في تأملاتي، أو قراءاتي الناقدة والكاشفة في أطروحات الراحل الأستاذ محمد إبراهيم نقد – السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني - قد أثارت فيّ فضولاً لا يزال عصياً منذ مقالي المنشور سابقاً في هذه الصحيفة في عدد يوم الخميس الخامس من شهر أبريل الجاري تحت عنوان: «نُقد .. مفترق الصمت والكلام». ولا أزال أجد في قراءته سعادة في ما بذله من جهد معرفي أنواري في أسفاره الفكرية النقدية والتي تحفز المرء بمزيد من البحث والتعمق، وإلى بذل جهد ذهني في الشرح والتحليل والتعليل والتأويل في استكشاف العلاقات الدقيقة، والإشارات الوامضة في مكابدات الأستاذ محمد إبراهيم نقد غير المنظورة للعامة من الناس في التماسه المدهش بكل ما له بالمزاج السوداني الصميم سيما في اتجاهات الموجدات الصوفية التي تتصل خيوطها عنده بشكل موغل في الغرائبية... وهي واحدة من أكثر التجليات المكونة لأصول الفكر السوداني بلا ريب. وما هداني إلى تلك المعاني في آثاره المكتوبة هو تتبعي لكثير من مقولاته في أمر الدين والتدين برغم مسحة التجريد والتسامي التي تلازم تعبيراته وهو يقر بقدر من الثبات وأسلوب متميز من أول كلمة إلى آخرها وهو ينظر في مأثورات الإمام المهدي القائل فيها: * نحن رجال وهم رجال. * لكل حال وبلد وزمان ما يليق به. * لكل وقت مقام وحال، ولكل زمان وأوان رجال. وقال «نُقد» .. جرأة المهدي، توقد ذهنه، أنه اجتهد في عصر السلفية الآسن. وقال أيضاً عن المهدي: رؤاه للعدالة مستمدة من الكتاب والسنة. في تدافع وسجال ضارٍ مع العلماء المتعاملين مع التركية وخلافتها العثمانية، وظاهر النص في طاعة أولي الأمر منهم، وتكفير من ينسلخ عن الطاعة، وحد الحرابة على من يرفع راية العصيان، فرفعها، وعصى، وتمرد، وتوكل! ومن ثم يضيف شرحاً في متن الإمام المهدي: لكن بين تبشير الثوار وعهد الأصول مسافة، بيد دونها آباد، من ركام نظام القوى الاجتماعية الحاكمة ومصالحها وتشريعاتها وممارساتها، ومن الإرث الثقيل لفتاوى طاقم فقهاء البلاط التي تبرر، تجيز، تحلل، وتُضفي مسحة نورانية على مظالم ومصالح وتشريعات وممارسات الخليفة الجد، والخليفة الأب، والخليفة الابن، والخليفة الحفيد، والخليفة في الأجنّة والأرحام والساري في ظهور آل أبي الطيب المتنبي (في إشارة لبيت المتنبي في مدح كافور: فتىً، ما سرينا في ظهور جدودنا إلى عصره إلا نرجي التلاقيا إن الاشتغال النقدي التحليلي الذي مارسه محمد إبراهيم نقد في النصوص المأثورة عن الإمام المهدي، مع العلم أن تلك النصوص في قيمها العليا والموضوعية تمثل في تقديري روح التغيير التي امتلكت روح الإمام – وحسب عبد الله علي إبراهيم في كتاب الصراع بين المهدي والعلماء – إذ كان الدين يتعرض لمحنة قاسية انقسم فيها رجال الدين إلى متصوفة تقليديين أهملتهم الدولة وعلماء لهم الحظوة فيها.. وكانت منح الحكومة لرجال الدين تشيع فساداً في الحياة الدينية إذ تهافتوا عليها للدرجة التي أحست بها الإدارة التركية المصرية نفسها واتخذت من الإجراءات (الحديث لا يزال لعبد الله علي إبراهيم) ما يوقف سيل الرجاءات والالتماسات لتحصر تركيزها واهتماماتها على فئة العلماء. وكانت الحكومة تعلن الإيمان بالإسلام وتضطهد المسلمين وتسومهم العذاب، فيهجرون ديارهم ساخطين ضجرين. وأبرز إشارات الأستاذ محمد إبراهيم نقد في تحليل مضامين الخطاب المهدوي العام، جاءت في تقديري متسقة اتساقاً كلياً بما يتفق ويؤمن به هو نفسه من الأفكار الإصلاحية المتغذية بالروحانية الإسلامية في قوله: الثوار يحدوهم شوق تجديد الواقع، كنس الظلم، بسط العدل، تنقية الأفئدة، تطهير النفس، والانتقال للمستقبل عبر أصول الماضي، وبترخيص منها، اجتهاداً وتأويلاً، تعاملاً وتفاعلاً مع مستجدات اليوم ومتطلبات الغد، وإن تمثلوا الغد في صورة الماضي الأصل. وإن ما يستنتجه الناظر المتأمل في تلك المفهومات، فلن يعدو المرء الحقيقة في قوله بأن محمد إبراهيم نقد يماثل «جوهرانية» الفكر السوداني وفق منظوماته الاجتماعية، كما أن ما لا يمكن الشك فيه هي حقيقة إيمانه وإقراره العميق بحقيقة أن الدين مكون أساسي من مكونات وعي ووجدان وهوية شعبنا – حسب قوله في كتابه مبادئ وموجهات لتجديد البرامج – «خطل وقصور كل دعوة تنسخ أو تستهين بدور الدين في حياة الفرد والأسرة السودانية، وتماسك لحمة المجتمع وحياته الروحية وقيمه الأخلاقية وتطلعاته وأشواقه للعدالة الاجتماعية، وتأسيساً على ذلك استلهام قيم وتعاليم الدين لنصرة المستضعفين وحشد قواهم واستنفار طاقاتهم من أجل الديمقراطية والتغيير الاجتماعي». إن الوقوف على حواف أو متون نصوص محمد إبراهيم نقد يجد أنه يمثل مرحلة راقية من مراحل تطور الفكر السياسي السوداني، حيث تتداخل القوى العقلية وخفايا الوجدان الديني الصوفي في اجتراحات جديدة للمعرفة والإدراك لخصوصية الثقافة السودانية. فهو صاحب تفكير عقلي يتجاوز المعايير المادية، اتصالاً شفيفاً بالماورائيات في (القلب) أو (الحدس) أو (الذوق) وبهذه المعاناة وقف «نُقد» متبتلاً في محراب السياسة السودانية كحقيقة ظاهرة وباطنة وحالة لا يمكن أن تكون إلا سودانية المياسم أو القسمات. ذلك هو طريق العارفين حساً وعقلاً، حدساً وذوق في سياسة إجهاد النفس وترويضها في الهروب عن الدنيا وزيفها، فدخل إليها، وخرج منها ولا يملك منها شيء برغم البريق ونجومية الزعامة السياسية وما أقل الناجين في عرصاتها من الانهزام وانكسار الخاطر... إلا «نُقد» ويا سبحان الله «لا أرض، ولا زروع، ولا بيوع» فأي استعلاء هذا على الدنيا: «دنيا تخادعني كأنني لستُ أعرف حالها حظر الإله حرامَها وأنا اجتنبت حلالها مدّت إلي يمينها فرددتُها وشمالَها ورأيتها محتاجةً فوهبتُ جملتها لها ومتى عرفت وصالها حتى أخاف مَلالها» والمعنى واضح، كما الاستدلال عليه ظاهر وقريب، وهذا عند المتصوفة «حفظ العهد»: بمعنى الوقوف عند ما حدّه الله تعالى لعباده، فلا يفقد حيث ما أمر، ولا يوجد حيث ما نُهي. وتشهد الحياة السودانية العامة أن «نُقد» قد امتثلها «لسان صدق في العالمين»، ذلك من أمره في موجدات التصوف وامتثال قيمها العليا في أقصى حدود التبتل والصفاء الإنساني الذي لازمت مسيرته كل هذه السنوات. كزعيم للحزب الشيوعي السوداني، ممتثلاً سودانية صميمة العرفان في جوهرانية عالية الشفافية. أما ما استوقفني مرة أخرى، وأنا أتجول في أدبياته الفكرية هو منجزه النقدي في تأصيل الفكر الفلسفي العربي الإسلامي في مؤلفه «حوار حول النزاعات المادية مع حسين مروة»، وهي قراءة ناقدة في كتاب حسين مروة: «النزاعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» – أي النقد كمقولة ديالكتية – حسب محمد إبراهيم نقد (سلب – إيجاب)، (هدم - بناء) (نفي – إثبات) (نفي النفي)، الخلع – الغرس – يمزج العمليتين ويوحدهما في فعل واحد لا يفصل بينهما زمان ولا مكان ولا يحتاجان لعرف عطف يصل بينهما وصلاً ميكانيكياً في تتابع زمني أو تجاور مكاني. والكتاب يبرز قيمة «محمد إبراهيم نقد» في إطار مشروعه الفكري النقدي والسياسي وجهد من ضمن جهوده العلمية التي تستحق الوقوف عندها والتقدير له. والكتاب كما قال عنه محمود أمين العالم في تقديمه قائلاً: «لم أكن أتوقع أن يكون وراء هذا كله، هذا المفكر الكبير الذي يستوعب استيعاباً نقدياً عميقاً القضايا الأساسية للفلسفة الغربية والفلسفة العربية الإسلامية على السواء، والذي يعي المنهج الجدلي، هذا الوعي الذي يخلَّصه مما يصيبه في – كثير من الأحيان – من أمراض الجمود التي نتبينها لدى العديد ممن يتخذونه سلاحاً لفكرهم النظري ونضالهم العملي». والكتاب في مجمله يكشف عن وعي عميق في المجال المعرفي بامتياز المنهجية الجدلية كواحدة من أهم خصائص محمد إبراهيم نقد وميزاته والتي تلتمع في كتابه «حوار حول النزاعات المادية مع حسين مروة». والكتاب على صغر حجمه، غير أنه واسع في مساحات الحوار النقدي، ذاخر بتحليلاته المتميزة، وهو أمر