قبل اكثر من نصف قرن كان مصطلح الجنوب العربي المحتل مدرجا في خانة تلك المصطلحات ذات الاشعاع القومي في خمسينيات القرن الماضي. والآن يتردد مصطلح الجنوب سواء المخلوع من سياقه التاريخي والجغرافي او المستأصل كالعين او الرئة ، وكأن المطلوب من هذا العالم العربي ان يصبح أعور ، ويتنفس من رئة واحدة لن تسلم هي الاخرى من العطب. ولا ندري لماذا الجنوب؟ سواء تعلق بالسودان او لبنان او العراق واخيراً بفلسطين ، فالخاصرة الجنوبية من كل هذه الأجساد المُدمّاة والنازفة تسلط الاضواء عليها لهدف واحد فقط هو مشروع الانفصال أو التقسيم. وقد سمعنا من قبل عن مشروع استفتاء لخلع جنوب العراق. ولا ندري وفق هذه البوصلة ما اذا كانت غزة هي جنوبفلسطين أم شمال شمالها، فالتضاريس كلها الآن رخوة ، ومقاييس رسم الخرائط تغيرت. وها نحن على وشك اصدار طبعات منقحة بأقلام الجنرالات لا النُّحاة وملقحة بغبار لا طلع فيه ولا بشرى بالخصب ، فالمواسم كلها عجفاء والخريف استطال وتمدد وقضم الفصول كلها ، ما دامت الكائنات والبلدان وليس الاشجار فقط ترتعد من العُري في مهب الصقيع،. ذات يوم سيخترعون للجنوب جنوباً وللشمال شمالاً ، ويصبح الشرق غرباً والغرب شرقاً كي يصاب القبطان قبل من أسلموه مصائرهم في السفينة المليئة بالثقوب بالعمى وهنا يجب التذكير بان هناك فارقا بين التقسيم والتشظية والتجزئة وبين حالة التذّرر أي التحول الى ذرات ، فهل تحلم كل قرية عربية في هذا الزمن الرّخو بحكم ذاتي أو باستفتاء على استقلالها؟ رغم ان مفردة الاستقلال كالسيّادة تماماً أضحت من مقتنيات المتحف السياسي،. ان أبسط قواعد الحساب الذي كان للعرب الغابرين فيه باع طويل تجزم بأن النصف أقل من الواحد وان الربع هو نص النصف وسنبدو مثيرين للسخرية اذا استطردنا في هذه المتوالية الحسابية،. جدول الضرب المقترح علينا الآن يخلو من الجمع وتتضاعف فيه عمليات القسمة والطرح لأن الهدف أخيراً هو تحويل هذه الجغرافيا العربية بمن عليها الى هيكل عظمي كتلك التي ظفر بها عجوز ارنست همنجوي في رواية الشيخ والبحر ، عندئذ لن يجرؤ أي صياد في العالم على أن يردد عبارة بطل الرواية العجوز وهي ان الانسان قد يدمّر لكنه لا يُهزم. ربما كان الرهان العربي ذات ربيع قومي شيئاً كهذا ، فأفرز تلك التراجيديات العظيمة ، وكانت المقابر تعج بالأبطال الذين تحولت اضرحتهم الى مزارات لكن الفارق بين مزارات الامس ومزادات اليوم هو خطأ مطبعي استبدل فيه حرف الراء الذي لم نعد نستطيع النطق به بسبب الرطانة الى حرف الدال، الوطن العربي ليس أعسر بحيث لا "يجيد" الكتابة والتوقيع الا باليد اليسرى وهو أيضا لا يضطر لان يصفع وجهه بيده الوحيدة كي يصفق لان الاخرى مبتورة من الكتف،. في زمن التئام البلدان والبحث عن أية قواسم مشتركة حتى لو كانت سوقية فقد تختصم الأمهات المدعيات على اطفال فلا يعارضن حكم القاضي بتشطيرهم بالسكين. أين هي الأم؟. وأين هو الأب الذي لم تخذل خاصرته الجنوبية توأمها؟. المصدر: الدستور 28/11/2010