■ لن تتغير زاوية تحليل الجامعة لمقارباتنا الجيوسياسية في مقالات هذه السنة. العالم العربي بعيون فرنسية يبقى عنوانها، أوليس جزءا من العالم العربي أفريقيا، بدليل جغرافي لا يضرب جذوره في الجغرافيا وحسب، بل في فقه اللغة، طالما اصطلح المؤرخون على تحديد تحت مسمّى «أفريقيا» الكتلة الإقليمية التي تكونها منطقة تونس، ومنطقة غرب القسطنطينة الجزائرية والمنطقة الواقعة غرب طرابلس الليبية. لكن أفريقيا التي تعنينا في هذه السطور – وإن كانت تحتضن العروبة تتصل بقضية يضمحل فيها الشأن الهوياتي ليذوب في الشأن الإنساني. فقصة هذه السطور أشبه بقصص ألف ليلة وليلة، يمثل فيها الجن فيلبون أكثر الطلبات غرابة وأبعدها منالا. لكن الجني الماثل في قصتنا ذو عزيمة واعتقاد راسخين بأن المشروع الذي يحمله لا ينتمي إلى سابع المستحيلات التي لا تغادر صفحات الكتب. يُحكى ان وزيرا سابقا من الجمهورية الفرنسية، قرر أن يترك السياسة إلى غير رجعة، ليتحول إلى تحقيق مشروع على قدر طموحاته وعزيمته وتفانيه، صفات ليست من مجرد بنات أفكار قلمي ولا من وحي الإبداع الانطباعي، إنما صارت تتداولها الأوساط السياسية، بغض النظر عن انتمائها الحزبي، ويتناقلها أكثر من لسان في المحيط الجمعوي، وتتناوله بالإطراء أكثر من مؤسسة ناطقة بلسان حال المجتمع المدني الفرنسي. انطلق جان لوي بورلو، وزير الصناعة في الحكومة الفرنسية ومحامي أعمال سابقا، من واقع ان ربعا فقط من أصل مليار نسمة في أفريقيا تصله الكهرباء، في ما يرجح أن يتضاعف عدد سكان القارة السوداء في غضون أقل من ثلاثين عاما. وفي محاولة لوضع حد لواحدة من أعقد المعضلات الناجمة عن الفقر المدقع في القارة، أنشأ الوزير السابق صندوقا سياديا يحمل اسمه يطمح به في ما يطمح إلى تأسيس الوكالة الأفريقية للكهرباء. يتوّج التخطيط لإنشاء هذه الوكالة تفكيرا تكون العقلانية فيه أوفر نصيبا من الحلم، وإن كان حلما فهو يقظ. يقوم المشروع على عدة قوائم يحتل فيه التسريع بإقامة بنى تحتية مركز الصدارة، إلى جانب نقل كامل للصلاحيات لصناع القرار المحليين. «الوصول إلى الطاقة والإنارة لجميع أفريقيا»، هكذا قال بورلوفي جملة نكاد نترجمها حرفيا عمدا، تختزل فيها كلمة «وصول» عصارة الإشكالية، إشكالية السباق مع الطاقة التي بلغت درجة من الاستعجال تضاهي السباق مع الزمان مضاهاة مطلقة. وتتعدى الطاقة، في سياق مثل هذا، محض الاعتبارات البيئية المستحوذة على مجمل الخطاب الاقتصادي في مناطق أخرى من العالم، لتشكل في المنطقة الأفريقية عصب الخطاب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وحتى الثقافي، فالطاقة هنا متعددة المعاني والأبعاد والأذرع لتغطي طيفا من الاحتياجات ينطلق من الكهرباء ليشمل الماء الصالح للشرب والتشغيل والفلاحة وحق العيش الكريم. ومن أجل الدفع بالمشروع قدما، قطع بورلو، حتى يقابل عددا خياليا من القياديين الأفارقة، مسافة لا تقل خيالية. 500000 كم قطعها بورلوفي سبيل إسماع صوته وصوت مشروعه. 46 قياديا أفريقيا قابلهم حتى يقنعهم بالعمل معا لتنفيذ خطة مارشال من أجل الطاقة والإنارة في أفريقيا قبل أن يفوت الآوان. ولقي إجماعا من هؤلاء القياديين للمضي قدما في العمل ذاته. إنه السباق الدائم لأحد أكثر الشخصيات السياسية الفرنسية اختزالا لتجارب مهنية مختلفة، إن لم نقل متباينة، ولكن بالتأكيد في النهاية متكاملة، فقد بدأ بورلو العمل في سلك المحاماة القضائي، ثم انتقل إلى المقاولة الصناعية، فتقلد منصبا وزاريا كان يضم في ما يضم التجديد العمراني بما يستدعيه من ضخ دماء جديدة في الحياة الاجتماعية في الضواحي الفرنسية، ضخ دماء يستدعي بدوره وضع خطة التضامن الاجتماعي على سكة آمنة، كان موكولا بتنفيذها، فضلا عن تثبيت ميداني لما سمي بخدمات مساعدة الأفراد المتقدمين في السن خاصة-التي لا يزال معمولا بها إلى اليوم. ولعل بورلو الأفريقي، كما سماه صحافيون نسبة إلى شخصية أمين معلوف الروائية ليون الأفريقي، وهو السياسي المخضرم الذي أمضى 25 عاما يتولى الولاية المنتخبة تلو الولاية، لم يصل إلى تعريف مقنع للسياسة إلا بعد أن دخل أفريقيا من بابها الواسع، باب الإنسانية: «ماذا تعني السياسة أكثر- يقول بورلو- من ان تجمع الناس حول شيء هو على درجة من المصيرية، مثل أن تصبح أفريقيا ذات المليار نسمة، مزودة بالطاقة الكهربائية بالكامل؟ ليس طبيعيا في هذا العالم أن تلاقي لغة الأرقام لغة القلب، ولا أن تتجرد السياسة من الفئوية الحزبية في نقلة تعيدها إلى أصل رسالتها: خدمة الإنسان. ٭ كاتب أكاديمي وإعلامي فرنسي المصدر: القدس العربي 22/10/2015م