سُكتُم بُكتُم    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    إسرائيل والدعم السريع.. أوجه شبه وقواسم مشتركة    السودان شهد 6 آلاف معركة.. و17 ألف مدني فقدوا حياتهم    شاهد بالفيديو.. مذيعة تلفزيون السودان تبكي أمام والي الخرطوم "الرجل الذي صمد في حرب السودان ودافع عن مواطني ولايته"    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    واصل برنامجه الإعدادي بالمغرب.. منتخب الشباب يتدرب على فترتين وحماس كبير وسط اللاعبين    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التفسير الإسلامي للتاريخ (1-2)

يناقش هذا البحث المسوِّغات الفكرية التي أفضت إلى ظهور التفسير الإسلامي للتاريخ (أو أسلمة علم التاريخ) في النصف الأخير من القرن العشرين للميلاد، ويحلل الأطروحات الإسلامية التي قُدِّمت في هذا الشأن كبدائل للأطروحات الغربية الخاصة بتفسير التاريخ البشري، ثم يستعرض الإشكالات المنهجية التي تواجه هذه الأطروحات، وكيفية تقويمها لتكون أجدر استيعاباً لمفردات التاريخ البشري وحركته، وأكثر تثاقفاً مع المناهج البحثية التاريخية المعاصرة.
مقدمة
الادِّعاء بأن للتاريخ منهج واحد، يمكن من خلاله الوصول إلى الوقائع التاريخية الثابتة، وتصويرها تصويراً علمياً مجرداً، لا علاقة له بمعتقدات المؤرخ، أو أرائه الفلسفية، أو قيمه الخُلقيَّة، أو أهدافه الذاتية، أو حقبته التاريخية، أو بيئته الثقافية، هو ادِّعاء يفتقر إلى الموضوعية، ويقود إلى الاعتقاد بأن قضية المنهجية التاريخية قد حُسمت من قبل، ولم تعد تحتاج إلى نظرة جديدة. إلا أن هذا الادِّعاء يخالف واقع الحال، علماً بأن معظم المناهج البحثية الخاصة بتفسير التاريخ البشري قد تشكلت بنيتها التحتية وفق منطلقات أيديولوجية معينة، لها نظرتها الخاصة لطبيعة العلاقة الجدلية بين الإنسان، والكون، والظروف البيئية المحيطة به، وكيفية تفسير العوامل الثابتة والمتغيرة التي تحكم حركة التاريخ البشري والعمران الاجتماعي. وانطلاقاً من هذه الزاوية يمكننا أن نصنِّف التفسير الإسلامي للتاريخ داخل هذا الإطار الأيديولوجي، ونميزه عن التفسيرات الوضعية الأخرى، لأنه يستند إلى مقررات ربانية مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتطبيقات بشرية قائمة على مدى فهم أصحاب هذا التفسير لهذه المقررات، وكيفية توظيفها في منظومة منهجية تصلح لقراءة التاريخ البشري، وتحليل وقائعه. إذاً التفسير الإسلامي للتاريخ في جزئياته، كما يرى محمد قطب، هو اجتهاد بشري، يخطئ ويصيب، ويكون دائماً عرضة للمناقشة والتصويب ككل فكر يصدر عن الإنسان، لكن يظل تفسيراً له ميزاته الخاصة التي تدور في فلك المقررات الربانية التي تجعله أكثر موثوقية من التفسيرات العَلْمَانيَّة الأخرى.
وعلى هدي هذه الفرضيات يناقش هذا البحث المسوِّغات الفكرية التي أفضت إلى ظهور التفسير الإسلامي للتاريخ (أو أسلمة علم التاريخ) في النصف الأخير من القرن العشرين للميلاد، ويحلل الأطروحات الإسلامية التي قُدِّمت في هذا الشأن كبدائل للأطروحات الغربية الخاصة بتفسير التاريخ البشري، ثم يستعرض الإشكالات المنهجية التي تواجه هذه الأطروحات، وكيفية تقويمها لتكون أجدر استيعاباً لمفردات التاريخ البشري وحركته، وأكثر تثاقفاً مع المناهج البحثية التاريخية المعاصرة.
