رحلة السيد باقان أموم الأخيرة إلى الولاياتالمتحدة ولقاءاته بعدد من المسئولين هناك، أثبتت أنه لا يمتلك قدرات رجل الدولة الذي يستطيع أن يحصل على أعلى مكاسب ممكنة بأقل تنازلات ممكنة، فهو قد قدم عروضاً سخية للغاية مقابل طلبات بديهية ربما كان المسئولون الأمريكان أحرص عليها منه، منها الضغط على حكومة الخرطوم لقيام استفتاء تقرير المصير في موعده، وحث دول العالم على الاعتراف بالدولة الجديدة في حالة تصويت الجنوبيين لصالح الانفصال، علماً أن الحكومة السودانية تسارع الخطى لاستكمال استحقاقات ما قبل الاستفتاء ومن بينها ترسيم الحدود وتشكيل وتفعيل أداء المفوضية، وأن السيد رئيس الجمهورية نفسه أعلن بالصوت الجهير وعلى رؤوس الأشهاد أن حكومته ملتزمة بإجراء الاستفتاء في موعده وملتزمة بقبول نتيجته.. أياً كانت!! عليه فإن أميركا لا تحتاج أن تضغط.. وإن احتاجت فهي تفعل ذلك خدمة لمصالحها ولإستراتيجيتها المرسومة وليس لدولة باقان أموم المحتملة، وبالنسبة للاعتراف، إذا كانت الخرطوم نفسها قد تعهدت باحترام رغبة الجنوبيين، فما الذي يمنع الدول من الاعتراف بالدولة الجديدة في حالة قيامها – لا قدر الله – وما حاجة أميركا لأن تحث العالم على فعل ذلك!!؟.. بطبيعة الحال غني عن القول أن المسئولين الأمريكيين في الخارجية والبنتاغون والاستخبارات قد وعدوا باقان خيراً بالعمل على قيام الاستفتاء في موعده والاعتراف بدولته حين إعلانها. من طلبات باقان أموم الأخرى دعم حركات التمرد في دارفور عبر الحركة الشعبية وتزويد الجيش الشعبي بمعدات وأجهزة متطورة، وهي طلبات تصب في اتجاه الإعراب عن استعداد دولة الجنوب المحتملة لخدمة سياسات أميركا، خاصة وأنها جاءت مصحوبة بتطوع سخي يجمع المعلومات المتعلقة بمهددات الأمن القومي الأميركي في مناطق القرن الأفريقي وشرق القارة والبحيرات العظمى، بمعنى آخر أن تصبح دولة الجنوب شرطي أميركا في المنطقة تعمل في إطار شراكة استخبارية بين الجانبين على تنفيذ سياسات أميركا وحماية مصالحها وأمنها القومي.. وبطبيعة الحال رحب الأمريكان بهذه العروض السخية ووعدوه في المقابل بستين مليون دولار لدعم تسليح الجيش الشعبي وبدراسة إمكانية دعم حركات دارفور عبر الحركة الشعبية. الأدهى والأمر، بل والمثير للدهشة والاستغراب أن عروض السيد باقان للأمريكان من أجل الحصول على تعهد بدعم قيام الاستفتاء والاعتراف بنتيجته وبستين مليون دولار، لم تقف عند حد التعاون الاستخباري، بل تعدتها الترحيب الكامل باستضافة مقر قيادة القوات الأمريكية لأفريقيا "أفريكوم" وهو أمر غريب، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار رفض كل الدول الأفريقية لاستضافة مقر تلك القيادة، لما ينطوي عليه الأمر من مخاطر تتعلق بانتقاص السيادة الوطنية، ومنذ تأسيس هذه القيادة في عام 2004م وأميركا تحاول أن تجد لها مقراً وبذلت في سبيل ذلك ضغوطاً وإغراءات كبيرة لعدد من الدول، من بينها الجزائر والنيجر ومالي وموريتانيا وكلها لم تستجب لا للضغوط ولا للإغراءات، ثم جاء باقان في آخر الزمان ليعرض هذا المقر مجاناً. قائد قوات الأفريكوم أكد للسيد باقان أن القنصلية الأمريكية بجوبا ستكون بها فرقة خاصة بالأفريكوم ما يعني أنه لم يرحب بأن يكون المقر الرئيسي للقيادة في جنوب السودان، لماذا؟ هذه القيادة تم التخطيط لها أساساً لحل الإشكالية التي تواجه مكافحة الإرهاب في أفريقيا، حيث لم تكن هناك قيادة عسكرية خاصة بأفريقيا من ضمن هيكلية البنتاغون، وإنما كانت أفريقيا مقسمة بين ثلاث قيادات عسكرية أمريكية. هي القيادة الوسطى "المركزية" والقيادة الأوروبية وقيادة المحيط الهادئ وهذا التوزيع كان يعيق جهود مكافحة ما يسمى بالإرهاب خاصة في منطقتي الساحل الأفريقي والقرن الأفريقي. ولتؤدي الأفريكوم دورها بشكل فعال فقد أضيفت لها بجانب المهام العسكرية مهام أخرى عديدة تتعلق بدعم الديمقراطية والحكم الراشد ومحاربة الفساد والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، أي بمعنى آخر تطبيق مفهوم الأمن الشامل الذي يؤدي إلى الاستقرار، وهذا بدوره يؤدي إلى حفظ مصالح أمريكا بالقارة، وبشكل عام يمكن القول أن دور الأفريكوم استخباري وسياسي أكثر منه عسكري. أميركا ليست في حاجة لإيجاد مقر للأفريكوم في منطقة القرن الأفريقي وذلك لوجود قاعدة جيبوتي الكبيرة والتي تضم مركزاً للاستخبارات لعب دوراً كبيراً في عرقلة صعود المحاكم الإسلامية الصومالية في عام 2006م وفي التخطيط ودعم الاجتياح الأُثيوبي للصومال، ولكنها حريصة جداً أن يكون مقر الأفريكوم في منطقة الساحل الأفريقي لحماية نفط شمال أفريقيا وخليج غينيا من الجماعات الإسلامية المتصاعدة وعلى رأسها الجماعة السلفية للدعوة والقتال التي أصبحت تعرف بتنظيم القاعدة لبلاد المغرب الإسلامي. هذا التوجه كان واضحاً جداً منذ البداية، إذ بدأت إرهاصات تشكيل الأفريكوم في اجتماع بمدينة اشتوتجارت الألمانية حضره رؤساء هيئات الأركان في ثمان دول أفريقية هي: النيجر، مالي، تشاد، الجزائر، موريتانيا، بوركينا فاسو، المغرب، تونس. أعقب ذلك ما عرف بمبادرة الساحل لتأهيل قوات مالي وموريتانيا وتشاد والنيجر ثم توسعت لتضم عشر دول أخرى من دول المنطقة.. وكل ذلك يشير إلى رغبة الأمريكان في إيجاد المقر في منطقة الساحل الأفريقي وخاصة في إحدى دول حوض نهر النيجر، وليس في شرقي القارة أو منطقة البحيرات العظمى كما يأمل السيد باقان أموم حتى الآن كل ما وجدته أميركا في الجزائر رغم الضغوط والإغراءات هو تسهيلات في مطار تمنراست جنوبي البلاد، ومن مالي والنيجر وجود محدود في إٌليمي زواد وأزواغ الشماليين، ومن موريتانيا مناورات عسكرية في شرقي البلاد، وذلك لخشية هذه الدول من التأثير على سيادتها أو التدخل المباشر في شئونها الداخلية، وأميركا حتى الآن لم تيأس وبالتالي لم تهتم بعرض السيد باقان أموم المجاني!! والآن السؤال: هل يفكر قادة الجنوب الآخرون بمثل عقلية باقان أموم؟! إن كان الأمر كذلك فيجب على عقلاء الجنوب التحرك بسرعة وقوة لدعم الوحدة أو تبديل القيادة قبل أن تحل الكارثة. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 6/7/2010م