بقسطاس وبأعجل ما تيسر ودون توفير حماية أو غطاء من حصانة علي مسئول أو ذو سلطان وجاه. والازمة كما عرفناها وعرفها من تابعوها تلخصت ببساطة شديدة- في سوق ربوي غير مألوف في الممارسة الاقتصادية السودانية وحتي ان وجد في أي نطاق أو أي مستوي فهناك وسائل فاعلة لمعالجته اذ من المهم هنا أن نشير الي وجود نيابة متخصصة في الخرطوم ولها فروع منتشرة في كل ولايات السودان تحت مسمي (نيابة الثراء الحرام) وهذه النيابة – لمن لا يعلم أو من يتعمد تجاهل الحقيقه- عمرها الان فاق العشرين عاماً فهي نشأت عقب صدور القانون الجنائي السوداني سنة 1991م الذي قرر في نصوصه أن تتابع السلطات المختصة معاقبة كل من يتعامل تعاملاً يثري علي أساسه ثراء حراماً ومن ضمن ذلك (التعامل الربوي) أي الحصول علي أرباح وفوائد عن أموال دون وجه حق كما أن قانون المعاملات المدنية سنة 1984م في السودان – بتعديلاته المختلفه – منع المحاكم السودانية منعاً باتاً الحكم بأي فائدة ربوية وابطال أي معاملة ذات أبعاد ربوية تخالف مقتضي الشريعة الاسلامية وهو ما ظل يجري في المحاكم السودانية بطريقة روتينية معروفه لعقود خلت وتحفل سجلات القضاء السوداني بالاف النماذج والحالات التي تم الحكم فيها ضد الفوائد الربوية والثراء الحرام. بالنسبة لأزمة سوق المواسير فان وزارة العدل عملت باتجاهين فاعلين: الاول فتحت الباب واسعاً للغاية عبر نياباتها العامة في ولاية شمال دارفور لتلقي الشكاوي من المتضررين في ظل حجزها لأموال من الجناه تكفي لاقتضاء حقوقهم وهي بهذا العمل طمأنت الضحايا والمتضررين طمأنة كافية. الثاني أنها كشفت للرأي العام – بسرعة وبوضوح ومباشرة – حقيقة ما جري والوقائع المتوفرة بحيث لم يثبت حتي الان أن الأمر جري باشتراك أو يتواطؤ مع مسئولين وحتي اذا حامت شبهة من الشبهات حول أي مسئول فان وكلاء النيابات مخولون بموجب القانون وبموجب توجيهات صارمة من وزير العدل باتخاذ الاجراءات ضدهم بلا تردد ولا هوادة وهو أصلاً مجرد تحصيل حاصل لأن النيابات العامة عادة تمضي علي هذا الاساس. وهكذا فان أزمة سوق المواسير وان بدت بمثابة اختيار للحكومة السودانية في منعطف حرج الا أنها بالمقابل كانت فرصة ذهبية لها لتثبيت أنها لا تتواني عن احضاء الاجراءات العدلية مهما كان أطرافها كما أنها لا تتجاهل ضرورات الايضاح والشفافية وهذا ما منحها القدرة علي نزع الظلال السياسية للواقعة وجعلها واقعة جنائية محضة!