أولاً: مسوِّغات أسلمة علم التاريخ
يرفض منظِّرو أسلمة علم التاريخ المنهج الغربي المادي المتعلق بمعالجة الواقعة التاريخية، والمسألة الحضارية، ويحتجون بأنه منهج عَلْمَاني، يؤمن بضرورة إقصاء العناصر الغيبية من مراجع المعرفة التاريخية ومصادرها، ويبني فرضياته على التجربة والعقل، وأحياناً على قيم غيبية تستمد شرعيتها من التراث الإنساني نفسه. فهذا الإقصاء، من وجهة نظرهم، يُقعد المنهج الغربي عن دوره الفاعل في إعطاء قراءات موضوعية لحركة التاريخ البشري العام.
ويقوم هذا الرفض على عدد من المسوِّغات أن غياب البُعد الروحي الغيبي في مناهج البحث التاريخي في الغرب قد أفضى إلى قصور واضح في فهم العلاقة الجدلية بين الله والإنسان والطبيعة، ولازم هذا القصور نقص طبيعي في فهم حيثيات الوقائع التاريخية، وتفسيرها تفسيراً موضوعياً. ويعدُّ أصحاب التفسير الإسلامي للتاريخ هذا القصور، الذي يستمد حجيته من منطلقات أيديولوجية، عيباً جوهرياً في منهج البحث التاريخي الغربي، وليس مجرد عيب جزئي فقط في تفسير الواقعة التاريخية أو تصويرها.
ومن ناحية أخرى يرفض أصحاب التفسير الإسلامي للتاريخ مبدأ الحتميات (الحتمية التاريخية، والحتمية المادية، والحتمية الاقتصادية)، باعتباره مبدءاً يهدف إلى تحقير الإنسان الذي كرَّمه الله سبحانه وتعالى، وفضَّله على كثير من خلقه، وذلك في قوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الإسراء: 70). وعليه، فإن الحتمية الوحيدة المعترف بها في هذا الإطار هي حتمية القدرة الإلهية، التي لا تلغي دور الإنسان الإيجابي وفاعليته، لأنها حتمية نتائج قائمة على أسباب معينة. وهذه الأسباب هي حصيلة إرادة الإنسان الحرة، التي تجعله ملزماً بتحمل النتائج المتربتة على فعله التاريخي في الحياة الدنيا والآخرة.
وترفض أدبيات منظِّري أسلمة علم التاريخ التفسير الوضعي القائم على مبدأ الضرورة، وقوانين التطور التصاعدية (أو اللولبية) لحركة التاريخ، لأن هذه القوانين والقواعد المادية المصاحبة لها تجعل الإنسان مجرد عنصر ثانوي من عناصر التاريخ، وتخضع حركاته وسكناته إلى قوة العناصر المادية القاهرة التي تجعل عطاءه الفكري، والعقدي، والاجتماعي، مجرد تجليات لتأثير الظروف المادية المحيطة به. وهذه الفرضية، حسب رأي منظِّري الأسلمة تتعارض مع قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد:11)، علماً أن هذا القول الفصل يعطى الإنسان دوراً إيجابياً في حركة التاريخ، وصناعة وقائعه دون أن يكون تابعاً لهذه الوقائع أو دائراً في فلكها دوراناً يفقده إرادته الفاعلة. كما ترفض هذه الأدبيات مبدأ التطور البشري القائم على مفهوم النشوء والارتقاء الدارويني، بل ترى أن بني البشر قد تناسلوا من نبي الله آدم عليه السلام، وبدأوا حياتهم مُقرِّين بوحدانية الله سبحانه وتعالى، ومتفاعلين فيما بينهم، وفق سلوك حضاري يرقى على سلوك الحيوان، الذي لم يهبه الله سبحانه وتعالى نعمتي العقل والنطق، بل جعله من المخلوقات المسخرة لخدمة الإنسان ومنفعته.