يذكرني بقول الناقد «تيري إيغلتون» ضمن حديثه عن مفهوم الكلية الشمولي: إن مدى شمول تفكيرك أو عالميته لا يتوقف على السماكة التي تريدها لكتابك وإنما على الموقع الذي يحدث أن تقف فيه، وهو أمر لا يتغير أو ينقص إذا ما فضّلت الوقوف في موقع آخر. وهذا المعنى نفسه ممثلاً في محتويات كتاب «نُقد» وبأفكار كبيرة وقوية حيث إن الأهمية الحقيقية لهذا الكتاب – حسب محمود أمين – تكمن في الرؤية المنهجية الرحبة للمنهج الجدلي، ولحركة الواقع الموضوعي، وفي الاحترام العميق الجاد لمختلف الاجتهادات ولتنوع الخبرات الفكرية الإنسانية، وفي هذا الرفض الحاسم القاطع لكل تجميد أو قولبة لحركة التاريخ أو الفكر. غرز محمد إبراهيم نقد أدواته النقدية في رؤية حسين مروة، أو نصه المنجز «النزاعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» مجترحاً مقدمته الموسومة ب»مقدمتان ونتيجة» في كشف للمقدمة الأولى في المنجز – موضوع النقد – أو حيث الطرف البعيد المتباعد للجذور المعرفية للفكر العربي الإسلامي – حسب تعبيره الخاص – الضاربة في أغوار ماضٍ سحيق يتجاوز التحقيب المتواضع عليه في عصر التدين، والذي أخذ به مروة كمدخل لحدود التاريخ (والحديث لنقد) الذي ينطلق منه مسار مباحثه الفلسفية – أي جاهلية أولى، وجاهلية ثانية مداها القرنان الخامس والسادس بعد الميلاد. وشهدت الأولى مولد إبراهيم الخليل عليه السلام. وشهد الثلث الأخير للثانية مولد رسول الله نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعن هذا الانتقاء لمروة يقول محمد إبراهيم نقد ولا جناح على مروة في ما اختار، حيث أتقن وبحضور ذهني ومعرفة معالجة الحقبة الثانية رامزاً لها بمصطلح «ما قبل النظر الفلسفي» بانتقاء واصطفاء مستنيرين للظاهرات والحادثات والشواهد في منهجية متسقة، أفضت به في يسر إلى خلاصة، أن وعي تلك الحقبة كان يستكمل مقوماته لاستقبال فكرة التوحيد عبر مخاطر المجاهدة الذهنية وقلقها واضطرابها. ويمضي «نُقد» كاشفاً عن المعرفة بحدود الزمان والمكان ومراحل تطور الإنسان في الجزيرة العربية بمراحله المختلفة والتي وضعت العقل العربي في حالة التهيؤ والقابلية للتحول الكيفي العميق للقفزة الهائلة نحو التوحيد بشقيه الإيماني والمعرفي. وفي كل ذلك يستخدم «محمد إبراهيم نقد» تقنيات السرد وبخطوط بنيوية تستند إلى آيات القرآن الكريم، مما يؤكد عمقه في توليد المعاني، عبر التدليلات التوضيحية المستنتجة من وقائع التاريخ عبر ذلك المدى، وكيف خلاله تزامنت فكرة التوحيد، ومفهوم التوحيد وبذرة النظر الفلسفي كخلفية تاريخية لمسار الفلسفة العربية الإسلامية. امتاز «نُقد» في إنجاز كتاب يُعدُّ نموذجاً للقراءة التحليلية، التفكيكية، التفسيرية في بُنىً تأويلي هادف في منهج طوع فيه أدوات التشريح النقدي للنصوص في أقصى حدود الممكن. وما يلحظه المرء في الكتاب نفسه أن الحِرفية الحاذقة المتوفرة لدى محمد إبراهيم نقد مكنته من أن يؤسس حوار مع حسين مروة قائم على حقول معرفية متعددة المشارب، قادرة على كشف الخفايا والمنعرجات في التاريخ العربي الإسلامي، خاصة فيما بلوره من معاني وتصورات في مسألة «الوعي المعاق» – وفق مفرداته الخاصة – الساري في ظهر العقل العربي الإسلامي من ظلاميات عصر الانحطاط، المنسرب ومتخلل مسام الحديث، حنطته تشوهات ازدواجية مصادر الثقافة ومناهج التعليم: مؤسسات التعليم السلفي التقليدي ومنابره، ومؤسسات التعليم النظامي الحديث الوافد، فانسدت مسارب التفاعل الشعري والتناضُح. ذلك قول في تقديري، هو نوع من المراجعة النقدية الخلاقة، أجراها محمد إبراهيم نقد في ضوء ما أثاره من تعليقات وانتقادات، واقفاً على مواطن القوة والضعف في نتاجات «حسن مروة» بهدف مجانسة الأفكار والمفاهيم المتجلية والواقع العربي الإسلامي. محمد إبراهيم نقد وبهذا المنجز الفكري، وغيره من المنجزات يمثل وبممارسته المبدعة فعل شخص ينتمي للجيل الراشد في السودان ومركز الثقل الفكري.