لم تكن المرة الأولى التي تثير فيها مذيعة مصرية ضجة كبيرة، واستياء واسعاً على شبكات التواصل الاجتماعي، بسبب محتوى ما تقدمه في برامجها وأسلوبه. وهي أيضاً ليست الأولى في قائمة مذيعات ومذيعين تسببوا في أزمات اجتماعية، وأحياناً سياسية. إحداهن أهانت شعباً عربياً شقيقاً، وآخر استغفل المصريين بعرض لعبة فيديو على أنها مشاهد لعمليات القصف الروسي في سورية، وثالث نوادره لا تنتهي، من خلع للحذاء إلى وصف نفسه بالحمار، تأكيداً لصدقيته وصراحته. وجميعهم -تقريباً- كانوا من دراويش حسني مبارك، ثم نافقوا ثورة يناير، وعادوا يمجدون أعداءها، ويهللون لشيطنتها. وتتعدد حالات الخطأ، وتتكرر التجاوزات، وتتلون المواقف، حسب مقتضى الحال. وفي كل مرة، لا يواجه مرتكبو تلك الانتهاكات ومحترفو التحولات أي مساءلة، لا مهنية ولا قضائية. في أسوأ الحالات، ينتقلون من فضائية إلى أخرى، ما يعني إقراراً، وربما تأييداً، ممن يوظفونهم، لما يرتكبه هؤلاء من خطايا. أو في أقصى تقدير، اقتناع بأنها مجرد تفاهات لا تستحق التوقف عندها. ولا أحد يسأل عن أحقية أي ممن تطلقهم الشاشات على المشاهد، في امتهان الإعلام التليفزيوني. حيث أغلبهم وافدون من الصحافة المكتوبة، بل بعضهم دخيل عليها أصلاً، وطالما عمل مندوباً للأمن في الصحيفة، وليس العكس. لماذا يظل هؤلاء مفروضين على المشاهد؟ ولماذا يحظون بنسبة مشاهدة عالية، على الرغم من كوارثهم؟ السؤالان يجيب كل على الآخر جزئياً. فالإلحاح والتكرار وتشابه الرسالة بين معظم القنوات، أسلوباً ومضموناً، يجعل شرائح من المجتمع المصري ينجذب إلى هؤلاء، خصوصاً أن بعض توقعاتهم (المعلومة لديهم سلفاً) تتحقق، فيكتسبون صدقية ومكانة لدى البسطاء والمغيَّبين. الأمر الذي يغفر لهم خطأ هنا، أو أزمة هناك. المهم أن هؤلاء الملقَبين زوراً إعلاميين، لا يخرجون عن المسار المرسوم، ويؤدون بنجاح المهمة الأساسية الموكلة إليهم. وبينما يبحث آلاف من دارسي الإعلام الموهوبين عن فرصة لا تأتي، يحتل عشرات من فاقدي الصلاحية، شكلاً ومضموناً، صفحات الصحف نهاراً، ثم يفترشون الفضائيات ليلاً. هذه هي مشكلة الإعلام المصري، تحديد دور الإعلام والمقومات اللازمة فيمن يمارس المهنة ولا يهينها. يطابق دور الإعلام في الدول المتقدمة تسميته، نقل الأخبار وكشف المعلومات والحقائق أمام المتلقي. وإعلام السلطة ومؤسسات الدولة بمطالب واحتياجات وآراء المواطنين. دور ثنائي الاتجاه، جوهره النقل والتوصيل، وليس الاختلاق والتأويل. أما في الدول المتخلفة، يكون الاسم "إعلاماً"، أما الفعل والدور فهو التعليم والتلقين على منهج غوبلز. حيث الإعلامي ليس ناقلاً أو حتى ناقداً، وإنما هو فقط موجه ومرشد. حتى مطلع الألفية، كانت الدولة وحدها المالك والمشغل للإعلام، قبل أن تجري خصخصته تمويلاً، وإلى حد ما تشغيلاً. فصارت السياسة والمال يتحكمان في الإعلام، خصوصاً الفضائيات بالعاملين فيها، ومضمون ما تقدمه وأسماء من تستضيفهم. وينحصر أداء الإعلام المرئي المصري بين هذين المحددين: إحداثيات التموضع، قرباً أو بعداً من السلطة، وحسابات المعلنين أي الخلطة التجارية لجذب المشاهد. والنتيجة الطبيعية لهذه الثنائية، أن تنحصر الرسالة الإعلامية بين الفضائح أو انتهاك خصوصيات المشاهير، وتوجيه أو ضبط اتجاهات وآراء العوام. وكما في أي علاقة بين طرفين، ليست المسؤولية على أحدهما فقط. ربما شرائح معينة من المجتمع المصري تلهث وراء برامج الفضائح والحوارات المبتذلة، أو تنخدع في ساسة متحولين وصحافيين متلونين، لكن المؤكد أن هذه الشرائح تضم ملايين من المصريين، يقبلون على ذلك الإعلام وينساقون وراءه. وإلا لتغير الموقف ولبحث المعلنون عن محتوى مختلف لرعايته ولبحثت الدولة وأجهزتها عن وسائل تأثير وتحكم أكثر ملاءمة. صحيح أن الإعلام يعمق الغيبوبة، ويوسع نطاق السطحية الفكرية، إلا أن هذا الدور السلبي لم يكن لينجح، من دون بيئة مجتمعية صالحة للتغييب، ومواتية للتسطيح. وبكل أسف، المجتمع المصري يتسع لكل شيء، من الغناء الأوبرالي والرسم السريالي والفكر ما بعد الحداثي، إلى أغاني المهرجانات وسينما العنف والمخدرات والإعلام العُكاشي. المصدر: العربي الجديد 2/11/2015م