ويرفض منظِّرو أسلمة علم التاريخ التحقيب الثلاثي الأوروبي، الذي يقسم تاريخ العالم العام إلى "قديم، ووسيط، وحديث"، بحجة أن هذا التقسيم لا يراعي خصوصيات تواريخ الشعوب الأخرى. وشاهدهم في ذلك أن التحقيب الثلاثي الأوروبي يضع تاريخ العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وعدداً من أروع الحقب التاريخية البيزنطية، وإنجازات سلالة تانغ الصينية، وغيرها من الحضارات الأخرى، داخل عباءة العصور الأوروبية المظلمة، علماً بأن هذه الشعوب قد عاشت واقعاً تاريخياً يختلف مضموناً ومعنىً مع الواقع الذي عاشته أوروبا في تلك العصور الوسطى.
وأخيراً فإن منظِّري الأسلمة يعتقدون أن أي تفسير لتاريخ الأمة الإسلامية يقصي البُعد الديني عن أدواته التحليلية يعدُّ تفسيراً محكوماً عليه "بالقصور الفاحش والفشل الذريع"، لأنه لا يستند إلى النص الإسلامي، الذي يمثل أقوى العوامل الحاسمة في صياغة إسهامات الأمة الإسلامية، وتشكيل رصيدها التاريخي الضخم. وشاهدهم في ذلك أن معظم المستشرقين الذين اهتموا بدراسة تراث الأمة الإسلامية قد أخطأوا الظن في فهم وحدته التاريخية، وطبيعة نسيجه الداخلي المتجانس، لأنهم نظروا إلى هذا التراث التاريخي نظرة تتسم بالتجزئة والتقطع، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار حركة المجتمع المسلم، ووحدته وصيرورته التي "كانت تجد في قيم الإسلام، ومبادئه، ومثله، مراكز ثقلها، وضبطها، ومؤشرات تمخضها الدائم عن المزيد من الوقائع والأحداث". وعليه فإن البُعد الغيبي من وجهة نظرهم يمثل ضرورة ملحة لأي منهج علمي يهدف إلى تقديم قراءة موضوعية لمفردات أحداث التاريخ الإسلامي، وتوطينها في محيط التاريخ العالمي العام.
لقد قادت هذه المسوِّغات الناقدة للمنهج الغربي المادي لتفسير التاريخ نفراً من النخبة المسلمة إلى البحث عن تفسير إسلامي للتاريخ، يستمد شرعيته من جملة من مرتكزات الفكر الإسلامي، القائمة على قيم عقدية تختلف اختلافاً جذرياً مع مرتكزات الفكر الغربي الخاصة بتفسير قضية الخلق، والكون، ودور العناصر الغيبية والمحسوسة في تحديد مسار حركة التاريخ البشري. وستكون هذه المرتكزات الفكرية الإسلامية محور نقاشنا في الفقرات التالية.
ثانياً: المرتكزات الفكرية لأطروحات أسلمة علم التاريخ
استقت أطروحات أسلمة علم التاريخ مرتكزاتها الفكرية من معارف الوحي (القرآن والسنة)، التي مكَّنتها من تجاوز بعض الإخفاقات العامة للمدارس التاريخية الوضعية، وأهلتها لتقديم قراءات جديدة لطبيعة العلاقة الجدلية بين الله والإنسان والنواميس الكونية، وفاعلية دورها في تحديد مسار حركة التاريخ البشري، وتشكيل وقائعه. وقد صدر في هذا الشأن عدد من الأطروحات العلمية الجادة، التي انطلقت من فرضية مؤداها أن المساحة الواسعة التي خصصها القرآن للمسألة التاريخية كافية لأن تضع المرتكزات الفكرية للتفسير الإسلامي للتاريخ، التي يمكن من خلاله ربط قيم السماء بالأرض، وتأصيل قضية خلق الإنسان، واستيعاب طبيعة الصراع بين قوى الخير والشر، ثم فهم المصير المحتوم الذي ستؤول إليه هذه القضايا. ومن ثم يمكننا أن نفصِّل هذه المرتكزات الفكرية على النحو التالي:
يتجلى المرتكز الفكري الأول في الإقرار التام بأن الفعل التاريخي لا يتحقق إلا في إطار المشيئة الإلهية، حيث تتطابق نتائجه مع علم الله سبحانه وتعالى في كل زمان ومكان، وتختلف أسبابه اختلافاً طردياً مع حرية الاختيار المتاحة للإنسان لتنفيذ الفعل التاريخي، وذلك في إطار علاقته المتبادلة مع "عالم الأفكار" و"عالم الأشياء". فمن هذه الزاوية جاء تقسيم الفعل التاريخي إلى قسمين: قسم يمثله الفعل الإلهي المباشر، الذي يأتي متناسقاً مع النواميس الكونية والقوى الطبيعية، أو يتجاوز النمط المعهود ويتبلور فيما يعرف بخوارق العادات. وهذه الخوارق نفسها تأتي في شكل قوة طبيعية مادية محسوسة، كالسيل، والجفاف، والغرق، والطوفان، أو تتجسد في شكل قوة روحية غير مرئية مثل التأييد الذي يمد به الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين عن طريق الملائكة، أو عن طريق رفع الروح المعنوية عند المحن والشدائد.
