عندما يقول المسلم بسم الله عند شروعة في أي شئ، من كلامه وأعماله وحركته وسكونه، فإن ذلك يعني أول ما يعني أنه إنما يقوم بكل ذلك، لأن الله تعالى قد أذن له بالقيام به، وشرعه له وأمره به وأحله له، فهو أمر محبوب لله تعالى مرغوب فيه منه، على حسب درجته فرضا كان أو ندبا أو حلا. فما لم يأذن به الله لا يمكن أن يقوم به المرء باسمه، وما لم يشرعه الله لا يمكن أن يستفتحه المرء باسمه. فالحاق اسم الله في بداية العمل، إعلان واضح وتصريح ظاهر، أنه يستمد الشرعية من الله تعالى، لا من غيره ممن يستمد الناس شرعية أعمالهم وكلامهم منهم. فما أكثر ما يستمد الناس شرعيتهم للقيام بشئ أو صلاحيتهم للنهوض به، من ملك أو رئيس أو شعب، فيعلنون في بدء ذلك انه باسم الملك أو باسم الرئيس أو باسم الشعب. وأحق من تستمد الشرعية منه ويستصدر الإذن منه الله تعالى، وأحق من ينبغي أن يستصحب إعلان مشروعيته عند البدء، من كان بيده الامر كله، فكل من كان دون الله تعالى لا يملك أمرا ولا إذنا في حقيقة الأمر، وأمرهم حين يكون موافقا لأمر الله تعالى ومشروع منه، فالله هو صاحب الأمر حقيقة، وهم تبع لأمره من بعده. فيرجع الأمر إلى مرجعه ومصدره الأصلي بقول باسم الله، ثم يضاف لمن بعده لمن أراد أن يستزيد. ولعل من هذا القبيل ما أعلنته ملكة سبأ حين تلقت خطاب سليمان النبي الملك عليه السلام، فقالت: "يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرٍيم، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ." فأعلن في بداية الخطاب أن ماتضمنه من طلب مأمور مشروع به من الله تعالى. من أوضح معاني بسم الله التي تذكر في أول كل شئ، أن المرء يتجرد من الحول والقوة، ومن الحيلة والقدرة، ومن الاعتماد والثقة بالأسباب. ويعلن ضعفه وعجزه، ويقر ان ناصيته بيد خالقه، وأنه القيوم على كل شئ، القادر على كل شئ، وأن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن. فحينئذ يقول صدقا مقرا باسم الله، مستعينا به على قضاء ما بدأه، وإنجاز ما سعى له، وإكمال ما شرع فيه. ومتوكلا عليه وحده، ومعتمدا عليه وحده. هذه معاني الاستعانة والتوكل التي يتضمنها بسم الله، قال القرطبي: " فمعنى بسم الله ، أي بالله. ومعنى (بالله) أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه". وهي بعض ما جاء على لسان نوح عليه السلام، حين قال للمؤمنين معه حين ركبوا السفينة، مؤملين النجاة بها من الطوفان العظيم: "وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ". حين يعلن المرء في شروعه في بداية ما يشرع فيه من كلام أو عمل، أنه أنما يتوجه فيه باسم الله، فهو يعني أن الباعث له والدافع الذي يحركه له، إنما هو قصد الله والرغبة فيه، والرجاء فيما عنده. هذا الإخلاص من أعظم ما ينبغي أن يحيط بقول المرء بسم الله، وإلا كان كاذبا إن ادعى أن عمله باسم الله، وهو في حقيقته ليس لله بل لغير الله، وليس من أجل الله بل من أجل ما يرغب فيه الناس من جاه أو تعظيم أو غير ذلك من رغائب الدنيا. فإذا خرجت بسم الله محفوفة بهذه المعاني، ومحاطة بهذه المشاعر، أثمرت إن شاء الله ثمرتها، وتكاثرت بركاتها، وإلا كان السعي خائبا خاسرا، والعاقبة ممحوقة البركة قليلة النفع. وقد جاء في الحديث: " كُلّ أَمْر لَا يُبْدَأ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم " فَهُوَ أَجْذَم"، يعنى مقطوع مبتور الصلة بالله، قليل البركة والنفع. ولهذا شرع قول بسم الله عند الشروع في كل شئ. قال القرطبي: ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل؛ كالأكل والشرب والنحر؛ والجماع والطهارة وركوب البحر، إلى غير ذلك من الأفعال؛ قال الله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه . وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله . وقال لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا . وقال لعمر بن أبي سلمة يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل ما يليك وقال: إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه وقال: من لم يذبح فليذبح باسم الله . وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلمك ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة [بالله] وقدرته من شر ما أجد وأحاذر . هذا كله ثابت في الصحيح. وروى ابن ماجة والترمذي عن النبي صلى الله علي وسلم قال: ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله . وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى، ثم يفرغ الماء على يديه.