وفي كلتا الحالتين فإن غاية الفعل الإلهي المباشر هي تذكير الناس بأن كلمة الله هي النافذة في هذا الكون، وأن قدرته هي القدرة اللانهائية في تشكيل الحدث التاريخي. ويتبلور ذلك في قوله سبحانه وتعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ. (آل عمران: 47). أما القسم الآخر فيمثله الفعل الإلهي غير المباشر، الذي يحدث في إطار الحرية الإنسانية التي كرم الله بها بني آدم، وبلورها في قوى العقل والإرادة، والانفعال، والحس، والحركة، ثم جسد استجابات هذه القوى في الفعل الإنساني المؤثر في البيئة والمتأثر بها. لذا فإن هناك سمة "تناغم وتشابك وتداخل بين إرادة الله سبحانه وتعالى وإرادة الإنسان، يصعب التفريق والفصل والقول بأن هذا من عمل الله وهذا من عمل الإنسان"، بل القاعدة الأساسية أن الكل "من عند الله". ولكن في الوقت نفسه يؤكد الله سبحانه أن للإنسان حرية كاملة في صياغة الحدث التاريخي. وذلك في حدود قدراته، وإمكاناته الذاتية، والمؤثرات البيئية التي يعمل فيها، لذا فإن النتيجة التاريخية لتجربته الفردية أو الجماعية التي رتبتها المشيئة الإلهية تأتي متناسقة مع روح الفعل البشري، وطبيعة التجربة نفسها، ومع مفهوم استجابة الإنسان لقوى الخير والشر، والثواب والعقاب، والتحدي ورد الفعل الموازي، والحركة والمقاومة.
وبهذه الكيفية يضيف عماد الدين خليل بُعداً آخر لقراءة الحدث التاريخي، وينفي القول بأن تصرفات الإنسان هي عبارة عن انعكاسات للصراع الجدلي بين القوى المادية أو انبثاق لمسيرة العقل الكلي تجاه الوجود المطلق، بل يمضي في الاتجاه الذي يؤكد أن للإنسان دوراً ريادياً في صياغة الحدث التاريخي. ويقر أيضاً بأن هذا الدور ناتج عن تبادل أفعاله وردود أفعاله مع الظروف البيئية المحيطة، وعن خصوصية وضعه المتميز على سائر المخلوقات، الذي يتجلى في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً. (الإسراء 70).
وتقود هذه الفرضية خليلاً إلى القول ضمناً بأن الإسلام يعطي مساحة لنظرية التفسير البطولي للتاريخ لأنه يفسح "الطريق أمام المتفوقين الذين تجاوزوا مواقع ضعفهم وانتصروا على قوى الشر التي تشدهم ... [وتحملوا] مسئولية توجيه التاريخ وتشكيل حركته، شرط أن يضمنوا مسيرة الجماهير وراءهم، وإلا فإنهم سيصعدون وحدهم، وسوف تتّسم تجربتهم بالفردية ولا تنعكس بشكل كافٍ على مسيرة الأمة كلها في إطار النظام والفكر الإسلامي". وواضح أن الكاتب قد تأثر في هذا المنحى برأي الفيلسوف البريطاني توينبي (ت 1975م) الذي يرى أن الصفوة المبدعة هي أساس البناء الحضاري، لأن سلوكها دائماً موضع تقدير واقتداء بالنسبة للكثرة الغالبة التي جُبلت على محاكاتها.
ويتجسد المرتكز الفكري الثاني في قضية الصراع البشري، الذي يتبلور في عملية نشوء الحضارات وسقوطها، إلا أنه حسب رأي منظِّري الأسلمة صراع لا ينحصر في صراع نقائض الفكر البشري الذي تبناه هيجل، أو صراع وسائل الإنتاج الذي روَّج له كارل ماركس، أو جدلية التحدي والاستجابة عند توينبي، بل يتجاوز هذه الفرضيات العلمانية ليشمل ضروباً شتى من الصراع، أو التناقض، أو التقابل، أو الثنائية في الأفعال وردودها، أو التدافع. وكما يرى عماد الدين خليل، ومحمد قطب، وعبد الحميد صديقي، فإن القاسم المشترك بين هذه الضروب المختلفة يستند في جوهره إلى الصراع الذي نشب بين آدم وإبليس (أو الشيطان)، وفق معايير تعكس قِيم الإيمان والكفر، وتجسد أدبيات الحق والباطل. واتجاهات الصراع بالكيفية المشار إليها يجب أن تتبلور في بُعدين لا ثالث لهما. أحدهما بُعد "ذاتي عامودي" يرتبط بمواجهة الإنسان لنفسه في إطار القوى البيئية والمؤثرات الوراثية، وآخر خارجي أفقي يتعلق بالقضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإن وجود هذين الاتجاهين هو وجود سرمدي ليس مربوطاً بأجل معين، كما يراه المثاليون، والماديون، والحضاريون، وإن حركتهما ليست حركة لولبية تصاعدية حتمية، بل حركة تجمع بين الصعود والهبوط، وتتخللها أفعال إلهية مباشرة تتجاوز قدرات الفعل الإنساني. وبهذه الكيفية يقترح منظِّرو الأسلمة وضع بعض الضوابط الكلية للتفسير الإسلامي للتاريخ، التي تستقي مفاهيمها المعرفية من المادة التاريخية الواردة في القرآن على سبيل العرض المباشر، والسرد القصصي لتجارب عدد من الجماعات البشرية، والإشارات التي تبرهن أن هناك قانوناً إلهياً يحكم حركة النواميس الكونية، ويوجه نشاط الوجود البشري. وفي هذا الإطار القرآني يحاول منظِّرو الأسلمة أن يشذبوا بعض فرضيات المدارس العلمانية (المثالية والمادية والحضارية)، ويضيفوا إليها بُعداً آخر يتجسد في إثبات دور العنصر الغيبي في صياغة الحدث التاريخي، ودور الإنسان الريادي في توجيه مسار حركة التاريخ البشري، ويؤكدوا في الوقت نفسه فاعلية الإنسان وتأثيره في الظروف البيئية المحيطة به، وتفاعله مع مفرداتها تفاعلاً إيجابياً.
إلا أن هذا الافتراض الذي يتزعمه خليل يواجه رفضاً صريحاً من بعض منظِّري الأسلمة التأصليين، الذين يرون أن تبني "قضية الصراع" باعتبارها قضية محورية، وقانوناً مجمعاً عليه في فهم القضايا التاريخية، أمر "يؤدي إلى اختلاط الفهم ويضطر صاحبه إلى إدخال معاني القرآن في الخلق والكون والحياة" في إطار ضيق، لا يتناسب مع استخدام المصطلحات القرآنية مثل "الجهاد، والفتنة، والابتلاء، والزوجية، ودفع الناس، والاختلاف"، باعتبارها صوراً من صور الصراع. ويتبلور اعتراض هؤلاء في قولهم إن الفرق شاسع بين "الاختلاف والتناقض، وبين الجهاد والصراع، وبين الزوجية للسكن، والرحمة ووحدة المتناقضات". ويمثل هذا المنحى الأستاذ يوسف كمال محمد، الذي ينقد أطروحة خليل، متعللاً بأن صاحبها قد "طبق الصراع الجدلي بالمفهوم الهيغلي على حركة التاريخ. ولم يخالف الجدلية إلا في أمرين: أحدهما يتمثل في اعتقاده بأن الصراع لا يقوم على حركة تاريخية تصاعدية، بل في الغالب يكون في حالة صعود وهبوط، وثانيها في زعمه أن الصراع يكون دائماً على نسق سرمدي، لا يتلاشى في أية مرحلة من مراحل التطور الحضاري البشري.
ويبدو أن هذا النقد قد جعل بعض منظِّري الأسلمة يقلعون عن استخدام مصطلح "الصراع"، لأنه من وجهة نظرهم مصطلح مثقل بأدبيات التراث العلماني الغربي، بدليل أن أوغست كونت استخدامه في نظرية المراحل الثلاث، وهجيل وظفه في حركة الجدل الثنائي بين المادة والروح، وماركس بنى عليه مفردات العلاقة الجدلية القائمة بين عناصر المادة الثلاثة، ومن ثم فإنهم يحبذون مصطلح "التدافع"، وذلك استناداً إلى قوله تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة: 251)، وقوله: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 40). ومن وجهة نظرهم أن غاية التدافع تكمن في تحريك الحياة الإنسانية نحو الأفضل، وتحقيق التوازن المنشود لصالح قوى الخير التي تحكمها السنن الكونية والالتزام الواعي بمقاصد الشرع، مقابل الغرائز الدنيوية وهوى النفس اللذين يُعَّدان بمثابة القوى المحركة لقوى الباطل. إلا أننا نعتقد أن المفهوم العام للتدافع يجب أن يُوظف في إطار تراث الأنبياء، لأن الخطوط الفاصلة بين الحق والباطل في هذا الشأن خطوط واضحة. أما التعميم فيما عدا ذلك فلا يصلح، لأنه يؤدي إلى خلق صورة ضبابية في ذهن المؤرخ، الذي يعالج مفردات التاريخ البشري، وعلى وجه التحديد إذا كانت أطراف التدافع (أو الصراع) تمثل بعض شرائح المجتمع المسلم، التي تنطلق من خلفيات أيديولوجية متعاكسة، وأن كلا طرفي الصراع يعلنان أنهما على حق ويسيران وفق هدي الصراط المستقيم. وعليه فإننا نرى أن الاختلاف بين مصطلح "الصراع" الذي يستخدمه عماد الدين خليل، ومصطلح "التدافع" الذي يحبذه معارضوه هو اختلاف مقدار أكثر من أن يكون اختلاف معيار، وأن أوجه التوافق بين المصطلحين أكثر كثافة من القضايا الخلافية ذات النزعة المفاهمية.
ويتمثل المرتكز الفكري الثالث في إعادة تحقيب التاريخ العالمي العام، تعللاً بأن التحقيب الأوروبي الثلاثي لا يتسم بالشمولية، ولا يتوافق مع خصوصيات تواريخ شعوب العالم المختلفة، ولا يستمد شرعيته من أية إشارات نابعة من معارف الوحي (القرآن والسنة). وفي ضوء هذه الفرضية يقدم منظِّرو أسلمة علم التاريخ عدة أطروحات، يمكن أن تُصنَّف إلى ثلاثة مشروعات رئيسة. يتسم المشروع الأول، الذي يتبناه محمد قطب وعبد الحميد صديقي، بالثنائية في التقسيم، حيث يقسم تاريخ العالم ابتداءً إلى قسمين كبيرين: "تاريخ الأمم المؤمنة، وعلى رأسها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، التي ناط الله بها أداء تكاليف الرسالة الخاتمة بعد الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وتاريخ الأمم غير المسلمة، أي تاريخ الجاهليات". وفي إطار هذا التقسم يحقب محمد قطب تاريخ الأمم المؤمنة أو المسلمة إلى ثلاث فترات رئيسة، هي: "فترة التطبيق الفائق وما صاحبها من تمكين فائق، وفترة التطبيق العادي وما صاحبها من التمكين العادي، وفترة الانحسار وتزايد البعد عن حقيقة الإسلام، وما صاحبها من زوال السلطان وغلبة الأعداء". وأما فيما يخص "تاريخ الجاهليات" فنجده يكتفي بالإقرار بصلاحية التقسيم الأوروبي الثلاثي (قديم ووسيط وحديث)، بحجة أنّه يتوافق مع تاريخ الشعوب غير المسلمة. إلا أن خالد بلانكنشب ينتقد هذا التقسيم الثنائي ذي السحنة الانعزالية التي تميل إلى فصل تاريخ الأمة الإسلامية عن المجرى الرئيس لتاريخ العالم. وهذا التقسيم من وجهة نظره يتسم بضيق الأفق، ولا يعدُّ بديلاً أفضل للتحقيب الثلاثي الأوروبي. ومن ثم فإن بلانكنشب يدعو إلى تحقيب يجمع بين دفتيه تاريخ الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية، وذلك استناداً إلى النظرة القرآنية الشمولية لتاريخ الإنسانية، التي يمكن من خلالها تأسيس تحقيب إسلامي، يربو عن إسقاطات الموروثات العرقية، أو الدينية، أو الجهوية، ويضمن لنفسه المصداقية والصلاحية لكل زمان ومكان.
أما المشروع الثنائي الثاني الذي يتباه خالد بلانكنشب وأحمد إلياس حسين، فيحاول أن يُحقِّب تاريخ العالم العام إلى حقبتين تاريخيتين: إحداهما قديمة والأخرى حديثة، ويفصل بينهما القرن السابع للميلاد، فصلاً مرناً، له خصوصيته ومدلولاته المعنوية. فنقطة الانطلاق بالنسبة لبلانكنشب هي فكرة التوحيد، التي يعتبرها محصلة وسطى تقع في صميم الوجود البشري، وسعيه الدؤوب في سبيل الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك بخلاف المفاهيم الغربية المتعلقة بالإنسانية والتقدم البشري. ويرى بلانكنشب أن لهذا التقسيم محاسنه، لأنه يجعل البعثة النبوية نقطة البدء في تاريخ المسلمين الحديث، ويحقّب أيضاً للمفاصل المهمة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وتاريخ الفرس، والهنود والصينيين، واليابانيين، وحتى الأوروبيين الغربيين أنفسهم. وواضح من هذا العرض أن بلانكنشب يسعى جاهداً لتجاوز سلبيات حقبة العصور الوسطى، التي تبدأ بالقرن السادس وتنتهي بالقرن الخامس عشر للميلاد، بحجة أنها حقبة ذات مركزية أوروبية لا تستوعب خصوصيات كثير من تواريخ شعوب العالم، ومن ثم يفضل أن يجعل القرن السابع للميلاد خطاً فاصلاً بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث للعالم. إلا أن هذا التقسيم يخلق أيضاً مشكلة مماثلة بالنسبة للتاريخ الأوروبي، الذي تتوافق كلياته مع منظومة التحقيب الثلاثي. أما أحمد إلياس فيركِّز أيضاً على مفهوم التوحيد، الذي يتجسد في وحدة النوع الإنساني، ووحدة الحياة البشرية القائمة على مفهوم الخلافة ووسائطه النبوية، وبذلك يقر أن تاريخ البشرية هو تاريخ واحد. وفي هذا الإطار التوحيدي يقسم تاريخ العالم العام إلى "تاريخ الأمم الإسلامية قبل هجرة" النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة عام 622م، ويرمز إليه ب "التاريخ القديم"، الذي يبدأ بهبوط آدم عليه السلام من السماء إلى الأرض، وينتهي بهجرة محمد صلى الله عليه وسلم، باعتباره خاتم الأنبياء والرسل. أما القسم الثاني فيطلق عليه "تاريخ الأمم الإسلامية بعد هجرة" الرسول صلى الله عليه وسلم، وتغطي هذه الحقبة الفترة الواقعة ما بين بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والعصر الحاضر، ويرمز إليها بحقبة "التاريخ الحديث". إلا أن إشكالية هذا التقسيم الثنائي تكمن في أن مبدأ التوحيد القائم على وحدة الجنس البشري لا يقدم تحقيباً موضوعياً لأحداث التاريخ، لأن أفعال الأفراد والشعوب والحضارات تقف عند مفترق طريقين، إما أن تكون منسجمة مع نواميس الكون وسنن الحياة، وبذلك تجسد مفهوم خلافة الإنسان في الأرض، وإما أن تكون في حالة صدام مع نواميس الكون وسنن الحياة الربانية، وبذلك تكون في وضع مخالفة لمقاصد الشرع الإسلامي. ومآل هذه الأفعال المتباينة يوضحه قوله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَليمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (النساء: 173). إذاً مما لا ريب فيه أن هذا الاختلاف النوعي بين أفعال المسلمين وغير المسلمين يخلق عائقاً موضوعياً أمام فرضية أحمد إلياس القاضية بتحقيب تاريخ العالم العام إلى حقبتين تاريخيتين، إحداهما تمثل تاريخ الأمم الإسلامية قبل الهجرة، والأخرى ترمز لتاريخ الأمم الإسلامية بعد الهجرة. إضافة إلى ذلك فإن وضع الفترة المكية (610-622م) داخل إطار التاريخ القديم يخلق نوعاً من الاضطراب في ذهنية المؤرخ المسلم، ويجعله يتساءل عن المبررات الكامنة وراء وضع هذه الفترة المكية من تاريخ المسلمين خارج إطار تاريخ الأمة الإسلامية بمعناه الضيق.
أما المشروع الثالث فيشمل أطروحتي سيد علي أشرف ومحمد باقر الصدر. فالأطروحة الأولى تنطلق من فهم سيد علي أشرف القرآني للوجود وحركة التاريخ، حيث أنه يقسم تاريخ البشرية إلى ثلاث حقب رئيسة، تشمل الحقبة الأولى فترة تاريخ الأنبياء، الممتدة من آدم إلى محمد عليهما السلام، وتغطي الحقبة الثانية الفترة الواقعة بين تاريخ الخلفاء الراشدين وعودة المسيح عليه السلام، وتخص الحقبة الثالثة تاريخ الانحدار الخلقي الذي سيشهده العالم في الفترة الواقعة بين رفع المسيح للمرة الثانية وانطواء الأرض وما عليها. بالنسبة لأطروحة الصدر فهي أطروحة ثلاثية أيضاً، حيث أنها تقسم تاريخ العالم إلى ثلاثة حقب رئيسة، تتقدمها "مرحلة الحضانة" التي تبدأ بخلق آدم وحواء وتنتهي بهبوطهما من السماء إلى الأرض وبدء الحياة البشرية، وتليها "مرحلة الفطرة الواحدة" التي تسبق قيام المجتمعات المتصارعة مع بعضها بعضاً، وأخيراً تعقبها "مرحلة التشتت" التي تبدأ بعصر الصراعات الداخلية الطاحنة، وتنتهي بمجئ المهدي المنتظر، الذي يملأ الأرض عدلاً ومساواةً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.
وواضح من هذا العرض أن كلا المفكرين يستمدان إطارهما الفكري لتحقيب تاريخ العالم من خارج التراث التاريخي (أو العملية التاريخانية)، ويؤسسان فرضيتيهما على هدى بعض الموجهات التاريخية الواردة في القرآن، كما يزعمان. ومن ثم فإن تحقيبيهما يحملان بعض الإشارات المستقبلية، فمثلاً نلحظ أن سيد علي أشرف يرى في عودة المسيح عليه السلام حدثاً تاريخياً فاصلاً بين حقبة تاريخ الخلفاء الراشدين وما لحق بها، وحقبة التدهور والانحلال التي تعد من علامات يوم القيامة. وبينما يعتقد الصدر أن الحدث التاريخي الفاصل بين مرحلة الحضانة والوحدة الثانية هو ظهور المهدي المنتظر. وزبدة القول: إننا نتفق مع تريفة أحمد عثمان أنه لا توجد في القرآن إشارات واضحة وصريحة تؤكد ما ذهب إليه سيد علي أشرف أو ما تبناه السيد محمد الباقر الصدر فيما يخص الحقبة المستقبلية من تاريخ العالم العام، لكن هذا الاتفاق لا يمنعنا القول إنهما ربما أسسا هذه الفرضية على هدي تراث الشيعة الذي يحمل بين جنباته بعض الإشارات التي ارتكن إليها المفكران.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.